د. حسين الهنداوي.
حسين الهنداوي في أخاديده بين فلسفة النص والذات الشاعرة
بقلم: عصام البرام
الزمان – 26/08/2022
ينتمي الشاعر والمفكر حسين الهنداوي الى الشعراء القلائل الذين تنتمي قصائدهم الشعرية ومفرداتها الى الحس الجمالي في بعدها الفلسفي الانتقالي ذات الدلالة المعبرة باختصار عن مفاهيم فكرية وصراعات وجودية وغير وجودية، تتوزع فيها الحركة الادراكية القائمة بين ذات الشاعر ونصه الابداعي. فهو يسعى دائما الى إشغال الفراغ الوجداني لذاته المعبرة بمراوغة فكرية وفلسفة الجملة الشعرية، قائماً التي تعطينا انطباعاً على انك تتعامل بين شاعر يتمكن من أدواته الفنية وثقافته الفلسفية التي ينحدر اليها، ربما يعود ذلك الى دراسته للفلسفة، وتنظيراته الفكرية في مجال مؤلفاته الفلسفية.
فحين تتصفح ديوانه “أخاديد” (طبعة العراق 2012) تستطيع أن تقرأ البعد الانساني والفلسفي والرموز والميثولوجيا وكيفية سعيه في توظيف الحزن العراقي المزمن في أبعاده المتعددة السياسية والاجتماعية داخل ثيمة النص.
وهو يمتطي على المحسوس البصري للمفردة الشعرية وتعدد صوره للواقع العراقي بتاريخه النضالي المتشعب عبر عقود تاريخه الحديث والمعاصر. حتى اذا اراد ان يستخدم السيميائية في شعريته بين المفردات داخل البناء النصي لم يأتها من فراغ بقدر ما يضع لها اساسا دلاليا مقصودا لتجد في نهاية مطاف النص الواحد أنك امام كلام ايحائي يضرب به برمزية عالية لواقع تشوبه الشوائب والانكسارات والضياع والقهر الاجتماعي الذي يعصف به الواقع العراقي سياسيا واجتماعيا .
إن اكثر ما تناوله شعراء جيل الهنداوي، العاصف بالانقلابات والمطاردات او بتعبير آخر حالة عدم الاستقرار السياسي قاد هذا الجيل الى السعي الحثيث بالأخذ نحو الابداع العالي القادم من رحم المعاناة الوجودية في الشعر والقصة والرواية والمسرحية والغناء وكل الفنون الابداعية الانسانية وهي محاكاة لواقع عاصف بالأحداث كما اشرنا اليه سلفا.
لذا تجد القصيدة عند الهنداوي هي حركة بآليات ممنهجة، وبعد فكري واستجلاء النص لدلالات عدة، تكاد تحس فيها وأنت تنتقل برؤاه المتشعبة بين كل جملة وأخرى. يقول في نص (رأسي):
رأسي سجن بمئات الابواب
ونوافذ من أشواك ذابلة
وبقايا أقمار تتقاطع كسهام من فضة
في جنح الاسوار الخرساء..
هنا يحمل الاسلوبية التي يمنحنا أياها الشاعر وهو يهضم الفكرة قبل كتابتها لتعطي للمتلقي بمفهومه الخاص الذي يفسره برؤية ذاتية لا تبتعد عما أراد ان يقول الهنداوي بجملته الشعرية.
. هو العنصر الاول الذي يطرق عين المتلقي منذ الوهلة الاولى وخصوصا عندما تجد ان القارئ ينتمي الى جيله او بيئته او ابن العراق او حتى من خارجه المتتبع لتاريخ العراق بكل عمقه السياسي والحضاري.
ان كتابة النص الشعري عنده عابرة للتعقيد، مخضوضبة بسجل حافل من الرؤى الفكرية التي نستطيع ان نحسها منذ الجملة الاولى للنص، فقد يستخرج من هيكلية القصيدة ذات اخرى، تستوعب المكان والزمان الوجودي، وهو يمضي بحساب دقيق على أثر المتلقي الواعي والمتذوق للقصيدة الحديثة، تلك القصيدة الفلسفية التي تتشظى في جسدها الرمزية تارة والمباشرة تارة اخرى والاغراق بالتخفي وراء مفردته في بعض الأحيان.
ذائقة شعرية
لقد حاول الهنداوي ان يسعى بذاته الشاعرة للارتقاء بالذائقة الشعرية الى حد تخوم الفكرة داخل جملته الشعرية، الا انه يخبو نفسه الشعري احيانا بين الانطلاق الاول من كتابة نصه الى النقطة الاخيرة، لكنه سرعان ما نجده يرتوي ويتقد بالفكرة ثانية قبل ان يعلن بضربته الاخيرة لنصه. كما هو الحال بالجزء المكمل للنص الأول:
رأسي يستيقظ قبلي في الفجر
يتوضأ بالصمت المتدلي كقطرات الحنظل في الرئتين
يفتح شباكي للشمس
ويمنح قهوتي المرة طعم الصبر..
يمكن هنا ان أطلق على هذه الانتقالات داخل جملته الشعرية هي اشبه باللوحات الشعرية التي ترسم لنا انعكاس لمخيلة الشاعر لواقع يتمرد عليه ويسعى في الافق الى الثورة او التغيير او الخلاص منه، لعالم أكثر سمواً وحرية وانسانية معطاء.
يقول الشاعر والمفكر أدونيس في (زمن الشعر): (إن الشاعر حر وهو يضع قوانينه وهو فوق القوانين الشعرية وليست فوقه، هو الذي يضع النظام ولا يضعه النظام(.
فالقصيدة التي يرسمها الهنداوي برؤيته والتي يضع لها لغتها وايقاعها هو يصوغها بعالمه الخاص، ليجسد الرؤية والرؤيا بعلاقة لا تقبل الانفصال عن جسد القصيدة، هو يؤطر الذاكرة الحية بانفعال أنساني كي يستخرج او يكتشف عالم الذات الباطن ليظهره الى عالم الوجود الحي، هذا الوجود الذي يقول فيه: أننا اليوم معاصرون ولكن محاصرون، بالقيم البالية واللاحرية والتموضع والقبلية وغيرها ، هو يسعى نحو عالم خال من الالم وهو بذاته يحمل ألم الوجود.
كما شكلت الامكنة عند الشاعر وارتباطها التاريخي حيزا كبيرا بين نصوص مجموعته (أخاديد)، يقول في نصه: يوميات لم تنشر لعبد الرحمن بن ملجم المرادي:
يابسة طرقات الليل
وضجيج الحزن يمد يديه على أطراف الصحراء
وأنا الان بلا أجنحة
في حنجرتي يزدحم العطش الهمجي
وأظن بأن الساعة آتية ..
لقد شكلت هذه القصيدة أنعطافة كبيرة في حركة الخيال الشعري ودلالته التي تعطي للمتلقي حركة دراما تسكن بين أسطر الجملة الشعرية او فعلاً انعكاسياً ورؤى تتماهى في ثيمة النص، وعندما يفاجئنا بصورة آخرى لنفس النص .. يقول:
على باب الكوفة أوقفت جوادي الذهبي الخصلات
كان الليل يمد جناحيه على الصحراء العربية
ولأن الاسطبلات مؤجرة كالصحف اليوم لخيل السلطان..
هو يسعى بأثارتنا مرة أخرى، فهو يدمي تأريخ ذاكرتنا الانسانية بذاكرة تأريخه العاصف، والمعادل الموضوعي لواقع لا زال مدمياً كما هو الحال للصراعات التاريخية التي أراد بها الشاعر لنا كي يرسم ذاكرة فعالة وانفعالية معا،ً فإذا كانت الصور الحية مرسومة على مخيلته، فهو يعطيها فعل درامي وبعد انساني أكثر دلالة في داخل حركة الجملة الشعرية
. فالنص الشعري لديه مشهد قائم على الحوار ليس بين شخصين بقدر ما هو حوار بين ذات عطشى من روح شاعر الى متلقي للقطات بما احتوت من مشاهد اخذت بعدها الدرامي تصلح لفن آخر الا وهو الفن السابع، ويتجلى فيه هذا المشهد من نص: )
“شيء في عينيك يموت”
او
“لم يبقى جدار في السجن لم نكتب فيه أغانينا
كل الطرقات مشيناها
غنينا كل أغاني البدو، التتر، الاحباش
رقصنا حتى الاغماء
وغفونا فوق الارصفة الغرباء”..
إن سعي الشاعر في كيفية توظيف لغته الشعرية وعلى المستوى الزماني والمكاني والفعل الدرامي للنص، يشعرنا بالتمكن من أدواته في نقل الحس الجمالي لمخيلته الشعرية، بأنه ينطق بها ليحرك الصورة الشعرية، وكيفية تحويلها الى صور شعرية عالية الدقة، حوارية، ناطقة، تحاكي الوجود والفعل الانساني.