د. حسين الهنداوي.

يتسع الاهتمام بالمفكر الراحل الدكتور علي الوردي (1913-1995) في القرن الواحد والعشرين وتتعمق دراسة افكاره عن المجتمع العراقي في العالم كله. فمؤلفاته التسعة الصادرة في حياته واهمها (“لمحات اجتماعية في تاريخ العراق الحديث” بأجزائه الثمانية) صارت تنشر بطبعات مختلفة وترجمت اجزاء منها إلى لغات عدة كالفرنسية والالمانية والانكليزية والاسبانية والفارسية والتركية والبولونية وغيرها ويتزايد اهتمام الجامعات بالدراسات المتخصصة بها هنا وهناك فيما لا تزال اطروحاته المحورية في توصيف “طبيعة” الشخصية العراقية المعاصرة تثير جدلا علميا وسياسيا واسعا، وتستقبل التفسيرات والتعليقات المختلفة بل المتضادة احيانا، والأكثر فالأكثر تعقيداً واسهاباً.
وعلى العموم، ليس هناك إلى أيامنا من حقق هذا القدر من النجاح حتى شعبياً بين مفكري العراق الحديث جميعا في مجال علم الاجتماع، وخاصة بالنسبة لعدد من الموضوعات والأفكار التي نالت شهرة واسعة لدى عموم الناس وإن على حساب دقتها الأصلية أحياناً حتى صار اسم علي الوردي يزج في كل مائدة بالاستناد غالبا الى منطلقات خاطئة او مجتزأة عمادها الجهل والفهم الاعتباطي القاصر. وهذه الأفكار مع التصورات التي تترتب عنها تسللت بنفوذها الى الوسط الاكاديمي المحض احيانا، حتى انها غدت تصيب بتأثيراتها شتى الأنشطة والمنظورات بما فيها الاكثر رصانة. فقبل فترة وجيزة، نظمت في الجامعة الأميركية ببيروت ندوة عربية – دولية للاحتفاء والاحتفال بمئوية علي الوردي تضمنت مناقشة أفكاره ومنهجه وأطروحاته الاجتماعية حول طبيعة المجتمع وشخصية الفرد العراقي والخروج بأفكار جديدة ترتبط بما يمر به العراق والعالم العربي من أحداث. وقد استغرقت الندوة يومين عبر ست جلسات متتالية شارك فيها أساتذة من كندا وأميركا وألمانيا ولبنان ومصر والعراق بدأت بمائدة مستديرة لبحوث ومناقشات تناولت ملامح من شخصية الوردي وأفكاره ومؤلفاته وعلاقاته الاجتماعية تلاها تقديم نحو عشرين دراسة مختلفة منها 16 بحثا بالعربية و13 بالإنكليزية منها «أفكار الوردي حول العراق»، و«العراق والعالم العربي»، و«الوردي والمفكرون العرب»، و«فهم الوردي للديمقراطية»، و«العراق اليوم في ضوء مفاهيم الوردي»، وغيرها من بحوث ناقشت أفكاره ومساهماته وفلسفته ومنهجه الاجتماعي وكذلك الاتجاهات القيمية للشخصية العراقية ونقد الوردي للمنطق الأرسطي ونقده للعقل العراقي وغيرها.
هذا الاهتمام الكبير بالوردي هو فرصة في نظرنا لأعادة فهم علي الوردي واقصاء اطروحاته الجوهرية عن التفسيرات العشوائية والبليدة احيانا التي وصلت حد التندر بها من قبل انصاف المثقفين الذين يطفحون على حياتنا الثقافية والاكاديمية ناهيك عن سياسيين نصف متعلمين في الغالب. فهذا المفكر الاجتماعي المجدد والجريء والاشكاليّ في آن، وأول من دعا الى “علم اجتماع عربي” يدرس مجتمعاتنا في ضوء خصوصياتها الجغرافية – التاريخية – الثقافية، يقدم منظوراً شاملا ومتماسكا ومنفتحا وسجاليا عن حالة المجتمع العراقي في اطاره التاريخي المعاصر محذرا بشكل مبكر من علل مزمنة فيه. وهذا المنظور، حتى عندما لا يكون مقبولاً بكامله او قاسياً، يلبي حاجة فكرية متزايدة لفهم ذلك المجتمع وآفاق ومضامين حيويته وعناصرها، كما لمعرفة العوامل الذاتية والموضوعية لتطوراته او لانتكاساته.
كأي باحث او مفكر متخصص في دراسة أحوال المجتمعات البشرية لتكوين استنتاجات نظرية عامة، أهتم علي الوردي مبكرا بالفلسفة، هذا الميدان المعرفي الذي ولد علم الاجتماع فيه اصلا. بل ان اهتمامه به فاق بكثير في رأينا مثيله لدى كافة نظرائه العراقيين والعرب من علماء الاجتماع. وهذه الحقيقة التي تعلنها كتاباته اجمالا، كنا نحس به سلفا نحن طلاب الفلسفة في نهاية السبعينات بجامعة بغداد عندما، بين حين وحين، كان الوردي يتوقف للتحدث معنا، وهو في طريقه الى قاعة التدريس. اذ كان بعضنا يشعر من خلال ملاحظات الوردي وتعليقاته العابرة والساخرة وابتسامته الدمثة والخفية في آن، بانه اقرب الينا من زملائه الآخرين بما فيهم بعض اساتذتنا، وهذا ما تأكد لاحقا على اكثر من صعيد. لكن علاقة الوردي بالفلسفة تحتاج الى دراسة اوفى من هذه الصفحات العجولة.
ونحن نعتقد بالنسبة للعراق والدول النامية اجمالا، ان الفكرين الماركسي (المادي التاريخي) واللاهوتي لدينا اخفقا، على رصانتهما واصالة جهودهما، في تقديم مقترحات سوسيولوجية مقارعة لمنظورات الوردي التي، رغم اضطراب بعضها منهجيا، تميزت بواقعيتها ونزعة الحرية الداخلية التي حرص على اذكائها دون كلل في كل كتاباته تقريبا، مستلهما في نظرنا نزعة الحرية لدى بعض تيارات علم الاجتماع الامريكية ومنتفعا من فترته التاريخية الخاصة، فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، التي كانت مرحلة خصبة بذاتها في مختلف المجالات المعرفية بفعل تزعزع قدسية المنظومات العقائدية الشمولية الدينية والفلسفية يمينا ويسارا ايضا. وهو حال شجع النقد بداهة، الا ان النقد العلمي خاصة يحتاج الى العمق المعرفي الى جانب الجرأة المسؤولة.
والوردي فهم ذلك مبكرا وموضوعياً حيث يخبرنا بوضوح ما بعده وضوخ باننا: “حين ننتقد المنهج الماركسي في دراسة مجتمعنا لا يجوز أن ننسى انتقاد الذين يقلدون المدرسة الغربية في هذه الدراسة. ان هؤلاء قد يقعون في أخطاء قد لا تقل عن أخطاء الماركسيين في الابتعاد عن فهم واقعنا الاجتماعي. فالمعروف عن هؤلاء انهم يعتمدون في دراستهم الاجتماعية على طرق الاحصاء والاستبيان، وهي طرق ربما نجحت في بلادهم الغرب لكنها لا تنجح في بلادنا.. وقد تؤدي الى نتائج معكوسة. الباحثون الماركسيون عندما يحاولون تفسير مجتمعنا في ضوء المراحل الأربع في الغالب نراهم يركزون اهتمامهم على المعلومات التي تلائم مقصدهم ويغضون النظر عما سواها، كما فعل المستشرق الروسي (كوتلوف) في دراسته لثورة العشرين حين تعسف في تفسيرها. ان ثورة العشرين، في نظر الماركسي ثورة ضد الاقطاع، باعتبار ان العراق كان في العهد العثماني يعيش مرحلة الاقطاع. لهذا كان القائمون بالثورة هم من البدو والفلاحين والحرفيين والبرجوازية الوطنية. ان من الصعب تطبيق المراحل الأربع على المجتمع العراقي. ان العراق كان في العهد العثماني أقرب الى النظام العشائري المستمد من البداوة منه الى نظام الاقطاع. هناك فرق بين النظامين؛ فالاقطاعي يختلف عن الشيخ العشائري وهذا أمر واضح لدينا نحن العراقيين”.
ويعبر خصب الفكر الاجتماعي لعلي الوردي عن نفسه في مجالات كثيرة. إلا أن ما يطبعه خاصة هو تطويره لمنهج نقدي جدلي خاص مع تأكيده على الأهمية الحاسمة لهذا المنهج في كل مجالات دراسة المجتمع العراقي والعربي من وجهة نظر اجتماعية وتاريخية. وحتى إذا كان الوردي ارتكب أخطاء في التفسير او الاستنتاج، فإنه أكد على الأقل وجود مجتمع عراقي كبير وحيوي وخلاق متشكل من وفي استمرارية تماسكه الطبيعي ووحدة تناقضاته، ومفعم بنزعتي التطور والارتقاء بالضرورة.
والآن، وبعد مرور نحو ربع قرن من الزمن على وفاة الوردي الذي احتفل بمئوية ميلاده مؤخراً، من الضروري في رأينا إلقاء نظرة جديدة على منظوره الاجتماعي الخاص تأخذ بعين الاعتبار كافة تطوراته الجوهرية وتعيد إلى الأذهان ما كانت عليه أسسه الأصلية وتفحص ما أصبحته منطلقاته في لحظاتها العليا او النهائية لديه وتسترجع الأسئلة التي لا تكف عن الحضور بشأنه. فنحن نعتقد ان مراجعة نقدية لافكار الوردي نافعة بشكل خاص في الوقت الحاضر حيث يواصل هذا المجتمع تطوره الثابت كما يواصل مساره المضطرب والمثير، فيما يتواصل ايضا الاستعمال العشوائي الجاهل لأطورحاته واقواله. فهذا المفكر الراحل الذي أراد أن يبدو وبعنادٍ، محض باحث علمي أمين ونقدي وحر، لا يزال يستدعي الدراسات الحيوية ويثير استفهامات ساخنة وتفسيرات مغامرة ومعارك وانتقادات، هي جميعاً بحد ذاتها علائم مجد إضافي كبير.
وعلى العموم، نعتقد ان دراسة جديدة شاملة ومنهجية للمنظور الاجتماعي للوردي ضرورية لكن ينبغي اقران مراجعة مؤلفاته وكتاباته المنشورة سلفا بمعرفة دقيقة بكتاباته غير المنشورة بعد وهي كثيرة كما يبدو، ولا سيما فصول ما اسماه “مبحث في طبيعة البشر” وأكّد هو نفسه بانه “كتاب العمر”. اذ ظل الوردي منشغلا بهذا الموضوع حتى ايامه الاخيرة، بل هناك من يؤكد انه كان يتحدث دائما في مجالسه الخاصة والعامة عن تطورات عمله في كتابه المذكور ويعرض بعض مسوداته. ولا نستبعد ان يخلخل نشرها بعض ثوابت فكرتنا عن منظوره حول طبيعة المجتمع العراقي اذ أوحى هو نفسه بذلك عندما أكد في مقابلة صحفية معه في 1988: “إنَّ الهزَّة الاجتماعية التي شهدها العراق في 14 تموز 1958، قلبَتْ كثيرا ً من مفاهيمي ونظريَّتي إلي الحياة والمجتمع، فقد كنتُ قبل ذلك أنظر إلي الناس والمجتمع نظرة معيَّنة، ثمَّ شَهدْتُ الأحداث الصاخبة التي حدَثتْ في تموز 1958، وما بعده، وأدركتُ عند ذاك أنـِّي مخطِئ في نظريَّتي القديمة في طبيعة البشر بوجهٍ عام وطبيعة المجتمع العراقي بوجه خاص”.
وبانتظار معرفة تلك النصوص، يمكن في رأينا تقديم تقييم اولي لمنظور الوردي الاجتماعي عبر توضيح أسسه الفكرية وفحص منهجه الخاص وأدواته التحليلية وكذلك استنتاجاته العامة بشأن المجتمع العراقي بغض النظر عن واقعية مضامينها الجوهرية او قبولنا بها.
علي الوردي وأسس منهجه
على صعيد الاسس او المنطلقات الفكرية اولا، من الخطأ، في رأينا، جعل الدكتور علي الوردي معتنقا لوجهة فكرية او فلسفية بعينها كي نقول، كما فعل البعض، انه كان متأثراً بالفلسفة البراغماتية “اكثر من غيرها”، او نتهمه، جهلا، بتبني ما زعموا انه “الرؤية الغربية الإستشراقية في دراسة المجتمع العراقي!”. فالوردي في رأينا لم يتمذهب بمذهب فلسفي محدد ابدا كما لم يتقلب بين المذاهب. انما كان مفكرا نقديا بامتياز، وحرّاً بامتياز، منح نفسه ومنهجه المستحدث مديات بلا كوابح عقائدية او فلسفية في التعامل مع ظاهريات مجتمع عراقي كان ولايزال قيد التبلور بعد في عدد من مكوناته. وهنا تحديدا تكمن قوة وضعف ذلك المنهج الذي اعتبره البعض تركيبة فريدة من عناصر تأثير شتى املتها فرصة الدراسة احيانا او الصدفة او ضرورات البحث احيانا اخرى. وهي عناصر تأثير معقدة بل متنافرة، تضم دفعة واحدة افكار قادمة من الثقافة العربية الموروثة بما فيها الشعر الجاهلي واخرى من الفلاسفة والمفكرين العرب والمسلمين النقديين خاصة مثل المعتزلة والجاحظ وابو حامد الغزالي والمتصوفة الى جانب تأثره العميق والمعلن من جهة بعبد الرحمن ابن خلدون الذي أخذ عنه نظرية “صراع البداوة والحضارة”، ليطبقها بطريقته الخاصة المتأثرة ايضا بالمنهج التجريبي لفرانسيس بيكون والمنهج الوضعي لأوغست كونت.
وتأثره من جهة ثانية بمنجزات علم الاجتماع الاميركي المتحرر نسبيا من المنظومات الفلسفية التقليدية والايديولوجية، ولا سيما نظرية “ازدواج الشخصية” لروبرت ماكايفر Robert Maciver، ونظرية (التناشز الاجتماعي) لعالم الاجتماع الامريكي وليم اوغبرن William Ogburn (1886- 1959).
كما انه تأثر من جهة ثالثة بافكار مستمدة من علم النفس الاجتماعي في جناحه الاميركي وخاصة جورج هربرت ميد George Herbert Mead (1863–1931) مؤسس مدرسة “التفاعل الرمزي” ((Symbolic Interaction في تحليل الأنساق الاجتماعية والكيانات الصغيرة او الافراد، وثورشتين فبلن Thorsthein Veblen (1857-1929) مؤسس نظرية الربط الحتمي بين التكنولوجيا ونمط العلاقات الاجتماعية، وكارل مانهايمKarl Mannheim (1893 –1947) وفرديناند كون Cohn Ferdinand (1828- 1898 ) وغيرهما من ممثلي المدرسة التاريخية الالمانية وبعضهم من المعاصرين للوردي او جارلس كولي Charles Cooley (1864-1929) صاحب نظرية الإنسان في المرآة (أي ان الإنسان يرى نفسه في عيون افراد المجتمع الآخرين)، اضافة الى نظريات علماء الاجتماع الكلاسيكيين مثل اوغست كونت Auguste Comte (1798- 1857) مؤسس علم الاجتماع التجريبي، او وليم جيمس (1842 – 1910) William James، او غيرهم.
وبرأينا لا يمكن فهم منظور علي الوردي عن المجتمع العراقي الا عند اخذ اطروحاته المركزية الثلاث (أي صراع البداوة والحضارة، وازدواج الشخصية، والتناشز الاجتماعي) كوحدة واحدة فيه ينتفي بفصلها عن بعضها البعض المعنى الفعلي لمنظور الوردي عن المجتمع العراقي وهذا منذ نشره لكتابه الاول “شخصية الفرد العراقي” في 1951. اذ ان هذه المفاهيم تنبثق او تتوالد من بعضها البعض في سياق تتابعها المذكور اعلاه تحديدا. فمن جهة لا يمكن تقديم احدها على الآخر، لأن صراع البداوة هو الذي ينتج ازدواج الشخصية وليس العكس فيما لا يوجد التناشز الاجتماعي الا كنتيجة لازواج الشخصية.
فأول تلك المفاهيم، اي “صراع البداوة والحضارة” المأخوذ بالمعنى الخلدوني تماما، كان المنطلق الذي سمح للوردي بالاستنتاج، من تطبيقه على مجتمع بلاد الرافدين، ان المجتمع العراقي الحديث ليس الا حصيلة لحالة من ذلك الصراع باعتبار وقوعه على طرف صحراء كانت تعج بالقبائل البدوية القوية الغازية قبل القرن العشرين من جهة، ولكونه منتج ووارث حضارات انسانية عظيمة من جهة اخرى. هذه الثنائية الجغرافية/التاريخية انتجت بدورها ثنائية اجتماعية/تاريخية وليست نفسية او مرضية على الاطلاق. والوردي شدد مرارا على ان مفهومه عن «ازدواج الشخصية»، قد أسيء فهمه، وأنه ينشأ في المجتمع نتيجة لتصادم نظامين متناقضين من القيم تتعايشان في السلوك العام وليس الفردي كما انه لا ينحصر على الحالة العراقية حصرا.
اما المفهوم التالي والاخير في السلسلة، فهو “التناشز الاجتماعي” المستلهم من مفهوم الفجوة الحضارية او الفجوة الثقافية (Cultural Lag) الذي اطلقه عالم الاجتماع الامريكي وليم اوغبرن، في كتابه “التغير الاجتماعي” (Social change) الصادر في عام 1922، وعبر عنها بشكل خاص بفكرته التي تربط بين التغير التكنولوجي والتغير الاجتماعي/ الثقافي، والقائلة بان التقدم السريع بطبعه الذي يحصل في مجالات الحياة المادية او اليومية بفضل الاستفادة من منجزات التقدم العلمي واستخدام الاكتشافات التقنية الحديثة والاكثر تطورا في وسائل واساليب تلبية الاحتياجات ويترتب عنه رخاءٌ عامٌ في الغالب، لا يصاحبه تقدم عامٌ موازٍ في الافكار والقيم والاخلاق الاجتماعية والممارسات السلوكية والمعاني الثقافية والروحية ينعكس في وضع قوانين وتشريعات جديدة منسجمة مع ذلك التطور المادي. وقبل وليم اوغبرن، كانت هناك محاولات كثيرة لربط ودمج التغيرات الاجتماعية بالتحولات الاقتصادية وبالعكس. لكن مفهوم “الفجوة الحضارية” يسمح ايضا بجعل التغيرات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية في اطار جامع.
Create a link to this page
Copy and paste this link tag into your Web page or blog:
<a href=”http://www.accessmylibrary.com/article-1G1-19981916/cultural-lag-conception-and.html” title=”Facts and information about Cultural lag: conception and theory.”>Cultural lag: conception and theory.</a>
Close Set up an RSS feed that alerts you when new articles from International Journal of Social Economics are available.
Frequently asked questions about RSS feeds
وقد نتفق مع رأي البعض بان قراءة الوردي لابن خلدون “تعيد بناء النظرية الخلدونية بل تقلبها رأسا على عقب” على اساس ان صراع البداوة والحضارة الخلدوني يقوم بين نمطين متضادين/متفاعلين من التنظيم الاجتماعي بينما هو عند الوردي ازدواج قيمي داخل التنظيم الاجتماعي الواحد، كما نتفق مع القول بان مفهوم الوردي حول “ازدواج الشخصية” يبتعد كثيرا عن مفهوم ماكايفر حولها وكذلك الامر بشأن مفهومه حول (التناشز الاجتماعي) مقارنة مع نظرية وليم اوغبرن عنه. الا ان كل هذه الاجتهادات لا تفعل الا تأكيد النبوغ لدى الوردي الذي حتى في دراسته للشخصية العراقية لم ينطلق في واقع الحال من معطيات تجريبية مستمدة من البحث الاجتماعي التحليلي او المقارن انما اعتمدت على فرضيات قبلية وتأملية وتاريخية حصرا وهكذا جاءت استنتاجاتها.
ومع ذلك، لم يزعم الوردي ابدا انه مبتكر لنظرية خاصة بعلم الاجتماع. فخصال التواضع وحب الناس والتضحية كانت من العمق لدى المفكر الراحل الى درجة منعته حتى من القول انه صاحب هذا المنظور العبقري، اذا جاز القول، او تلك المحاولة العلمية الجديدة بالفعل في دراسة المجتمع العراقي الحديث التي اسسها واعترف له بالريادة فيها اهل علم الاجتماع العراقيين والاجانب.
ورغم ان الوردي راكم على مرّ سنوات البحث محاور وحيثيات منظوره ذاك مطورا اياه تدريجيا، ومتراجعا عن بعض عناصره الطارئة او حتى التأسيسية احيانا، الا ان الثابت منهجيا انه حاول تفسير ظواهر المجتمع العراقي في ضوء ثلاث نظريات مبتكرة لمفكرين سبقوه معروفين من قبل بشكل واسع عالميا. لكن الوردي، وهنا يكمن جانب من اصالته الفكرية، لم يطبق هذه الفرضيات حرفيا على مظاهر واخلاق المجتمع العراقي انما استلهمها وحسب دون التردد في تحويرها او اعادة صياغتها وحتى الابتعاد عن بعض مفرداتها اذا اقتضى الامر ذلك. كما انه لم يقتصر عليها في بناء منظوره الخاص انما طعمها بعناصر وافكار غدت جوهرية فيه احيانا، استلهمها من علماء ومفكري اجتماع آخرين.
ومن الواضح ان الوردي بذل جهدا خاصا خلال اقامته الدراسية في الولايات المتحدة للتعرف على اهم وربما كل نظريات علم الاجتماع وكانت معدودة وحديثة بفعل كون القرن التاسع عشر هو تحديدا الحقبة الزمنية التي شهدت انطلاقته كعلم مستقل بذاته عن الفلسفة وعلم النفس. والحال ان تلك النظريات كانت نقدية في الغالب وتجريبية احيانا لا سيما ما يعرف منها بالنظريات الحتمية ما عمّق النزوع النقدي لدى الوردي المتشبع اصلا بأفكار عدد من الفلاسفة والمفكرين العرب والمسلمين النقديين خاصة مثل الجاحظ وابو حامد الغزالي وابن خلدون. وكما لاحظ صديقه الشاعر الراحل عبد الامير الورد في مقدمته لطبعة حديثة من كتاب الوردي “من وحي الثمانين” الذي اصدره سلام الشماع، فان الوردي بعد الانتهاء من دراسته الجامعية في امريكا عاد ثورة غير سياسية على الرسوم والتقاليد الاجتماعية وعلى التاريخ وعلى القيم لا في الشرق وحده بل في الغرب ايضا اذا اقتضى الامر.
وكما لاحظنا من قبل، ان اهتمام الوردي بالفلسفة كان في مجال علم المنطق حصرا، وانتقائيا على العموم، علاوة على انه أخذ طريقه الى النضوب مع مرور السنوات بفعل استغراق الوردي في دراسة وتسجيل الظواهر الخاصة بالمجتمع العراقي الحديث وتأريخه على حساب الفكر المحض. اذ نحن نعتقد ان الاهتمام المتعمق بالفلسفة لديه اقتصر على فترة ما قبل 1960، فيما كانت تغذية وتفعيل منهج تبلور خلالها ويمكن تسميته بـ “الجدلي”، هي ربما الاضافات الاساسية الوحيدة في الفترات اللاحقة على ذلك.
هذا المنهج ومصادره وعناصره في تعليل تلك الظواهر تعكس تأثرا معلنا بالمنطق الخلدوني في فرضيته المركزية عن صراع البداوة والحضارة. بيد ان فرضياته المحورية الاخرى، لا سيما ازدواج الشخصية والتناشز الاجتماعي، تتضمن ايضا ودون استثناء، مفهوم التناقض والصيرورة، الامر الذي يسمح بالاعتقاد بان مصدره عنده لا يقتصر على منطق ابن خلدون انما يعكس تفاعلا ما، وعن بعد على الارجح، مع فلسفات جدلية حديثة وخاصة الهيغلية.
ويعزز هذه الفرضية كونه اعتبر هيغل “من اعظم الفلاسفة الذين ساهموا في انشاء منطق الصيرورة الحديث”، لأنه “بنى نظريته على اساس ان التناقض اصيل في طبيعة الاشياء، وبهذا هدم جزءا كبيرا من المنطق القديم الذي قام على اساس عدم التناقض”، ولأن من رأيه ان “الشيء لا يمكن ان يقوم بذاته حسبما يقول به مبدأ الماهية، انما لا بد ان يحتوي على نقيضه في صميم تكوينه، وبوجود هذا التناقض في تكوين الشيء يظهر عليه التغير والصيرورة. وهذا هو الذي جعل الكون في حركة متصلة لا تهدأ ابداً”.
ومن المرجح ان ضعف اهتمام الجامعات الامريكية والانگلوفونية عموما آنذاك بدراسة فلسفتي هيغل وماركس، كان السبب المباشر في منع الوردي من التعمق بدراسة مؤلفات اساسية لهما لا سيما النصوص ذات العلاقة بالديالكتيك. صحيح ان نقل مفاهيم الفلسفة حرفيا الى ميدان علم الاجتماع او الى غيره من المجالات ليس ممكنا او خلاقا بالضرورة. الا أن الديالكتيك الهيغلي يماثل الجدل الخلدوني في فلسفة التاريخ، ولا سيما في القضايا التي تمس التطور الدوري في نشوء وانهيار الدول والحضارات وفهم اسباب ظاهرة العمران البشري وديناميتها وغيرها من المحاور التي يخبرنا الوردي بأن المنظور الخلدوني كان فيها محط اعجابه.
علي الوردي ومنهجه – منهج مبتكر
ومهما يكن الامر، فان اكتشاف الوردي لمنطق ابن خلدون هو العامل الاعظم في النقلة الكبرى التي حققها فكره اللاحق على انجاز اطروحته الجامعية، اذ منحه على الاقل منهجية جديدة عمقت اصالته التي اثراها استخدامه الواعي والعنيد لتلك المنهجية في البحث الاجتماعي كما في استنتاجاته التي مال الى بلورتها بصيغ نظرية. هذه المنهجية الجدلية تأخذ من المنطق الفلسفي طاقته التدميرية للبنى الدوغمائية، لكن دون قوانينه المنتجة للتوليفات الجديدة وبالتالي للتطور في التاريخ (او في المجتمع).
ويعزز اهمية اكتشافه لمنطق صاحب “المقدمة” علمنا بان اهتمام الوردي به ليس جديدا انما يعود الى ايام الدراسة العليا. فهو من جهة خصه بالقسط الاوفى في رسالته لنيل الدكتوراه من جامعة تكساس عام 1950. وهو من جهة اخرى ظل لاكثر من عشرة اعوام اخرى مولعا به، وبكل ما يظهر حوله من كتب ومقالات كما اكد بنفسه. لكنه لم يكتشف الا لاحقا انه ظل غافلا عن “الناحية المنطقية”، قبل ان يتساءل: “أكان ابن خلدون يجري في تفكيره على منهج المنطق الارسطي الذي كان فلاسفة الاسلام يجرون عليه ام انه ابتكر لنفسه منطقا جديدا خاصا به؟”.
هذا السؤال هو التأسيس الاول لمنهج علي الوردي الخاص في علم الاجتماع برأينا. وهو منهج قائم منذ البدء على استنتاج مفاهيم نظرية مؤسسة على الاستقراء، وليس انتاج مباحث تطبيقية او تربوية او تأريخية، الامر الذي خلق لديه لاحقا طموح تجاوز المنطق بصيغته الخلدونية بحثا عن صيغ اكثر حداثة وتعقيدا. فهذا الهم جلي وقوي في اكثر من مجال من الفكر الاجتماعي لعلي الوردي برغم ان نجاحه في تحقيقه ليس مؤكدا.
وواضح ان اطلاعه على كتاب عن فلسفة التاريخ عند ابن خلدون صادر بالانكليزية في عام 1957 للمفكر الفلسفي العراقي محسن مهدي، كان السبب المباشر في اكتشافه لأعماق منطق ابن خلدون. اذ يمتاز هذا الكتاب بكونه اول بحث من نوعه يدرس الناحية الفلسفية والمنطقية في النظرية الخلدونية حول العمران البشري، بعد ان كان الباحثون قبل مهدي لا يشيرون الا الى الناحية الاجتماعية منها. والوردي يسجل تقديره الصريح لهذا الكتاب واعجابه بمحسن مهدي (المجهول في بلاده لكن الشهير عالميا كاحد ابرز مؤرخي الفلسفة الاسلامية الاحياء)، وموافقته على الكثير من آرائه، الا انه يخالفه جذريا في القول بأن ابن خلدون جرى في نظريته الاجتماعية على نفس المبادئ المنطقية التي جرى عليها افلاطون وارسطو ومن تابعهما من فلاسفة الاسلام.
وهكذا وبينما يرى محسن مهدي ان ابن خلدون لم يكن سوى تلميذ مخلص للفلاسفة القدامى، لا سيما لأبن رشد، وانه بنى علمه الجديد على نفس الاسس التي بنى اولئك تفكيرهم الفلسفي عليها، حيث لم يجد حاجة الى تغيير تلك الاسس او التشكيك بصحتها، يرى الوردي ان ابن خلدون كان ثائرا على الفلسفة القديمة بوجه عام، وعلى المنطق الارسطي بوجه خاص. والدليل هو انه لو كان سائرا على نفس المنهج المنطقي الذي سار عليه الفلاسفة قبله “لما استطاع ان ينتج لنا علما جديدا”. ففي ظن الوردي ان “الابداع العظيم الذي جاء به ابن خلدون نشأ عن كون هذا الرجل قد استطاع ان يتحرر من المنطق القديم وان يتخذ لنفسه منطقا جديدا”. ومن هنا تتأتى ظاهريا لديه ضرورة كتابه “منطق ابن خلدون” باعتباره الاهم في هذا الشأن.
الا اننا سرعان ما نكتشف ان الوردي يستخدم هذا الكتاب لطرح منهجه الجدلي ضمنا. بمعنى انه يصبح بمثابة وسيلة مبتكرة يلجأ لها عبرها الوردي الى توظيف منطق ابن خلدون لصالحه. كما لو ان انتقاله هو ذاته الى ميدان الفلسفة يصبح تعويضا عن الاخفاق في سحب ابن خلدون الى ميدان علم الاجتماع. وهكذا فأهمية ابن خلدون في العصر الحديث تظهر لديه اكثر ما تظهر في انتقاده مبادئ المنطق القديم من حيث تطبيقه على ظواهر الحياة الاجتماعية والمادية حصرا وليس الروحية او الميتافيزيقية. وهذه الظواهر هي الصراع والتناقض والتغير والصيرورة انما في الحياة الاجتماعية الواقعية ذاتها، وهي وحدها. الامر الذي يستلزم سلفا كسر المنطق القديم.
ويستهل علي الوردي كتابه “منطق ابن خلدون” بالتأكيد على انه سيدور حصرا على نظرية المنطق عند ابن خلدون بعد ان يعده من “اعظم المفكرين في العالم” و”يشبه فلاسفة العصر الحديث شبها لا يستهان به” لاعتبارين اولهما انه اول من درس المجتمع البشري بطريقة واقعية، والثاني لان نقده للمنطق الصوري او الارسطي “لم يكن نقدا بسبب التعصب انما بسبب دعوته الى منطق جديد منسجم مع المنهج الاجتماعي الواقعي والحقائق التاريخية”.
فالمفكر حسب الوردي، كلما كان اكثر تحررا من قيود المنطق القديم كان اكثر ابداعا في تفكيره، فيما يثبت الواقع ان العلوم الحديثة كلها، الطبيعية منها والاجتماعية، “لم تستطع ان تنمو هذا النمو العجيب الا بعد ان بدأ فرانسيس بيكون بثورته المعروفة على المنطق الارسطي والتراث الفلسفي القديم”. لذا فهو يعلن الثورة على مفهوم المنطق التقليدي في المنظورات الاجتماعية الموروثة هذه المرة. وهذا ما يفسر ربما البعد النقدي وحتى السجالي الذي يطبع لغة الوردي وتحليلاته لا سيما حيال بعض معاصريه من الباحثين او الدعاة الذين يجادلون معتمدين “على ما لديهم من اقيسة منطقية قديمة يصولون بها كما يصول المحارب بسيفه البتار”، غير مدركين ان المجتمع، وكما قال ابن خلدون بداهة، “يراد له منطق آخر غير المنطق الاخير”.
لكن المجتمع الملموس هو “الكون” الذي يهم الوردي ونظريته الاجتماعية. وهذا الكون “عبارة عن منظومة متفاعلة من العلاقات والمصالح، وهو في صيرورة دائبة وتغير مستمر”. ليس هناك، استنتاجا، حقائق فلسفية بالمعنى التأملي للكلمة انما “مواقف” او “انماط من التفكير” حياتية تفرزها تلك الصيرورة من صراع العلاقات والمصالح في المجتمعات الفعلية. من هنا هذا النقد الحاد للفلاسفة الاغريق الذين كانون “يعيشون في معزل عن الحياة” لأنهم “كانوا في الغالب من طبقة الاسياد اصحاب العبيد. ويصدق هذا بوجه خاص على افلاطون وعلى تلميذه ارسطو الذي تم على يده وضع المنطق”. ورغم ان الوردي لا ينكر عظمة هؤلاء الفلسفة في تاريخ الفكر البشري نظرا لانهم اول من خرج بالفكر البشري من مرحلته “الخرافية السحرية الى المرحلة المنطقية المنظمة”، الا انه لا يلبث ان يدينهم، ومن خلالهم نظرائهم المسلمين، على اساس ان “تنظيمهم للفكر كان طوباوياً اكثر مما كان واقعيا، فهم قد افادوا الفكر من ناحية واضروا به من ناحية اخرى”.
السفسطائيون هم الواقعيون الاحرار بالمقابل الذين يفضلهم الوردي على افلاطون وآرسطو، ويتألم لخسارتهم المعركة ضد الفلاسفة الاسياد. تلك الخسارة التي كانت “من الاسباب التي جعلت التفكير الاجتماعي الواقعي نادرا في تراث الفلسفة القديمة. فقد ظلت الفلسفة القديمة تلك مشغولة عنه بما وراء المجتمع والحياة من افكار مطلقة. واذا تنازل احد الفلاسفة فنظر في امور المجتمع، اخذ ينحو في ذلك منحى طوباويا وعظيا، اي انه ينظر في “مايجب ان يكون” لا في “ما هو كائن فعلا”، كما فعل افلاطون في جمهوريته، او الفارابي في مدينته الفاضلة”.
ها نحن امام نفس هاجس تصفية الحساب مع الفلسفة التأملية (او اذا شئنا المثالية) الذي يضمره المفكر الاجتماعي في كل زمان ومكان تحت ذريعة ان “الانسان هو مقياس الحقيقة” في نظره، الذي يعني في وجهه الآخر الحط من ضرورتها كنشاط بذاته. وهكذا، فالفارابي في مدينته الفاضلة يضع لصلاح المدينة وسعادتها شرطا لازما هو حسب الوردي ان “يكون لها رئيس كامل في صفاته المختلفة” ليتساءل بغضب: “من اين جاء الفارابي بهذا الشرط اللازم؟ انه جاء من مقدمة اختلقها اختلاقا ثم قيّد تفكيره بها فلا يستطيع ان يحيد عنها. انه يقول: ان المدينة الفاضلة تشبه البدن الصحيح، ولما كان العضو الرئيسي في البدن هو القلب وبصلاحه تصلح بقية الاعضاء، فلا بد ان يكون في المدينة الفاضلة رئيس فاضل كذلك، والا فان المدينة تسير في سبيل الهلاك”.
فالوردي يرفض التشبيه بين المدينة والبدن كما عند الفارابي. ويرفض الاستدلال بالاحوال الظاهرة على الاخلاق الباطنة كما عند فخر الدين الرازي. كما يرفض المنطق الصوري الارسطي جملة وتفصيلا. لكن له مع المنطق الجدلي شأن آخر: “يوصف المنطق القديم احيانا بانه “منطق الكينونة”، وذلك بالمقارنة الى منطق العلم الحديث الذي يوصف بانه “منطق الصيرورة”. فالكون كله، بمختلف ظواهره، ينظر اليه باعتباره في صيرورة دائبة وتغير مستمر. “ونحن لا نستطيع ان نفهم الاشياء فهما واقعيا الا اذا نظرنا اليها بمنظار التغير والصيرورة”.
لكن كان يجب انتظار ابن خلدون كي نصل الى “منطق الصيرورة” هذا الذي احتاج تبلوره الاخير سيرورة طويلة ومعقدة من الصراع بل القتال داخل تاريخ الفلسفة الاسلامية ايضا، بدءا بالشكاك المسلمين الذين استهانوا بالمنطق الارسطي باعتباره اداة للخمول مبشرين بان “كل ما ثبت بالجدل فبالجدل ينقض”، ثم بالجاحظ في نظريته عن محدودية العقل في تفكر الحقائق الخارجية رؤية صحيحة تامة، واقترابه من القول بـ “اجتماعية المعرفة”، ثم بالغزالي في قوله بقصور البرهان المنطقي عن ايصال الانسان الى اليقين بالقضايا الالهية والروحي ناكرا بهذا مبدأ العقلانية والسببية، واخيرا بابن تيمية في نزوعه لنقض المنطق اي نقض الاصل الذي يقوم عليه الاستنباط المنطقي والقياس، وبالتالي التشكيك بصحة الكليات العقلية العامة على اساس انها غير ضرورية ولا بديهية الوجود الخارجي انما في الذهن فقط وان العلم الحق بالتالي هو الذي يستمد حقائقه من الاشياء الجزئية المتعينة لا من الكليات الذهنية، مما يجعل ابن تيميه في نظر الوردي يشبه في هذا فرانسيس بيكون وجون ستيوارت مل نظرا لتفريقه بين الامكان الذهني والامكان الخارجي.
هذه المنجزات الجدلية الاربعة قادت في آخر المطاف الى فصل المعرفة البشرية الى روحية وطبيعية، كلاهما لا يحتاجان الى المنطق والقياس المنطقي. الاولى لان الدين مصدرها، والثانية لانها تجريبية وملتصقة بالواقع الجزئي اكثر مما هي قياسية او استنباطية. وهي بهذا الفصل اسست المنهج الاستقرائي الواقعي الذي سنجده عند ابن خلدون بصيغة اكثر تطورا قادت بدورها الى تأسيس المنهج الوضعي الاستقرائي في علم الاجتماع وهذا قبل اوغست كونت.
من الفلسفة الى علم الاجتماع
انتقال الوردي الى بيت الفلسفة ظل قلقا وخارجيا ولم يستمر طويلا بعد اكتشاف ابن خلدون. وهذا ما يفسر تراجعه والسعي بالمقابل الى سحب الاخير معه الى علم الاجتماع حصرا ومعه حتى فيكو ومونتسكيو وهيغل وماركس الذي سينعتهم بـ”رواد علم الاجتماع في العصر الحديث”، بعد ابن خلدون. فحسب الوردي يجب دراسة علم الاجتماع الخلدوني ليس من جهة نظرية عقيمة كما ندرس العلوم العتيقة كطب الرازي وتنجيم الطوسي وكيمياء جابر ابن حيان، “انما من جهة عملية تنفعنا في عصرنا هذا، لا سيما في دراسة مجتمعنا الراهن. فنحن اذن نقارن بين احوال المجتمع العربي ايام ابن خلدون واحواله في ايامنا، نجد شبها كبيرا”، على اساس ان الصراع الدائم بين البداوة (مجتمع حركي) والحضارة (مجتمع سكوني) هو محور النظرية الخلدونية.
والحال ان المعضلة هنا ليست فقط في نقل ابن خلدون من الفلسفة الى علم الاجتماع حصرا، انما في تعيين وظيفة نفعية ملموسة لمنهجه أضألت بشكل قسري جذوة الجدل الخلدوني ذاته الامر الذي انعكس تاليا في فكر علي الوردي الاجتماعي. فنحن نزعم ان مفهوم صراع البداوة والحضارة يفقد عنده معظم تلك الحيوية المفتوحة على المستقبل التي نجدها في الاصل الخلدوني ذاته. وفي كل الاحوال، اننا لا نستطيع ان نرى ابن خلدون، (وايضا فيكو ومونتسكيو وهيغل وماركس)، محض رائد في علم الاجتماع بينما هو اقرب الى فيلسوف تاريخ منه الى اي شيء آخر: انه اول من دعا الى دراسة التاريخ كفرع من فروع الفلسفة، وبالتالي مؤسس “فلسفة التاريخ” التي نحدد اطارها بانه وعي ماهية الحضارة الإنسانية ككل، وكوحدة واحدة، مأخوذة في صيرورتها الزمنية الملموسة، المتحققة خارج الإرادة المباشرة للأفراد والجماعات فيما نحدد موضوعها بانه وعي جوهر الصيرورة وغائيتها، ليس في مجال الاجتماع وحده انما في كل المجالات الاخرى.
وبكلمة، ان الفكر النظري الخلدوني بالنسبة إلينا، فكر تاريخي في الصميم والمنطلق، رغم ما يتضمنه من معطيات ثرية وأصيلة في الميادين الخاصة بالعلوم الاجتماعية والسياسية والاقتصادية. فابن خلدون مؤرخ فكّر في الماضي قبل أي شيء آخر، وفي الماضي التاريخي بالذات. وهذا التفكير في التاريخ لم يؤسس نفسه على أرضية لاهوتية، كما عند القديس أوغسطين مثلاً، ولا على أرضية سياسية- أيديولوجية، كما لدى مونتسكيو، ولا على ارضية اجتماعية محضة كما يريده علي الوردي، إنما على أسس فلسفية جليّة، كما عند ارسطو او ابن رشد او هيغل وسواهم. صحيح أنه ليس فيلسوفاً «محترفاً» إذا جاز القول، كما هو الأمر بالنسبة الى هؤلاء، انما هو «مؤرخ يتفلسف» وحسب. ومع ذلك، فإن خلاصة أفكاره الخاصة، حول التاريخ، تفرض نفسها في شكل جدير بأن يؤخذ كنظرية في التاريخ فلسفية تماماً، وليس اجتماعية الا مجازا، لا سيما أن محاولته التعامل مع التاريخ، تعلن صراحة تحديدها للأخير كفرع من فروع الفلسفة.
لا شك أن افكار ابن خلدون في الـ”المقدمة” خاصة، تتضمن الكثير من الاستنتاجات والتصورات التي تسمح بالقول بانه مؤسس علم الاجتماع الحديث، كتأكيده في “المقدمة” بان «حقيقة التاريخ» هي استكناه «الاجتماع الإنساني الذي هو عمران العالم، وما يعرض لطبيعة ذلك العمران من الأحوال مثل التوحش والتأنس والعصبيات وأصناف التغلبات للبشر بعضهم على بعض، وما ينشأ عن ذلك من الملك والدول ومراتبها، وما ينتحله البشر بأعمالهم ومساعيهم من الكسب والمعاش والعلوم والصنائع، وسائر ما يحدث في ذلك العمران بطبيعته من الأحوال». ونعرف أن عدداً من الباحثين والمستشرقين، لم يتردد في الاعتراف له بذلك، فذهب بعضهم الى اعتبار صاحب «المقدمة» بمثابة المؤسس الحقيقي للمدرسة الوضعية في علم الاجتماع، المنسوب تأسيسها عادة إلى أوغست كونت، أو إلى جعله رائد الميكافلّية، قبل ميكافلّي، في حين ذهب آخرون الى اعتبار ابن خلدون أسبق من ماركس في تأسيس النظرية المادية التاريخية ومترتباتها الفعلية. بيد أن هذه الآراء، ورغم الرصانة الأكيدة، والأرضية العلمية اللتين تعتمد وتتأسس عليها، تثير، في رأينا، إشكالات معقدة، لا تفلح في حلّها بشكل تام ونهائي.
ما ذكرناه عن ابن خلدون يصدق ايضا على المفكر الايطالي جيوفان باتيست فيكو Giovan Battista Vico ( 1668 – 1744 ). بداهة، ان دراسة العلاقة بين علي الوردي وفيكو تحتاج بلا شك الى دراسة اكثر عمقا مما قمنا به. بيد ان معاملة فيكو كعالم اجتماع كما يرى الوردي تثير اسئلة جمة هي الاخرى لا سيما حول عمق معرفة الوردي بتأثر فيكو بمجموعة من الأفكار الخلدونية الرئيسية حول التاريخ والمجتمع البشري خاصة كما نجدها في كتاب فيكو «العلم الجديد» الذي ظهر للمرة الأولى باللغة الايطالية في عام 1725 تحت عنوان «مبادئ علم جديد حول الطبيعةالمشتركة للأمم».
وكان فيكو الذي ولد في نابولي عام 1668 قد درس اللاهوت والفلسفة والتاريخ، وكانت لديه معرفة واسعة بالاحداث التاريخية والحياة الادبية في الامبراطورية العثمانية، كما كان يعرف الاسلام جيداً. لا يذكر فيكو ابن خلدون أبدا، الا ان مفهوم «العلم الجديد» الذي يطلقه على فلسفته للتاريخ مستلهم من «مقدمة ابن خلدون» استلهاماً ذا مغزى بحد ذاته ومن بين افكار فيكو الفلسفية، ذات الاصول الخلدونية، اعتقاده بان الميزة الاساسية التي تؤسس علاقات البشر، هي طبيعة نزعة الاجتماع لديهم، وان ما يخلقه الناس لأنفسهم، هو موضوع المعرفة الأكثر سمواً. وكذلك اخذه بمفهوم التعاقب الدوري لمراحل التاريخ. فالتاريخ، في نظر فيكو، صيرورة من التطور المستمر، وان كل شعب يمر في دورة تتعاقب فيها ثلاثة اطوار هي: التدين والبطولة والانسانية، وان كل دورة يعقبها، بالضرورة، سقوط جديد في البربرية وبداية لدورة حضارية جديدة. وتلعب الغزوات الكبرى دور المحرك الاساسي في ولادة الدول والحضارات، كما ان فكرة العدل هي غاية التاريخ في نظره. لكن فيكو يرى بالمقابل ان تحليل الصيرورة التاريخية للبشرية ينبغي ان يأخذ في الاعتبار العلاقة بين الإلهي والإنساني، فالعناية الإلهية هي «ملكة الشؤون البشرية» التي تقود أنشطة الناس الفعليين في ميادين الاقتصاد والدولة والقانون. والدين والعلوم والفنون ونتاجاتهم الاخرى. ومن الضروري البرهنة على ان العناية الآلهية واقع تاريخي، وان جوهر التاريخ الكوني هو الغاية الإلهية المقدسة، وليس الظواهر السطحية والارادات الانسانية التي تبدو كأنها هي التي توجه أعمال الأفراد والجماعات، فهناك وراء «غرور الأمم» والصراع العنيف الذي نشهده بينها قوانين تحدد مسيرة الانسانية نحو الحضارة، فالنتاجات البشرية ينبغي ان تفسر من خلال الضرورة ومن خلال ما يشبه فكرة «مكر العقل». وهكذا يبدو فيكو متبنياً تماماً لرأي ابن خلدون في ان المبحث الحقيقي للعلم الجديد هو «فهم باطن التاريخ» أي فهم تلك القوانين الخفية التي تحكم التاريخ البشري.
هذه القوانين الخفية التي تحكم “باطن التاريخ” لا وجود لها عند الوردي في رأينا ما افقد فكره النظري بعده “الفلسفي” وهو امر ليس مفهوما لدى مفكر رفض المنهج المادي التاريخي بجرأة لافتة. كما انه ليس مفهوما تماما التعامل الانتقائي الذي خص الوردي به ابن خلدون في مجمل منظوره عنه مما اسفر، في واحدة من نتائجه المباشرة، الى جعل منطق الوردي جدلي في ظاهره فحسب، انما مسدود الآفاق وبلا دينامية تلقائية نظرا لانقطاعه عن بعديه الكوني والروحي في آن.
علي الوردي ومنهجه على ضوء الجدل الهيغلي
الى جانب معضلة المنطق الجدلي المغلق النهايات، هناك مشكلة ثانية يطرحها المنهج الجدلي عند علي الوردي وهي توقفه عند محدودية المعطى الجدلي الخلدوني وحسب. اذ انه يدهشنا، هو المتحرر الفكر، في عدم اهتمامه عمليا بالفكر الديالكتيكي لدى ماركس مثلا برغم اعجابه البدئي بالفكر اليساري او لدى هيغل خاصة الذي يعتبره من اعظم فلاسفة منطق الصيرورة كما اشرنا.
والحال، إن اهتماما عميقا ونقديا بفلسفة جورج فلهلم فريدريش هيغل Georg Wilhelm Friedrich Hegel (1770 –1831) ، لا سيما بمفهوميه عن فلسفة التاريخ والديالكتيك، كان كفيلا برأينا باغناء نظرية الوردي حتى في جزئها المتعلق بالمجتمع العراقي ايما اغناء، بل كان سيكفل تهذيب بعض جوانب جدلها الجامدة تلك. لكن الاهم من كل ذلك هو ان الاهتمام بهيغل كان سيغني حتى فكرة الوردي عن العبقرية الاستثنائية لابن خلدون وفكره. اذ كما بينا في دراسات فلسفية منشورة لنا عن “التاريخ والدولة ما بين ابن خلدون وهيغل”، فان هناك تقاربات مثيرة بين «دروس» التاريخ الهيغلية و«العبر» الخلدونية، لا تقتصر على تحكيم العقل في قراءة صيرورة التاريخ الإنساني الفعلية، ولا على هاجس الشمولية والموضوعية النقدية في التعامل مع ظواهرها، ولا على المركزية الكبرى التي يمتلكها المفهوم الدوري في تفسير التاريخ لدى كل منهما على حد سواء، إنما نجد تلك التقاربات حاضرةً، أو هكذا نزعم، حتى في اسس المنهج الديالكتيكي والحركة المنطقية الداخلية التي تحكمه لديهما.
فتعريف هيغل لـ «فلسفة التاريخ»، لا يبتعد جوهرياً عن تعريف ابن خلدون لما يسميه «العلم الجديد»، بل يكاد يماثله. وهذا التماثل ينعكس اولا في أن معنى التاريخ هو العمران البشري، في كل جوانبه، وفي إطار زمنيته الأرضية، وبالمعنى الشامل الذي يوحي به مصطلح «شأن الخليقة» الخلدوني. كما ينعكس ثانيا في إن التاريخ لا يبدأ مع وجود الإنسان في الطبيعة، إنما فقط منذ دخوله مع أبناء جنسه في علاقة تقوم على أساس الحاجة المشتركة إلى تنظيم الاجتماع الإنساني (العمران المدني)، وليس فقط على رابطة الدم، أو إعادة إنتاج النوع في القفار والغابات. وثالثا في إن المشروع، الذي يهم فلسفة التاريخ الهيغلية، هو الكشف عن الماهية الخفية والعميقة، التي تنطوي عليها تلك الحضارة، أي الكشف عن ذلك الذي يدعوه ابن خلدون «باطن التاريخ»، ويدعوه هيغل «مضمون التاريخ».
اما بالنسبة للديالكتيك الهيغلي فانه يتجاوز الجدل الخلدوني بعيدا في مختلف مجالاته برغم اقرارنا بالاهمية الكبرى لمركزية موضوعة الصراع أو التناقض في فكر ابن خلدون، وأهمية ما ينتج من هذه الحركة، من معطيات جديدة في التاريخ، على صعيدي الدولة والمعرفة وبقية جوانب العمران البشري. صحيح «إن الموضوع الجدلي للحياة والموت، ولوحدتهما ولتعارضهما، والمرتبط وثيق الارتباط بتطور الكائن، منذ ولادته حتى نهايته، يحتل مركزاً كبيراً في مفاهيم ابن خلدون، إلى درجة ليس في مقدور المرء الا يكون مأخوذاً بالطابع الجدلي لديه» كما يقول الباحث الفرنسي إيف لاكوست. بيد أن المنهج الجدلي الخلدوني محدود جداً، ومحكوم بمبدأ السببية من جهة، وعفوي وخارجي، إذا جاز التعبير، من جهة أخرى. بل أن الفصل المخصص لمفهوم الجدل في «المقدمة»، يبدو سطحياً، مقارنة بالطابع العميق لمعظم الفصول النظرية الأخرى.
أما عند هيغل، فإن المنهج الجدلي، يبدو كأنه العمود الفقري والقلب النابض لكل منظومته الفلسفية، وفي شتى جوانبها، التاريخية وغير التاريخية. ومع ذلك، فإن إمكانية استلهام هيغل للجدل الخلدوني، في موضوع التاريخ، تظل محتملة بالقدر الذي كان ابن خلدون أول من جعل النفي والتناقض مصدر التقدم في العمران.
ومن المفاهيم الهيغلية الاخرى التي كانت ستهم الوردي بشكل خاص نظرا لعلاقتها بنظريته الاجتماعية الى جانب تماثلها مع افكار خلدونية، نشير بشكل خاص هنا الى دور العصبية في العمران البشري، ومبدأ صراع البداوة والحضارة في المجتمعات، واسباب نشوء الدول والأطوار الطبيعية للدولة وسواها…
فبالنسبة للعصبية، نعرف، إن جنين الدولة، عند ابن خلدون، موجود بالقوة في إطار العمران البدوي، وينمو تدريجياً في خضم صراع القبائل وتناحرها من أجل البقاء. لكن العصبية لا تولد، بالفعل، إلا عندما تندفع قبيلة كبيرة ما، أو تحالف قبائل للاستيلاء، بالقهر والحرب، على أحد مراكز الحضارة. فهذه الوحدة، الموجودة طبيعياً بحكم علاقة الدم والنسب، لا تحقق وجودها الفعلي في التاريخ، الا عندما تتحول إلى طاقة متجهة خارج كيانها، يسميها ابن خلدون «العصبية»، وهي حالة من الروح الجماعية، ليست قوة أخلاقية، كـ«الفضيلة» عند ميكافلّي، كما أنها ليست رابطة عرقية، كـ«نقاء الدم» عند غوبينو، وأخيراً، ليست رابطة المصلحة الاجتماعية او الاقتصادية الذاتية المباشرة، كـ«الانتماء الطبقي» عند ماركس. إنما هي رابطة نسب، بالمعنى الواسع وحتى المجازي، لأن النسب، عند ابن خلدون، لا يستمد حقيقته من علاقة الانتماء القومي حصراً، انما من العلاقات المباشرة، التي تفرضها متطلبات ومعطيات ضرورة الاجتماع البشري. أي بالعلاقة التي تستلزمها المصلحة العامة للجماعة، في لحظة الاندفاع للاستيلاء على مكاسب المدنية.
هذه العناصر عينها، هي الرئيسية أيضاً في إمكانية ظهور الدولة، عند هيغل. اذ أن الظهور الأول للدولة لديه يتموضع في اللحظة التي تبلغ التناقضات في «البنى العائلية» نقطة، يصبح معها انفجارها محتماً، ويعبر عن نفسه في اندفاعة نحو الخارج، تتماثل بشكل مثير مع اندفاعة القبيلة البدوية عند ابن خلدون، لاكتساب الحضارة. ولعل ما يضاعف من هذه الإثارة، هو أن هيغل يعتبر القبيلة البدوية العربية تحديداً، بمثابة الجماعة الإنسانية الأولى، التي أطلقت حركة ولادة الدولة. وبالفعل، إن قبائل العرب البدوية، وكذلك التتر، هي بالنسبة إلى هيغل، أقوام ضالة في الاصل، غير مستقرة، وطبيعية، يحكمها مبدأ روحي عفوي، يجعلها خارج التاريخ، ما دامت مكتفية بحياتها البسيطة في صحاريها. لكن وبدون أن تتطور، هي نفسها، إلى مرتبة التاريخ، فإن هذه الشعوب لها، مع ذلك، قوة اندفاعية قادرة بفضلها على تغيير هيئتها: “إن ما هو خاص بها حياتها الضالة، غير الواعية، التي عندما لا تجري بطمأنينة، يمكن أن تتحول إلى أعمال نهب، مع التجمع أحياناً، في كتل كبيرة، تهاجم السهول».
لكن هذه الهجمات تتمخض غالبا عن شكل أولي للدولة، سرعان ما يتطور، مكتسباً معطيات دولة الحضارة نفسها، التي قام الغزاة بتدميرها. إذ يرى هيغل أن بنية هذا التجمع المتحرك، هي بعد بنية بطريركية، «لكنه يترك نفسه يندفع في خوض حروب وغزوات داخلية وأيضاً هجمات عدائية ضد الشعوب الأخرى، التي يخضعها المنتصرون، أولاً، ثم يمتزجون فيها بعدئذ». فلئن كانت هذه الكتل، لا تصل إلى مرحلة التطور وإلى اكتساب التحضّر الفعلي، فذلك لأنها «لا تكتسب الحضارة، إلا بعد استقرارها في السهول التي احتلتها، والتي تفقد طابعها الخاص. لكن الغزوات تكون قد أحدثت حركات هائلة، وأدت إلى ولادة الخراب والانقلابات في الشكل الخارجي للعالم».
وهكذا، فمفهوم «العصبية» يتضمن في فكر هيغل ما يسميه «البنية البطريركية»، الخاصة بتلك التكوينات القبلية البدوية العربية أو المغولية، التي تغزو الحواضر. الا أن تلك البنية ذاتها تتأكد بشكل أكثر قوة وثراء، في مفهوم «روح الشعب» (Volksgeist)، الذي يمثل أحد الأسس الجوهرية، في الفلسفة الهيغلية، حول الدولة وحول التاريخ الكوني إجمالاً. وتتمثل ماهية «روح الشعب» في أن «ما بينها وبين الأفراد، هي العلاقة نفسها التي بين الأجزاء والكل الذي هو جوهرهم». إنها، إذاً، روح جماعية، تطبع جميع مظاهر حياة ونشاطية ذلك الشعب، بموجب المبدأ الخاص به، ومهمته التاريخية الموكلة إليه من قبل الروح المطلق.
على صعيد التاريخ الفعلي للدولة ايضا، هناك تماثل مدهش بين منظوري هيغل وابن خلدون، لا سيما من جهة تسلسل الأطوار الطبيعية لحياة الدول. فكلاهما يرى أن الدولة أشبه بالكائن الحي، يولد وينمو ثم يهرم ويموت، وأن التاريخ هو سلسلة متعاقبة من الدول، تمر كل واحدة منها في دورة تطور، تتضمن عدة حلقات تتوالى بشكل حتمي. اذ ان أطوار حياة الدولة، في المنظور الهيغلي، تقتصر على الأربعة التالية: طور ولادة الدولة وانطلاقها، وطور الشباب والرجولة، حين تبلغ الدولة تحقيق الهيمنة والازدهار وكافة الانتصارات الأخرى. وطور الكهولة والهرم، الذي تفقد فيه الدولة حيويتها السابقة، وهي أيضاً الفترة التي تبدأ فيها نهاية قوتها التاريخية، لمصلحة ضرورة انبثاق دولة جديدة، تحمل مبدأ أسمى، وتحت قيادة شعب تاريخي جديد. وطور المصير المفجع الذي هو موت الدولة وانقراضها.
من جهة اخرى أن التوالي في الأطوار الطبيعية للدولة عند هيغل، هو عينه تقريباً عند ابن خلدون. وهو لا يتعلق بتوالي سلسلة من المراحل الاجتماعية أو السياسية أو الأنماط الحضارية، إنما هو تتابع لمستويات في قوة الرابطة الجماعية، التي تقوم بفضلها الدولة. فكما أنها مرتبطة بدرجة قوة «العصبية»، عند ابن خلدون، فإنها مرتبطة بحال “روح الشعب”، عند هيغل، سواء بسواء. كما أنهما يشتركان في القول بأن سقوط دولة ما، يفضي، بالضرورة، إلى قيام دولة أخرى جديدة، وأن انهيار الدول والأمبراطوريات، ليس عرضياً، إنما نتيجة حتمية لمنطق التطور عينه.
اما اخيرا عن أهم جوانب العلاقة بين هيغل وابن خلدون في مفهوم توحش البدو، فنعرف أن جدالاً واسعاً، جرى حول تأكيدات ابن خلدون «أن العرب، اذا تغلبوا على أوطان، أسرع إليها الخراب. والسبب في ذلك أنهم أمة وحشية.. فصارت طبيعة وجودهم منافية للبناء، الذي أصل العمران». أو أن العرب «أبعد الأمم عن سياسة الملك»، أو أنهم «بطبيعة التوحش الذي فيهم، أهل انتهاب وعيث». وهو رأي يعممه أحياناً، ليشمل الأتراك والتتر وكل الجماعات القبلية الكبيرة ذات «العمران البدوي».
هذه الأحكام عينها، نجدها لدى هيغل أيضاً. فبالنسبة إليه، ان العرب والأتراك والتتر، «نجحوا، بفضل الفتوحات، أن يبلغوا الهيمنة والثروات وحق العائلة المالكة في الهيمنة والروابط بين الأفراد. إلا أن كل هذا، لم يكن إلا عابراً ومشيداً على الرمل. لأنه يقوم في يوم، وينهار في الغد منه». وذلك لأن هذه الشعوب البدوية، لا تبالي ببناء دولة أو حضارة، رغم كل مظاهر الحماس والقوة، التي تتمتع بها. فما تهتم به أساساً، هو نهب وإخضاع الشعوب المتحضرة، ولا تترك من أثر سوى «الخرائب والدمار».
بداهة، ان جميع هذه المفاهيم نجدها لدى علي الوردي في نظريته حول المجتمع العراقي الحديث بصيغ خلدونية او قريبة منها، انما بدون الصرامة المنهجية للجدل الهيغلي بل بدون المنهجية البدئية للمنطق الخلدوني.
ان مفهوم العصبية الخلدوني مثلا نجده عند علي الوردي انما بصيغ طارئة. ففي كتابه “دراسة في طبيعة المجتمع العراقي” المعاد طبعه سنة 2007 يعرض الوردي تصوره لاحد مظاهر “العصبية” عبر سرد الحادثة التالية: “حدث لي في عام 1939 ان كنت مسافراً مع زملاء لي من الطلاب الى بابل، وفي القطار تشاجر احد زملائي مع احد الجنود وصفعه على وجهه. وشاء سوء الحظ ان يكون القطار مملوءاً بالجنود، فانتشر بينهم الخبر، وتجمعوا يريدون الأخذ بثأر زميلهم منا، بلا تفريق، كان كل جندي يحاول البحث عن أي طالب ليعتدي عليه، ولكن القدر ساعدنا في اللحظة الاخيرة فنجونا بجلودنا، واطلقنا سيقاننا للريح لا نلوي على شيء.. كان الجنود من قبائل مختلفة، ولكن “العصبية الجندية” هي التي سادت بينهم في تلك الساعة، فأصبحوا كأنهم قبيلة واحدة تجاه قبيلة اخرى معادية لهم هي قبيلتنا نحن الطلاب المساكين!
هذا التصور مستلهم على الاغلب من مفهوم لابن خلدون يعتبر أن “العصبية إنما تكون من الالتحام بالنسب أو ما في معناه وذلك أن صلة الرحم طبيعي في البشر إلا في الأقل ومن صلتها النعرة على ذوي القربى وأهل الأرحام أن ينالهم ضيم أو تصيبهم هلكة فإن القريب يجد في نفسه غضاضة من ظلم قريبه أو العداء عليه ويود لو يحول بينه وبين ما يصله من المعاطب والمهالك نزعة طبيعية في البشر مذ كانوا”. فالنسب عند ابن خلدون “أمر وهمي لا حقيقة له”، الا ان له نفع في هذه الحالة، بفضل تحوله الى نوع من الولاء والحلف المتمثل في النعرة التي تحمل عليها العصبية أي “نعرة كل أحد على اهل ولائه وحلفه للألفة التي تلحق النفس من اهتضام جارها أو قريبها أو نسيبها”.
وكما ذكرنا فان الوردي لم يمنح الافكار الفلسفية بما فيها الخلدونية الاهتمام الكافي بل تركها تتراجع لديه مع مرور الوقت وربما بسبب غلبة مهمة الاستغراق في بحث حوادث وظواهر المجتمع العراقي وتدوينها وتحليلها في مؤلفات صارت اكثر فاكثر شهرة واثارة للسجالات بسبب روحها المشبعة بمفاهيم الصراع والتطور والحرية.