الهندية طويريج بيتنا وبستان بابل.

د.حسين الهنداوي.

زينب المشاط
قد تشدُنا ذاكرة المدن بعطرها العبق متغاضين عما إذا كانت هي تلك المدينة التي كنا نرومُها , إلا إنها تأسرُنا لأسبابٍ نجهلها ليست لأنها الافضل ولا لأنها الاجمل , لا يهم إن كانت تحملُ تأريخاً عريقاً او إننا كنا نسكنها بترافة , فالمدن كالأمهات لانعلم السر في ذلك الرابط العميق الذي يربطنا بها , لا نعلم سبب حاجتنا الى أحتضانها أيام غربتنا ,
إلا أن يقيننا الوحيد إنها تسكُننا قبل أن نسكنها , وبمجرد أن نلمس ترابها نُشفى من ماضينا الذي قضيناه في أحضان غربتنا فتزول الهموم والأوجاع و كأننا نولد من جديد , هذا ما جعل الدكتور حسين هنداوي يطرقُ ابواب ذاكرتهِ مع طويريج من جديد متغاضياً لما وكيف ومن اين يبدأ , فبالنسبة لهُ طوريريج الأم بحاجة الى (ردّ الجميل) لها كما ذكر في كتابه (الهندية – طويريج بيتُنا وبستانُ بابل , والذي صدرت الطبعة الاولى لهُ من دار(المدى) للثقافة و النشر عام 2014 .
وبالرغم من إن الكاتب لم يعتبر الكتاب منجزاً لتسجيل تاريخ المدينة , او تحليلاً طوبوغرافياً لأرضها او بحثاً في اصول عشائر المدينة او الاقوام التي سكنوها , حيث اعتبرها بيوغرافيا بلدانية افتراضية , او كتاب وفاء ورد جميل الى مدينتهِ , إلا إن ما أُلحظهُ كقارئ إن الهنداوي ناقش من خلال هذا الكتاب العديد من الجوانب الطوبوغرافية والتأريخية والثقافية والسياسية لهذه المدينة إضافة الى الحكايات التي رويت عن تلك المدينة وعن سُكانها من العشائر والاقوام الذين سكنوها و من رواد الشعر والموسيقى والادب , والسياسيين والقادة , ليتبين لنا إن طويريج او الهندية مدينة ولدت أهم الشخصيات بغض النظر عن ما إذا تركوا بصمة إيجابية او سلبية في الواقع العراقي .
وقد تألف الكتاب من خمسة فصول لكل فصل خصوصيته واهميته التي تميزه عن الاخر , إلا إنها جميعاً مكملة لحكاية المدينة , حيث حاول الكاتب تداول تلك الحكايا بإسلوبٍ قريب من القارئ مستخدماً دلائل تأريخية من خلال العديد من المؤرخين والرحالة الاجانب والعرب .

  • طريق المُبتغى : ويعتبر الفصل الاول من الكتاب الذي سُمي طريق المبتغى باعتباره الاسم الاول لمدينة طويريج والذي كان يعني الطريق المؤدي لضريح الإمام الحسين بن علي , أي المبتغي لمدينة كربلاء , وذكر الكاتب العديد من الاسماء التي عرفتها المدينة ومن ضمنها طويريج التي تعني في اللغة البابلية ما على من الأرض مستدلاً بدلائل قرآنية (وطور سنين) , كما جاءت تسميات ساذجة كما ذكر الكاتب (tow way reach ) التي تعني مُلتقى الطريقين , باعتبارها المحطة الوحيدة الموصلة بين طريقي البر الرئيسيين المتجه احدهما الى الحلة شرقا والاخر الى كربلاء غرباً , إضافة الى تسميات أُخرى لم تذكر كثيراً مثل (عمورا و ماريا).
    كما بحث المؤلف في أهمية المدينة من العديد من الجواني العسكرية والزراعية والصناعية ,حيثُ كانت من اهم المعسكرات للدولة العثمانية , كما اعتبرت الهندية اسطولاً مكوناً من 236 مشحوفا , اضافة الى اهميتها الزراعية والصناعية حيث كانت معروفة بإنتاج الرز والحبوب والمحاصيل الحقلية والثروات الحيوانية , وبسبب أهمية المنطقة الجغرافية وما تتمتع به من ثروات تم اعتبارها قضاء في عهد الدولة العثمانية وربطها بسنجق كربلاء وسميت حينها بـ (الهندية ) لأنها المرفأ الوحيد للبابليين على الطريق المؤدي من بلاد ما بين النهرين الى الهند .
    كما عتبرت المدينة ذات أهمية تاريخية دينية حيث أُقيمت فيها أهم المعابد آنذاك (معبد نابو) والذي ذُكر في شريعة حمورابي بأنه اهم معبد ومركز ديني , وتمتعت الهندية بأهميتها خلال العهود الفرثي والساساني والفارسي وإمتدت أهميتها الى ما بعد الفتوحات الاسلامية , إضافة الى الاهمية الأثرية والتي اكتشف منها ما يقارب الـ 55 تلا اثريا عام 2010 , هذا ما زرع في المثقفين والمتعلمين توقا متوارثا للتعرف على اثار المدينة المختلفة .
    -كلكم هنداويون موهوبون : بيتُنا وبستان بابل (عنوان الفصل الثاني من الكتاب) والذي فضلت أن أُطلق عليه اسم (كلكم هنداويون موهوبون) وذلك لأن الهندية ولدت العديد من الاسماء ثقافية و ادبية و فنية و سياسية معروفة وكبيرة على مدى اجيال , هذا ما جعل الروائي العراقي غالب طعمة فرمان يستعين بإثنين من اهم اصوات مدينة طويريج في روايته الشهيرة (خمسة اصوات)عام 1966 وهما الشاعر المتمرد حسين مردان والصحفي محمد حسين الهنداوي , يبدو إن ما جعل الهندية غنية بالمبدعين هو طبيعتها الهادئة الجميلة القريبة من الأُلفة والتودد حيث إشتركت مشاعر الجميع بالحنين الى طويريج , كما إعترف الفولكلور العراقي بذلك من خلال الاغاني التي كانت تردد آنذاك ومن اشهرها اغنية الفنان حضيري ابو عزيز (آني ارد اشرج تشريج و أكضي العمر بطويريج ) , إضافة الى ما تلهج به الاهازيج والامثال الشعبية .
    كما أشار المؤلف في هذا الفصل إن للهندية أهم جسر قديم شُيّدَ عام 1913 على نهر الفرات وبعدها تم تشييد جسر المدش عام 1956 او ما يعرف بجسر الهندية الحديث الذي بدأ تشييده عام 1955 و إفتُتحَ على يد نوري سعيد عام 1956 والذي لعب دورا كبيرا في عمليات التنقل والاتصال و إزدياد عدد السكان في المدينة , كما بُني حديثاً جسر آخر عام 2006 و افتتح عام 2009 من قبل نوري المالكي رئيس الحكومة العراقية آنذاك.
    من هنا نلحظ إن الموقع الجغرافي للمدينة على ضفاف نهر الفرات جعلها صالحة لأن تكون ميناء مهما لنقل المنتوج الزراعي والذي من أهمه الرز في النصف الثاني من القرن التاسع عشر , هذا ما نَشَطَ الدور الاقتصادي للمدينة , إضافة الى عمل معامل تقشير الشلب والتي تدعى المجارش (كما ذكر المؤرخ العراقي عبد الرزاق الحسني) ما جعل المدينة مركزاً لإستقطاب الايدي العاملة , إضافة الى انها اشتهرت بإنتاج التبغ والتنباك نتيجةً لخصوبة اراضيها الزراعية , كما انها تشتهر بزراعة رز العنبر , كما ذاع صيتها في النصف الثاني من القرن التاسع عشر باعتبارها محطة تجارية بين الحلة وكبرلاء والنجف والكوفة والمدن المشاطئة للفرات , بذلك تعتبر الهندية مدينة غنية بشرياُ و تجارياُ و صناعياً وزراعياً إضافة الى غناها الجغرافي مما جعلها محط انظار الدول المستعمرة كما ستوضحه الفصول القادمة من الكتاب .
    -الهندية وأهلها : بيّن الكاتب في الفصل الثالث من الكتاب بأن مجتمع الهندية من أكثر المجتمعات تحركاً وهذا بسبب الطبيعة المفتوحة للأرض الجامعة بين الخصوبة والجمال والمياه , كذلك بسبب تعرضها للغزو مما جعلها تنفتح الى ثقافات مختلفة , كما زار المدينة العديد من القبائل والعشائر الذين سكنوها واصبحوا جزءاً منها وتعايشوا وتتطبعوا بطباع سكانها بمرور الزمن حتى تخلوا عن تعصبهم القبلي .
    هذا وقد اعتبرت المدينة مدينة إخاء فتعايش بها العرب والكرد الفيليون والفرس والهنود واليهود والتركمان , ليُشير المسح السكاني الذي حدث في انتخابات عام 2011الحديثة إن نسبة سكان المدينة يصل الى 220000 شخص , ولم تختلف الكنائس والمساجد وحتى معابد اليهود في وجودها في مدينة واحدة فقد كانت لليهود معابد في الهندية من أهمها معبد التوراة , كذلك الى مرقد نبيهم حزقيل المسمى بذي الكفل , وظل المسلمين على علاقة وثيقة باليهود خلال العقود الماضية رغم درايتهم الكاملة بما سيؤول أمرهم لو عرفت السلطات بذلك .
    وتطرق الكاتب الى أهم العشائر التي سكنت المدينة , وناقش دور اهم العشائر السياسي والديني والقيادي فيها و ذكر أسماء اهم قادة العشائر على مرّ السنين في تلك المدينة , مثل عشائر آل جشعم و بنو حراف و آل فتلة وبنو حسن والدعوم وآل كريط وآل يسار , كما ذكر إن لهذه العشائر اصولا قديمة ومعروفة في العراق مثل ((عشيرة آل جشعم والتي من فروعها (الضياغم , النعيم , البوحديدة , الصهبان ) ) , وقد ذُكِر إن طويريج لم تكن سوى مدينة صغيرة تدعى (البالاكوباس) والتي تطورت في مطلع القرن السابع عشر وهذا ما اكده الرحالة الفرنسي لجان أيضاً من خلال وصفه لخان الهندية عام 1866 , وقد إزدادت اهمية المدينة ادارياً و إقتصادياً بعد إصدار قانون الولايات العثمانية عام 1864 والذي أُعيد بموجبه تقسيم الولايات العثمانية و أعقبه صدور قانون إدارة الولايات عام 1871 والذي نص على اشراك الاهالي بإدارة شؤون بلادهم وربط الادارات الفرعية بالاقضية والسناجق , مما زاد الهجرة الى الهندية بسبب ثرواتها و مركزها الاقتصادي والتجاري على نهر الفرات , وبذلك اعتبر قضاء الهندية القضاء الاول في سنجق كربلاء من الناحية الادارية , لتعتبر حينها (روضة الفرات الاوسط ) .
    -طويريج في مهب السياسة : يبين المؤلف من خلال الفصول السابقة الاهمية التاريخية والجغرافية والزراعية والتجارية والصناعية والبشرية للمدينة مما يؤهلها سياسياً لتكون الروضة الداخلية لعاصمة الامبراطورية البابلية منذ مئات السنين ومركزاً ناشطاً اقتصادياً وميناءاً حيوياً , لا توجد في العصر الحديث وثائق واضحة متداولة عن تاريخ الهندية الجديد قبل القرن الثامن عشر , حيثُ تعرضت المنطقة لهجوم الوهابية بقيادة عبد العزيز بن سعود الوهابي عام 1775 وتم القضاء عليها عام 1811 , وبعد ذلك اصبحت من اهم المناطق التجارية لما إمتازت به من طابع اقتصادي وموقع جغرافي وبعد ضغط العشائر على مناطق الفرات الاوسط بسبب الهجوم الوهابي ,وأُهملت الهندية نهايات فترة الحكم العثماني وقريب إحتلال برطانيا العراق واستمرت المعارك بين سكان المدينة والعثمانيين منذ عام 1841 وحتى عام 1914 ودخول برطانيا العراق , وبعد إنطلاق ثورة العشرين اصبحت الهندية العاصمة الميدانية للثورة نظراً لموقعها الستراتيجي على نهر الفرات , ومن هنا حاول البريطانيون السيطرة على طويريج للقضاء على الثورة ومن خلال محاولات لزرع الفتن بين قبائل وعشائر الهندية , ولعبت الهندية دوراُ اساسي بعد اعلان الملك فيصل ملكاً على العراق بعد 29 حزيران 1920 وزيارته للهندية لحصوله على تأييد سكانها .
    ويُشير الهنداوي في كتابه , الى ظهور شخصيات سياسية بارزة في الهندية بعد تكوين الدولة العراقية والسماح بتشكيل الاحزاب عام 1922 حيث انضم العديد من مثقفي الهندية لهذه الاحزاب وخاصة المعارضة منها للانتداب ومن أهم الشخصيات السياسية التي ظهرت آنذاك (عبد الكريم ابو سنة وعبد المحسن وداعة واحمد السعدون).
    كما تعرضت الهندية آنذاك لأزمة اقتصادية بين الحربين العالميتين نتيجة ارتباط العراق اقتصاديا وسياسيا ببرطانيا , مما أدى الى تراجع السفن المرتبطة بتجارة الحبوب والتمور مما افلس التجار وتم تسريح العديد من العاملين , كما قامت المؤسسات الاجنبية بتسريح موظفيها من ابناء الهندية وإلغاء دار المعلمين العليا ما دفع المواطنين لإعلان اضراب عام 1931 .
    هذا وإنتشرت الافكار الماركسية وشاعت في المنطقة آنذاك ليليها ظهور حزب البعث والفكر البعثي وانتشاره وإنضمام بعض اهالي المدينة له , ليظهر الفكر الاسلامي بعد ذلك عام 1960 وفي مقدمته حزب الدعوة , لتعاني الهندية بعد استلام حزب البعث الحكم في العراق من عمليات تجزئة وتقسيم حيث انضم جزء منها الى مدينة كربلاء وبقي الجزء التاريخي منها ضمن مدينة بابل الاثرية , لتكون بعدها الهندية اقوى بؤرة للانتفاضات الشعبية الشعبانية عام 1991 ضد نظام البعث آنذاك , حتى تغير النظام عام 2003 لتكون الأحزاب الاسلامية هي الاقوى خلال العشر سنوات الماضية , ليُلخص لنا هذا الفصل إن الهندية مرتع للصراعات السياسية والايدولوجية دون استثناء سواء أكانت يسارية او اسلامية او قومية .
    -هنداويون وطويرجاويون : الفصل الاخير بالكتاب والذي كنت أوّد لو أطلق عليه المؤلف إسم مدينة الثقافة طويريج , وذلك لغنى المدينة بفنانيها ومثقفيها وأُدبائها حيثُ أشار الكاتب في هذا الفصل للجوانب الثقافية والفكرية لهذه المدينة , وذكر أهم رواد الثقافة والادب فيها بمختلف المجالات , كما بيّن إن المدينة تألقت ثقافياً في أربعينات القرن الماضي ولاسيما بعد إجازة الاحزاب السياسية في العراق عام 1947 حيث إزدهرت طويريج بالمجالس الثقافية والسياسية الى الجانب الديني , وأشار الهنداوي إلى أبرز رواد ذلك العصر في مختلف المجالات الثقافية أمثال مؤسس الغناء الريفي عبد الامير طويرجاوي , ومؤسس المسرح الاذاعي العراقي إبراهيم الهنداوي ورائد الشعر الشعبي العراقي إبراهيم الشيخ حسون الهنداوي , ورائد قصيدة النثر العربية حسين مردان والفنان محمد جواد اموري وبطل العالم في كمال الاجسام عباس الهنداوي , والنحات العراقي احمد البحراني , ولم تخل قائمة المبدعين من الجانب النسوي فكانت من أبرزهم شاعرة ثورة العشرين ونسة الفتلاوية , واول رئيس لأركان الجيش العراقي محمد رفيق عارف . وبين الكاتب إن هنالك المزيد من الشخصيات التي لم يسعهُ ذكرها في هذا الكتاب الصغير , فقد أنجبت الهندية العديد من الادباء والفنانين والرياضيين والفقهاء والخطباء والسفراء والسياسيين والاكاديميين اللامعين .
    لم يكن هذا الكتاب الأهم في نظر الكاتب إلا إنهُ الاقرب إليه حيث عكس ذاكرة الطفولة وحنينها و إستطاع من خلالهُ نقل مشاعره التي طالما ربطته بمدينته التي غاب عنها طويلاً فلم يكن بإمكانه سوى رد الجميل لها بهذا الكلمات البسيطة , ومما لابد من الاشارة إليه نبذة مختصرة عن حياة الكاتب , حسين الهنداوي شاعر وكاتب فلسفي ومستشار سياسي اقدم لدى الامم المتحدة , كما انه اول رئيس لمفوضية الانتخابات في العراق بين 2004 و 2007 , كما كان مؤسس القسم العربي في جامعة بواتيه الفرنسية ومحاضراً فيه بين العامين 1982 و 1985 وعضو بعثة الامم المتحدة لدى العراق عام 2008 , له العديد من المؤلفات في الفلسفة والفكر السياسي وبعدة لغات العربية والفرنسية والانكليزية من أهمها (التاريخ والدولة مابين ابن خلدون وهيغل ) و (هيغل والاسلام ) و (على ضفاف الفلسفة ) و (فلاسفة التنوير والاسلام) , كما ترجمت له عدة مقالات الى لغات عديدة , كما يعد الهنداوي رئيس لمؤسسة (عراق للابداع) وعضو مؤسس في الجمعية الفلسفية العراقية في الخارج , وعضو دائم في نقابة الصحفيين البريطانيين الى جانب عضويته لاتحادات ادبية وفكرية عربية و أجنبية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *