د. حسين الهنداوي.
تقديم:
هل أن فكرة إبن خلدون بأن للدول والإمبراطوريات أعمار طبيعية كأعمار الأشخاص (تولد و تزدهر، ثم تهرم فتموت)، هي قدر الإمبراطوريات العالمية السابقة بما فيها العثمانية؟ وهل يمكن شمول الدول العظمى في العصر الحديث البريطانية والفرنسية وحتى السوفييتية بذلك؟ و هل هي أيضًا قدر الإمبراطورية الأمريكية الحالية كما نعتقد؟
أن كافة الإمبراطوريات ساهمت في التقدم الحضاري للإنسانية بشكل أو آخر بدءًا بالإمبراطورية الأكدية وحتى الإمبراطورية الأمريكية الحالية. إلا أنها، وهذه حتمية في
نظرنا تنهار دائمًا لنفس الأسباب: التمادي في غرور القوة وتقديس النزعة الحربية وتبرير الغزو والفتك بالآخر ما يؤدي إلى تحميل شعوبهم ومواردهم أكثر من طاقاتهم
ماديًا ومعنويًا، كما تؤدي إلى جلب نقمة الشعوب المحتلة عليهم كشعب معتدي بأكمله، بينما يفضي الإسراف في القسوة إلى تفاقم نزعة التفوق مقابل تراجع القيم الإنسانية من جهة، والى الإغراق من جهة أخرى، في العناية بفنون الحرب والتدمير والإنتقام على حساب فنون السلم والبناء والتآخي. وعلى العموم، أن علائم دخول الإمبراطوريات والدكتاتوريات القديمة والحديثة في مرحلة الإحتضار المحتم هي:
- ترهل ونفاذ الرصيد السياسي الإيجابي بجانبيه الفكري والميداني، وإستهلاك القيم الأخلاقية والإنسانية التقليدية.
- تأزم الأوضاع الإقتصادية والمالية بشكل يتعذر معه معالجتها بالطرق المتاحة.
- شيخوخة المؤسسات الديمقراطية التقليدية ونضب المخيلة في هذا الشأن أو
تعطلها. - ضغو ط شبح جسامة الخسائر البشرية المتراكمة المترتبة عن الحروب والإعتداءات
العسكرية السابقة . - إفلاس المؤسسة الدينية وتشرذمها وفقدان ثقة المجتمع لا سيما الأجيال الجديدة
بها . - تكاثر الأقوام والشعوب والجماعات المعادية أو الناقمة وإزدياد خبرة الخصوم
والمنافسين وإكتشافهم لوجود مصلحة مشتركة للتحالف معًا. - تسويغ مبدأ التعاون مع الأعداء لدى قطاع مهم من الخصوم السياسيين.
- تبرير فكرة الخيانة لدى بعض كبار القادة العسكريين المنشقين.
إن هذا هو قدر كل دولة وإمبراطورية راهنة أو مقبلة بصرف النظر عن الأزمنة
والأمكنة والأديان والأعراق والألوان..
جدلية الحياة والموت:
تغري التجربة التاريخية لعدد من دول و إمبراطوريات العالم القديم الشرقية والغربية على
حد سواء (أشورية، بابلية، اخمينية، مقدونية، رومانية، اموية، صليبية، مغولية…الخ)،
بإعادة قراءة و تأمل السمات والحيثيات العامة لمراحل تطورها الممتدة بين مرحلتي الولادة و الزوال، وتسلسل كل مرحلة منها وخصوصيتها ضمن المسار العام للتاريخ البشري، بهدف استخلاص “العبر” و”الدروس” النظرية الكبرى منها، على ضوء منظورات “فلسفة التاريخ” بتياراتها المتعددة التي تعنينا، ونتبنى بعض مفاهيمها بطريقتنا، بشأن تسلسل الأطوار الطبيعية لحياة الدول و هو تسلسل مؤسس أو قائم، كما عند إبن خلدون أو هيغل،.. على مبدأ أن الإمبراطورية او الدولة، كالكائن الحي، تولد وتكبر، ثم تزدهر وتهيمن، ثم تهرم وتفسد، وأخيرا تموت، و مثل ذلك عصبياتها التي هي “روحها”، لتولد
من وعلى انقاضها امبراطورية جديدة، بعصبية جديدة، وهكذا دواليك.

فالتاريخ الخاص بكل شعب او “أمة” هو سلسلة متعاقبة من الدول والعصبيات، تمر كل واحدة منها في ذات الدورة التطورية التعاقبية المذكورة اعلاه، فيما يتشكل التاريخ البشري العام من سلسلة دول او تشكيلات تتوالى و تتواصل بشكل حتمي، في اطرها الموضوعية الملموسة، وحيث كل دولة تولد في رحم الدولة السابقة عليها وتقتات من رحيقها ثم تزيحها، فتزدهر وتهيمن قبل ان تشيخ وتبلى وتدفن دافعة ثمن هذه السيرورة من التطور، هي ايضا في خضم هذا المصير الكوميدي-التراجيدي القاهر والشامل للجميع دولاً وامبراطوريات وعصبيات. فالتاريخ مصنوع بأيدي البشر.. لكنه ليس مصنوعا بوعي او ارادة منهم بل بإرادة قوة ما خارج إرادتهم وكذلك سياقاته وحيثياته اليومية الملموسة.
المدهش، عبر قراءة للتاريخ بأثر رجعي هنا، ان اإلمبراطورية البابلية الحديثة (وتسمى الثانية ايضا) كان لها، على صعيد التاريخ الفعلي، العمر الطبيعي للأشخاص تقريبا،نحو قرن فقط، بين ولادتها في حوالي 627 ق.م، على يد الزعيم البابلي الكلداني القوي والطموح نبوبالصر (605-658 ق.م)، و بين انهيارها المأساوي المثير والنهائي في عام 539 ق.م، امام قوة وعصبية اجنبية زاحفة بقيادة احد اتباعه سابقا هو الملك
كورش الكبير (529-560 ق.م) الزعيم الفارسي الأخميني الذي اقام مثله، و من لا شيء أيضا امبراطورية عالمية مترامية الأطراف امتدت من البلقان في قلب اوروبا الى نهر السند في قلب آسيا مرورا بآسيا الصغرى وسوريا ومصر وبلاد الرافدين مجتازة نفس مسار التطور الذي تقدمه النظرية الخلدونية للدولة، قبل ان تتحطم، هي الأخرى كالهشيم وبشكل نهائي، امام قوة وعصبية اجنبية زاحفة كالإعصار هي أيضا بقيادة الإسكندر المقدوني الذي سيبني بدوره امبراطورية عالمية أوسع واعظم، الا انها ستقطع نفس ذلك المسار القدري نحو ازدهارها ثم نحو فسادها فانهيارها المأساوي لتعقبها على نفس المسار الإمبراطورية الرومانية، فالأموية فالعباسية وهكذا دواليك..
وبالفعل، ففي مرحلتها الأولى عرفت الإمبراطورية البابلية الحديثة على يد مؤسسها نبوبالصر نموا مضطردا على مسرح التاريخ الإقليمي والعالمي استمر نحو ربع قرن، ثم عرفت مرحلة ازدهار عظيم على كافة الأصعدة تحت قيادة ابنه نبوخذ نصر(634 – 562 ق.م) لتصبح لحوالي خمسة عقود من الزمن اهم امبراطورية في العالم القديم،
قبل ان تدخل حال وفاته، في مرحلة تراجع وخمول، اعقبها تدهور على كافة الأصعدة تقريبا، تلاه تآكل بطيء نسبيا قبل أن تنهار كليا خلال فترة زمنية استمرت نحو ربع قرن أيضا توالى على العرش خلالها اربعة ملوك ضعاف من ورثته قتل احدهم الآخر ليختم المشهد بزوالها نهائيا في عام 539 ق.م، في معركة بلا قتال في الواقع مع
اتباع كورش.
وهكذا، فقول ابن خلدون في “المقدمة”، «أن كل دولة لها حصة من الممالك والأوطان لا تزيد عليها»، يصدق على هذه الإمبراطورية البابلية الحديثة وقبلها على
الإمبراطوريات الآشورية والفرعونية وبعدها الأخمينية فالمقدونية.. الخ، كما على غيرها من التشكيلات المماثلة بما فيها الحديثة والمعاصرة في رأينا والتي تحتاج الى دراسات معمقة ورصينة بداهة كالإمبراطورية العثمانية والإمبراطورية السوفييتية و الإمبراطوريات الإمبريالية البريطانية والفرنسية وحتى الأمريكية.. مع فوارق شكلية او طفيفة.
وكذلك قوله ان لكل دولة عمراً معينا بدقة، لا تستطيع زيادته، هو في الجوهر، عمر عصبيتها الخاصة، التي مثلما لدى الكائن الطبيعي، تنتقل من مرحلة الطفولة إلى مرحلة الشباب ومن هذه إلى الرجولة، فالكهولة، فالموت. اذ ان «الدولة لها أعمار طبيعية، كما الأشخاص» و ان هذا العمر محدود بمائة وعشرين سنة تقريبا
ثلاثة مراحل أو أجيال، هي مرحلة الوالدة والنشوء، تليها مرحلة القوة والإزدهار، ثم
تأتي، بعد هذه، مرحلة الفساد والإنقراض.
وأيضا يتوزع عمر الإمبراطورية البابلية الحديثة البالغ نحو قرن (627 – 539 ق.م) الى ثالثة مراحل او اجيال هي مرحلة نبوبالصر أولاً، فمرحلة نبوخذ نصر، ثم مرحلة
اميل مردوخ/نبونائيد، قبل السقوط المدهش لتلك الإمبراطورية اثر هزيمها العسكرية امام قوات كورش في معركة أوبيس، وهو العمر الذي عناه ابن خلدون بقوله “ولا تعدو أعمار الدول في الغالب ثلاثة أجيال من البشر”، وان هذه االجيال تتباين في ما بينها كما يلي:
الجيل الأول، لم يزالوا على خلق البداوة، وخشونتها وتوحشها، من شظف العيش والبسالة والإفتراس والإشتراك في مجد بنائها… والجيل الثاني، تحول حالهم، بالملك
والترّفه، من البداوة إلى الحضارة ومن الشظف إلى الترف والخصب… فتنكسر سورة العصبية بعض الشيء، لكن يبقى لهم من ذلك بما أدركوا الجيل الاول. وأما الجيل
الثالث، فينسون عهد البداوة والخشونة، ويفقدون حال العز والعصبية، بما هم فيه من ملكة القهر… وتسقط العصبية بالجملة… حتى يأذن الله بانقراضها، فتذهب الدولة بما حملت.
وبالطبع، لا يقتصر هذا التماثل على الطابع الخارجي لأطوار الحياة الطبيعية للدولة، إنما يمتد ليشمل المضمون العام لكل من لحظات السيرورة تلك. إذ إن الدولة حسب
ابن خلدون »تنتقل في أطوار مختلفة وحالات متجددة، ويكتسب القائمون بها، في كل طور، خلقا الدولة من أحوال ذلك الطور، لا يكون مثله في الطور الآخر… وحالات
وأطوارها، لا تعدو، في الغالب، خمسة أطوار متشابكة. الطور الأول: طور الظفر بالبغية وغلب المدافع الممانع، والإستيلاء على الملك وانتزاعه من أيدي الدولة السالفة قبلها…
الطور الثاني: طور الإستبداد على قومه والإنفراد دونهم بالملك… الطور الثالث: طور الفراغ والدعة لتحصيل ثمرات الملك، مما تنزع طباع البشر إليه، من تحصيل المال
وتخليد الآثار وبعد الصيت، فيستفرغ وسعه في الجباية وضبط الدخل والخرج وإحصاء النفقات والقصد فيها، وتشييد المباني الحافلة والمصانع العظيمة والأمصار المتسعة والهياكل المرتفعة… وهذا الطو ر هو آخر أطوار الإستبداد من أصحاب الدولة… الطور
الرابع: طور القنوع والمسالمة… الطور الخامس: طور الإسراف والتبذير، ويكون صاحب الدولة، في هذا الطور، متلفا لما جمعه أولوه.. مخربا لما كان سلفه يؤسسون، وهادما لما كانوا يبنون، وفي هذا الطور، تحصل في الدولة طبيعة الهرم، ويستولي عليها المرض المزمن إلى أن تنقرض.
المصير المفجع لإمبراطورية زاهية:
لقد لاحظنا في دراستنا عن “الدولة والتاريخ ما بين أبن خلدون وهيغل”، ان فكرة ابن خلدون في “المقدمة” التي تنص على ان »الدولة لها أعمار طبيعية، كما
لألشخاص«، نجدها عند الفيلسوف األلماني فريدريك هيغل بصيغة تكاد تكون خلدونية تماما. إذ وبموجب مفهومه الخاص بالمراحل الرئيسية للتاريخ الكوني، يعتمد هيغل تقسيما يطبقه على كل دولة فعلية، يميز فيه، بوضوح، بين أربع مراحل مختلفة في سيرورة تطور هذا أو ذاك من المبادئ الخاصة والمحدودة من مبادئ الروح الكو ني، ويأخذ الشكل التالي بكلمات هيغل: »إن روح شعب ما، هي كالفرد الطبيعي. وبصفتها هذه، فهي تزدهر وتتعزز، ثم تنتصر، ثم تضعف وتموت« )”العقل في التاريخ” بالفرنسية ص89(. وعليه تقتصر أطوار حياة الدولة في المنظور الهيغلي على الأطوار الأربعة التالية:
1- طور ولادة الدولة وانطلاقها، الذي لا تكون فيه »روح الشعب« قد بلغت بعد مرحلة الوعي التام لما تهدف إليه، الا ضمنيا، انما تقتصر على الشعور بضرورة
النشاط، وتتحرك تحت شكل نزوع طبيعي غامض، لا يعرف الا غايات حقيقته المحددة.
2- طور الشباب والرجولة، حين تبلغ الدولة تحقيق الهيمنة والإزدهار وكافة الإنتصا ارت الأخرى. ففيها يصبح المبدأ جلياً وخلاقاً، وينزع إلى صيرورته كغاية. لذلك،
فهو »أجمل الفترات«، ومرحلة »شباب ذلك الشعب«.

3- طور الكهولة والهرم، الذي تفقد فيه الدولة حيويتها السابقة، كما تبدأ العقبات أمامها بحماية المنجزات التي حقق الفترة التي تبدأ فيها نهاية وصايتها التاريخية على الشعوب الأخرى، لمصلحة ضرورة انبثاق دولة جديدة، تحمل مبدأ أسمى، وتحت قيادة شعب تاريخي جديد.
4- طور المصير المفجع، الذي هو موت الدولة وانقراضها.
هذا التعاقب في الأطوار الطبيعية للدولة لا يتعلق بتوالي سلسلة من المراحل الإجتماعية أو السياسية أو الأنماط الحضارية، إنما هو تتابع لمستويات في قوة الرابطة الجماعية، التي تقوم بفضلها الدولة. فكما أنها مرتبطة بدرجة قوة »العصبية«، عند ابن خلدون، او بـ”روح الشعب”، عند هيغل، او بالروح القومية او الصلة الطبقية عند غيرهم، فأن سقوط امبراطورية ما، يفضي، بالضرورة، إلى قيام امبراطورية أخرى جديدة، كما أن انهيار الإمبراطوريات ليس
حدثا عرضياً إنما هو نتيجة حتمية لمنطق التطور عينه على صعيد حياتها الطبيعية. و إن تتابع صيرورة او تطور حياة الإمبراطوريات، بين طوري الوالدة والموت، وكالأشخاص الطبيعيين، يظل مستمراً على نطاق التاريخ البشري ككل، وهو يبدو بمثابة تتابع مستقل بذاته، وميكانيكي إلى حد كبير، ومحلي و عالمي في ذات الوقت، إلى درجة يتوجب على كل عصبية أن تمر في التجربة التلقائية نفسها، لبناء الإمبراطورية الخاصة بها.
ولئن بدا التقدم في التاريخ الكوني لإلمبراطوريات القديمة محدوداً وبطيئا،ً فذلك لأن هذا التاريخ يقتصر، في واقع الحال، على سلسلة انتقالات منفصلة عن بعضها
البعض وتدميرية في اغلب األحيان، وبالتالي لا تحكمها عالقة التراكم، إنما عالقة القطيعة الدورية التي تظل في جوهرها انتقلات تقدمية في الوعي الإنساني بالضرورة
ولو بنسب متفاوتة. إذ كلما نجحت “عصبية” ما في بناء امبراطورية تحقق الإزدهار والهيمنة على العصبيات الأخرى، ستجد نفسها، بعد زمن محدد، آيلة هي ايضا إلى
الإنقراض ومنجزاتها الى الضياع، بفعل تناقضاتها الداخلية اولا، ثم إلى الفساد والاندثار، وكذلك دولتها، تحت أقدام عصبية جديدة، دخلت التاريخ بدورها لبناء امبراطوريتها
الخاصة. وهذه القطيعة الحتمية، لا تقتصر على الامبراطورية، بل تشمل الحضارة أيضا ولو بحدود بحكم ضعف روابط التبادل والتواصل بين مجتمعات إنسانية محكومة بالطبيعة الحربية الغالبة على امبراطورياتها الخاصة. فما عدا تأثيرات وتبادلات حضارية ضئيلة نسبيا، لم نجد ان الإمبراطوريات المتعاقبة ورثت او اخذت الكثير من منجزات الحضارة السابقة عليها، بل اقتصرت على ما يتسرب اليها عبر الغزوات والحروب والتجارة او تجد نفسها محتاجة له او مرغمة على تقليده. فالتجربة السياسية للبشرية، ليست حركة واحدة، في التحصيل الأخير، إنما شبكة حركات متوازية، يمكن أن يتواجد بعضها إلى جانب البعض الآخر في التاريخ، دون تواصل أو تناقض، إلا خارجياً وعرضياً وهذا بفسر ضياع الكثير من المكاسب الحضارية على مجرى التاريخ. لكن وعلى العموم، لا قطيعة فعلية بين الحضارات، مهما كانت المظاهر التي توحي بوجودها. لكن هناك استمرارية كونية لها كما لظاهرة الدولة وتطورها. اما التعبير الملموس عن أطوار حياة الإمبراطورية البابلية الحديثة فهي تعاقبت خلال نحو قرن من عمرها وكما يلي:
طور الوالدة:
ولدت الإمبراطورية البابلية الحديثة كأهم نتائج حلول أوان زوال الإمبراطورية الأشورية والذي كان من مقدماته اندالع ثورات داخلية ضدها في معظم اقاليمها فور وفاة امبراطورها الأعظم آشور بانيبال )627-685 ق.م( الذي لئن نجح بلا ريب في إقامة امبراطورية مرهوبة الجانب وشاسعة، لم ينتبه الى ضرورة ترصين أسسها وبناها الداخلية وتوفير أسباب ديمومتها وازدهارها بل جعلها عسكرية حربية وكذلك حضارتها، ولذا بدأت عليها مظاهر الهشاشة والترنح حال موته، الى حد عجزت جيوشها الجرارة عن حماية مركزها الديني مدينة آشور وعاصمتها الزاهية نينوى قبل ان تخسر في 610 ق.م آخر مدنها المهمة حرََان.
ونرى، مع المؤرخ وعالم الآثار الموسوعي الرائد طه باقر، ان من أسباب سقوط الإمبراطورية الآشورية تمادي ملوكها، ولا سيما آشور بانيبال، في سياسة الفتح والغزو
والإغراق في النواحي العسكرية و تقديس الروح الحربية نظرا الى ان أعوام حكم ملوكها تكاد تكون حروباً متواصلة، وبذلك فقد حملوا شعوبهم ومواردهم فوق طاقاتها، ومدوا فتوحاتهم إلى جهات نائية يتعذر الإحتفاظ بها، ولعل أوضح مثال على ذلك فتح مصر الذي أنهك ماكنة الحرب الآشورية عدة سنوات. ويضاف إلى ذلك إن الركون الى سياسة القسوة والتدمير والقتل الجماعي التي سار عليها الملوك الآشوريون في غزواتهم جرت على الآشوريين كشعب باكمله، نقمة شعوب البلدان المفتوحة وسخطها فيما لم يكن ليحصل ولاؤها وتبعيتها لهم إلا باستمرار الإرهاب والبطش إلى حد الإسراف.. كما تسبب التطرف والإغراق في العناية بفنون الحرب والفتك والدماء على حساب فنون السلم والبناء بإهمال تطوير موارد البلاد وتحميلها فوق طاقاتها.

وهكذا فقد وجد البابليون انفسهم فــي وضــع ملائم لنهوضهم لإقامة مملكة مستقلة خاصة بهم لا سيما وقد تزامن ذلك مع ظهور زعيم تاريخي نادر الدهاء والجرأة والطموح بينهم هو نبوبالصر، الحاكم المحلي السابق لإقليم “بلاد البحر” )االهوار(، وحفيد احد ملوكها ربما، و الرئيس المهاب لتحالف قبائل كلدو آرامية كبيرة وقوية ومتحصنة بقلاعها في جنوب “بالد سومر واكد” منذ القرن التاسع قبل الميلاد وكانت قد قدمت اليه من شبه الجزيرة العربية في الأصل على الأغلب. فقد سارع هذا القائد الكلداني الى اعلان نفسه حاكما لمنطقة قومه أولاً، ثم وسع سيطرته لتشمل معظم الأقاليم المجاورة قبل ان يقود حربا ضد الآشوريين اسفرت عن فتح عدد من مدن بلاد الرافدين الرئيسية لا سيما الوركاء ونفر وبورسيبا وسيبار قبل استيلائه على بابل العاصمة الجنوبية لامبراطورية الآشورية والتواقة الى الإستقلال من قبل منهيا وجود تلك الامبراطورية في جنوب العراق تماما. وامام تفاقم ضعف الإمبراطورية الآشورية نجح نبوبالصر باحتلال اشور العاصمة القديمة لامبراطورية الاشورية والتي كانت مركزا دينيا مقدسا كما احتل عاصمتها نينوى ثم بــلاد الــشام لمـا كانت تـشكله مـن اهميـة اقتـصادية واستراتيجية لبابل مهاجما القوات
المصرية فيها مرغما المصريين على الإنسحاب من كل المنطقة والإكتفاء بإثـارة الفـتن والإضـطرابات ضد البابليين فيها وبتحـريض الـدويلات المحلية ومنها مملكة يهـوذا على التمرد كلما امكن ذلك، مـا دفـع نبوبالصر الى ارسال ابنه نبوخذ نصر الثاني على رأس حملة عـسكرية تكللت باحكام الــسيطرة علــى المنطقـة والقضاء على مملكة يهوذا واخذ ملكها وعدد كبير من قادتها اسرى الى بابل.
آخر امبراطورية بابلية..
الأخطاء والتناقضات الداخلية هي دائما سبب انهيار الامبراطوريات. فعند وفاة نبوخذ نصر الثاني في 562 ق.م، كانت بابل إمبراطورية عظيمة من البحر الكلداني )الخليج(
الى الحدود المصرية، و أعظم مدن العالم جماال وحضارة بشهادة هيرودوت. لكن و حال وفاته دخلت مرحلة انهيارها لأسباب لم تخطر على باله قط: صراع دموي على السلطة بين الأبناء و الأصهار، وتفوق مصالح طبقة طفيليات القصر والعسكر على مصلحة المجتمع، واستفحال دور المؤسسة الدينية الرسمية، وتناحر ديني داخلي على خلفية صراع على السلطة والثروة، و خيانة بعض كبار القادة العسكريين وتواطؤهم مع العدو الأخميني كورش الذي لم يصدق ان تسقط تلك الإمبراطورية العظيمة كالخشخاشة اليابسة بين يديه.. وعمليا دون قتال..
ازدهرت الإمبراطورية البابلية الحديثة عسكريا وعمرانيا وحضاريا خلال الفترة ما بين منتصفي القرنين السابع والسادس ق.م، وتحديدا ما بين تنصيب مؤسسها نبوبالصر
ملكا على بابل في حوالي 630 ق.م، وبين وفاة ابنه نبوخذ نصر الثاني في 562 ق.م، الذي اعتبر باني مجدها وأحد أقوى ملوك بلاد الرافدين والعالم القديم.
فعسكريا تحولت بابل “من منطقة تحت سلطة الإحتلال الآشوري إلى إمبراطورية عظيمة” كما قال المؤرخ البابلي بيروسا المدافع عن مجد تلك الأمبراطورية التي امتدت هيمنتها حتى خارج حدودها العسكرية من البحر الكلداني )الخليج العربي( الى الحدود المصرية.
وبالفعل وحتى قبل أن يصبح ملكا خاض نبوخذ نصر الثاني عدة معارك ظافرة ضد بقايا الدولة الآشورية المدعومة من الملك المصري نخاو الثاني ثاني ملوك الأسرة
السادسة والعشرين )525-664 ق.م( وخاصة معركة كركميش في شمال سوريا التي وقعت في عام 605 ق.م. وألحق فيها الهزيمة بالآشوريين وحلفائهم المصريين معا بل واصل مطاردة فلول الجيش المصري بعدها حتى داخل الحدود المصرية لكنه قفل عائدا الى بلاده متجنبا دخول مصر في اعقاب معركة كبرى مع جيش نخاو الثاني في عام 601 ق.م تكبد فيها الطرفان خسائر كبيرة. وهكذا، وبعد ان احتل نبوخذ نصر عاصمة الآشوريين نينوى، تمكن مع احتلال دولتهم الجديدة في حران، لتتوقف الإمبراطورية الآشورية عن الوجود وينتهي التدخل المصري في بلاد الشام فيما تمكنت بابل من السيطرة على كافة المناطق التي كانت تابعة للمصريين فيها، اذ قام بدخول أورشليم )القدس( مرتين الأولى في سنة 597 ق م والثانية في سنة 587 ق.م، و فيها قضى على مملكة يهودا واخذ بعض سكانها اسرى الى بابل بعد اتهامهم بخيانة تعهداتهم له وإقامة حلف مع المصريين ضده ما عمق ضغينة اليهود ضده وعلى إمبراطوريته التي امتدت الى كل شرق الأبيض المتوسط.
وهو ما دفعهم دائما الى التحالف مع أعداء البابليين لا سيما الأخمينيين في عيلام.
اما عمرانيا، فبابل غدت في فترة حكم نبوخذ نصر اهم مدن العالم المتحضر وأكثرها جمالا بشهادة هيرودوت. فقد ازدهرت التجارة والزارعة والعلوم والفنون والآداب والفكر. كما انجز هذا الملك الطموح أعمالا تاريخية واصلاحات كبرى منها إنشاء نظام اداري اعتبر الأكثر تطورا في العالم في زمنه، واعاد تشغيل شبكة القنوات المائية المخربة من قبل في معظم المدن البابلية وخاصة بابل، فضال عن تشييد “الجنائن المعلقة” التي عدها هيرودوت “احدى عجائب الدنيا السبع القديمة”، فيما ذكر أن بابل كانت المدينة الوحيدة التي تتمكن العربات من السير على اسوارها حيث كان نبوخذ نصر قام بتشييد سورا متينا بين نهري دجلة والفرات، لحماية عاصمته من الغزوات الخارجية قبل وصولها فضلا عن تعزيز السورين الكبيرين المحيطين بها المزودين بثمان بوابات أكبرها بوابة عشتار الشهيرة )الموجودة في متحف ببرلين حاليا(، والتي كانت تتوسط بجدرانها الهائلة شارع الموكب الذي يقيم البابليون فيه احتفلاتهم المقدسة بعيد رأس السنة البابلية )اكيتو(. فقد رمم هذا الملك البابلي الشوارع الداخلية في معظم مدن الإمبراطورية كما عبد عدة طرق خارجية مع البلدان المجاورة ومنها الى سوريا وفي جبل لبنان. ويجمع المؤرخون الإغريق ان بابل كانت في زمن نبوخذ نصر أجمل مدن العالم القديم بلا منازع، اذ نالت شهرة كبيرة بين الأمم لجمال وهيبة الرسوم والكتابات على جدرانها ومبانيها وفي قصر كبير بناه هذا الملك لنفسه والمعابد والزقورات الكبيرة التي أقيمت في انحاء البلاد تأكيدا على نزعته الحضارية.
طور الشيخوخة الرهيب:
في منتصف سنة حكمه الأخيرة، توفي نبوخذ نصر عن عمر ناهز السبعين عاما أمضى 44 عاما منها ملكا. لكن وحال وفاته بدأت قوة امبراطوريته بالتصدع والإنكماش نتيجة اندالع نزاعات وتناحرات عنيفة على السلطة بين أبنائه واصهاره اقترنت بتفاقم الخلافات الدينية التي أدت الى تزايد الأخطار والأطماع الخارجية وبعضها مدعوم بخيانات بعض كبار القادة وغيرها من المشاكل التي كشفت بجلاء ان عظمة القوة العسكرية وسعة الغزوات الخارجية وحتى الإزدهار الإقتصادي والمنجزات العمرانية العظيمة التي تحققت خلال نصف قرن لم تقترن بازدهار الجبهة الداخلية وتحسين الحياة الإقتصادية للسكان، ولم تكن بالتالي كافية لإنقاذ تلك الإمبراطورية العظيمة من الإنهيار المحتم والذي بدأت مؤشراته الأولى بالظهور اكثر فاكثر حتى قبل وقوع الغزوات الفارسية الأخمينية المدمرة.
وتمثلت مظاهر شيخوخة الإمبراطورية البابلية الحديثة في هذه المرحلة بالحقائق التالية:
اشتداد الصراع على السلطة بين ورثة نبوخذ نصر. فخلال فترة قصيرة لم تبلغ ربع القرن بين عامي 562 و539 ق.م، تعاقب على عرش دولته اربعة ملوك هم على
التوالي:
1- اوميل مردوخ ابنه الأكبر وحكم نحو سنتين ونصف فقط )562 – 560 ق. م. قبل ان يزاح من العرش مقتولاً في انقلاب قصر وقيل ثورة شارك فيها كبار الكهنة الذين
اتهموه بـ”الإنغماس في الرذيلة” حسب المؤرخ بيروسا. ويبدو انه اراد اصلاح النظام والحد من تدخلات رجال الدين في السلطة فثاروا عليه وعزلوه ونصبوا بدله أحد أقاربه بعد ان اتهموه بالإنحياز الى اليهود بسبب سياسة المصالحة والتسامح التي اعتمدها حيال اليهود عبر منحهم حرية واسعة في ممارسة طقوسهم الدينية وإعادة الإعتبار لقادتهم المعتقلين في بابل. وتشير معلومات موثقة ان الملك البابلي او ميل مردوخ قام باخراج ملك مملكة يهوذا السابق يهوياكين )يهوياقيم( من السجن وسمح له أن يتنقل في المدينة بحرية وعامله باحترام ومنحه موقعا رفيعا في صدارة مجلسه وأعلى شأنه ووظيفته دائمة عند الملك بمرتب يتناوله كل يوم، وهو ما حرك ضده الطامعين بالعرش بدعم من رجال الدين. و هذه الرواية تؤكدها نصوص دينية يهودية حيث ورد في العهد القديم )سفر إرميا 31/52(: “وفي السنة السابعة والثلاثين لسبي يهوياكين، في الشهر الثاني عشر، في الخامس والعشرين من الشهر، رفع أويل مردوخ ملك بابل، في سنة تملكه، رأس يهوياكين ملك يهوذا، وأخرجه من السجن”.
2- نركال- شار- اوصر )556-560 ق.م( ابن نبوخذ نصر الثاني (او صهره حسب بعض المصادر(، والذي اندحر اندحارا كبيرا بعد قيامه بحملة عسكرية فاشلة عبر طوروس ليعود بعدها الى بابل عام 556 ق. م قبل ان يموت مقتولا بعد عودته مباشرة، لينتقل العرش بعده الى ابنه لباشي مردوخ.
3- لباشي مردوخ )556 – 556 ق. م.(، حفيد نبوخذ نصر و كان قاصرا يذكر بيروسا ان هذا الملك اخرج من العرش لشخصيته الضعيفة او السيئة ولم يمكث في الحكم سوى
9 أشهر قبل ان يطاح به بانقلاب من تدبير قائد قوات الإمبراطورية البابلية والرجل الأدهى فيها وحاكمها المقبل نبونائيد، صهر نبوخذ نصر وزوج ابنته الصغرى المنحدر
من عائلة دينية متنفذة.
4- نبونائيد )556 – 539 ق. م.(، صهر نبوخذ نصر و آخر ملوك امبراطورية بابل
الحديثة واكثرهم غموضا وفشلاً.
أبو رغال بابلي: غوبارو
آخر ملوك امبراطورية بابل الحديثة واكثرهم غموضا هو نبونائيد الذي تفيد المصادر بانه بلغ عرش بابل في عام 556 ق.م، بمؤامرة من كهنة إله القمر “سين” الا انها لم
تحقق غايتهم باعلاء مكانته على مكانة اله البلاد الأكبر وحاميها مردوخ، ما اجبر الملك بعد بضع سنوات على ترك مقاليد حكم بابل بيد ابنه الشاب والهجرة إلى قلب
الصحراء متفرغا لعبادة “سين”.
بيد ان نبونائيد ظل ملكا عن بعد لامبراطورية بابل بين 556 ق.م وحتى سقوطها في عام 539 ق.م بيد الفرس الأخمينيين الذين زعموا بانهم جاءوا الى بابل لحمايتها من
ملكها المجنون الذي صارت ثقافته الواسعة وهوسه الديني وبالاً عليه وعلى حضارة عظيمة بأكملها اذ يتحمل مسؤولية كبرى عن تدميرها وهي في خضم العطاء. فمن جهة ترك هذا الملك عاصمة دولته لنحو عشر سنوات مفضلاً العيش في مدينة تيماء تاركا مقاليد إدارة البلاد بيد ابنه بيل شاصر الذي قيل بانه كان فاسدا، فتدهورت أمورها وتفسخت ادارتها في ايامه وعم الفساد. ومن جهة أخرى القرار الإعتباطي الذي اتخذه هذا الملك بتغيير دين البلاد واستبدال الهتها التقليدية الرئيسية الحامية والظافرة سابقا بديانة جديدة لمجرد انه آمن بها بسبب أصله الارامي وكون بعض آبائه من كبار الكهنة في معبد إله القمر. وتفيد المعلومات النادرة المتوفرة لدينا الآن، فان نبونائيد الذي عرف بعمق وسعة اهتماماته المعمارية والثقافية والتاريخية، اتهم سابقيه من الحكام بالإبتعاد عن نهج مؤسس الإمبراطورية نبوبالصر وباني مجدها نبوخذ نصر معتبرا ان هذا الإبتعاد أدى الى تدهور أحوال البلاد خلال فترة حكمهم. لكن خصومه يتهمونه بإهانة آلهة اللآباء والأجداد، بتفضيله آلهة الآشوريين على آلهة الكلدان وبإلغاء الإحتفاالت الخاصة ببابل وخاصة بعيد رأس السنة البابلية )أكيتو(، ما اثار غضب وتمرد السكان وخاصة رجال الدين نتيجة ذلك. لكن ورغم ان الملك نبونائيد سيتعرض الى الإعتقال والنفي من قبل الفرس كما أشار المؤرخ الكلداني البابلي بيروسا وحتى القتل في وقت لاحق، إلا أن فشله في إدارة شؤون الإمبراطورية سيستخدم ذريعة من قبل الفرس في تبرير الدمار الذي الحقوه ببابل بالزعم ان قوات كورش المحتلة جاءت لإنقاذ البابليين ديانتهم من
اخطار حاكم أهانهم بإهانة ألهتهم.
النهاية: معركة أوبيس.
معركة أوبيس هي واقعة عسكرية معقدة واستثنائية الاهمية في تغيير مجرى تاريخ العالم القديم، جرت في شهر ايلول من عام 539 ق.م، بالقرب من مدينة أوبيس )سلوقيا( المنقرضة حاليا وتقع شمالي بغداد في منطقة مطلة على نهر دجلة )قرب سلمان باك حاليا( التي تبعد بنحو 80 كلم شمال شرق مدينة بابل عاصمة الإمبراطورية. وحصلت المعركة بلا قتال اذ لا معلومات تذكر عن وقوع المعركة ولا حديث عن خسائر فيها، باستثناء ما ذكرته المصادر البابلية عن حصول مجزرة قامت بها القوات الاخمينية ضد البابليين أسمتها المخطوطات البابلية بـ”مجزرة شعب أكد”.
هكذا بالضبط كانت معركة أوبيس التي باغت فيها الجيش الفارسي الأخميني العرمرم بقيادة كورش الكبير القوة البابلية المحدودة المرابطة شمالي بابل بقيادة الملك الضعيف بيل شاصر المكلف من ابيه الملك نبونائيد بإدارة حكم بابل المحاطة آنئذ بكل الأخطار الخارجية والداخلية. لم تكن اذن هناك مواجهة بين امبراطوريتين كما يزعم البعض، بل لم تكن هناك مواجهة ما بين جيشين اصلا اذ لم يخض الجيش الفارسي الأخميني فيها أي قتال. ما حصل هو مؤامرة وضيعة بكل معنى الكلمة ابتدأت وانتهت باغتيال الملك البابلي بيل شاصر في فراش نومه على الأرجح من قبل معاونه المباشر غوبارو )كوبرياس( الذي تؤكد المعلومات الأصلية الى انه وضع للجيش الفارسي الأخميني خطة نصراً عظيما لم يحلم به مطلقا من قبل، وهو ليس فقط التخلص من الإمبراطورية البابلية العدو الرهيب دائما،
بل لان هذا النصر مكنهم بعد فترة قصيرة من إحكام سيطرتهم على بقية المناطق المحيطة بأوبيس التي مثلت موقعا كما مكنهم من ً إستراتيجيا ً مهماً في الدفاع عن بابل، كما مكنهم من التقدم لإحتلال سيبار، ثم فرض الحصار على بابل نفسها التي سيتم لهم احتلالها بعد فترة قصيرة نتيجة انهيار مقاومتها من الداخل نتيجة خدعة حربية وضعها ونفذها غوبارو نفسه وتجاوز عقبة الجدار الدفاعي الذي بناه نبوخذ نصر الثاني حول المدينة ما قلب نتيجة المعركة لصالحهم. وكان متأخرا جدا قرار الملك نبونائيد بالعودة سريعا إلى بابل اثر سماعه بخيانة قائد جيشه. فعودته جاءت بعد فوات الآوان، حيث كان قد نجحوا سلفا في اختراق الدفاعات البابلية في أوبيس وباشروا احتلال بابل. ولم تنفعه دهشته من تنصل كورش من اتفاق سالم معقود بينهما قبلئذ. فنبونائيد كان قد تنصل سلفا من حليفيه السابقين ملكي الميديين في فارس والليديين في آسيا الصغرى لصالح انتصار كورش عليهما الى جانب خطئه الجسيم الآخر بانهاك الجيش البابلي عبر ارسال قسم منه الى حران النائية جدا للعمل في بناء معبد لإله )سين( طلبته منه أمه الطاعنة في السن هناك، وقسم الى تيماء الواقعة على بعد نحو ألف كيلو متر الى الجنوب من بابل ليبني له معبدا وقصرا و عاصمة فيها حيث قرر ان يستقر بعد قتل ملكها “يتر”.
اما عن فصول القصة في الجانب الأخميني فهي ببساطة ذاتها في كل مكان وزمان:
قبائل فاقم تكاثرها جوعها فاجتمعت تحت قيادة امير مغامر وبراغماتي و جريء )كورش او هوالكو او االسكندر او شارلمان..( لتندفع في مهاجمة الحضارة المجاورة فتدمرها بكل الهمجية المتاحة بحثا عن الثروة والسطوة والسلطان ثم، ودون إرادة منها بذلك او وعي مباشر أصال، تتماهى مع بقايا ضحاياها المستنفذة القوة أصال فترث دون ان تدري
اخلاقها ومعارفها وامراضها أيضا. بيد انه ليس ممكنا اغفال جوهر هذا الحدث التاريخي العظيم وامثاله. فهو ليس مجرد هجمة لقوة اجنبية طامعة او خيانة لمسؤول عسكري بابلي من أصول ميدية او فارسية كما يشار أحيانا. بل نعتقد على العكس، ان كافة المؤشرات الموضوعية تشير الى ان تلك معركة اوبيس كانت عبارة عن خدعة حربية بارعة بالفعل الا انها عبرت بشكل خاص عن لزوم وفاة “رجل مريض” آخر لم يعد امامه سوى الرحيل عاجلاً ام آجلاً.
فكورش ما كان لينجح في القضاء على الإمبراطورية البابلية تلك لولا انها كانت قد دخلت مرحلة احتضارها الحتمي بعد ان استنفذت كل مبررات وجودها وتحولت الى عقبة
كأداء اما تطور التاريخي البشري المحلي والعالمي.
اما علائم الدخول في مرحلة الاحتضار، فترمز لها السهولة التي تم بها القضاء على
الإمبراطورية البابلية الحديثة، وابرزها ما يلي:
- تردي الأوضاع الإقتصادية والسياسية ونعذر معالجتها لجسامة الخسائر البشرية والأعباء المادية والمعنوية وسواها المترتبة عن الحروب والفتوحات العسكرية.
- دخول الملك نبونائيد في “معركة كسر عظم” مع المؤسسة الدينية والمجتمع بفرض خياري تغيير دين البلاد او اهمال شؤونها ما أدى الى خلل عميق في
النظام الحاكم.
- تكاثر الأقوام والجماعات المعادية والخصوم الذين وجدوا مصلحة مشتركة للتحالف مع كورش من اجل الإطاحة بالإمبراطورية كاليهود والآشوريين والميديين
والمصريين والأخمينيين ودون المبالغة في دورهم في الإنتصار العسكري الفارسي وأيضا دون نسيان فشل بابل في مصالحة وارضاء الجماعات السكانية الخاضعة
لاحتلالها وهو ما حاول القيام به ودفع رأسه ثمنا له الملك اميل مردوخ الذي قام بفك اسر كبار الأسرى اليهود بما فيهم ملك مملكة يهوذا السابق يهوياكين
وعامله باحترام رغم انه نجل الملك البابلي الذي وضعهم في الأسر نبوخذ نصر.
- فشل البابليين في حل الخلافات الدينية الداخلية وما اسفرت عنه من تفاقم ومن
تصادم بين السلطتين السياسية والدينية.
- تفاقم سلطة الكهنة الى حد تجاوز سلطة الملك في الفترة الأخيرة حتى صار في وسعهم خلعه او قتله اذا ارادوا ذلك وباسم الاله على عكس ما كان الحال في
عهدي نبوبالصر و نبوخذ نصر، حينما كان الملك هو الذي يخلع ويقتل الكهنة أي رجال الدين باسم السماء.
انتهى.
صحيفة المدى/ 2023/3/-29-22