
د. حسين الهنداوي *
بصورة أكثر منهجية وحسماً من سابقيه، لا سيما عمانوئيل كانت وفريدريك ويلهلم شلنغ، وضع الفيلسوف الالماني جورج فيلهلم فريدريك هيغل Georg Wilhelm Friedrich Hegel (1770–1831)، التاريخ في مركز فكره الفلسفي. وبالفعل، ان الاهتمام الذي اولاه للتاريخ كموضوع بذاته لم ينحصر في محاضراته الشهيرة التي ألقاها على طلابه في جامعة برلين خلال سنواته الاخيرة (1818-1831) وجمعت ونشرت بعد وفاته بعدة معدة مؤلفات، والتي ركزت على “فلسفة التاريخ” خاصة وعبرها على تاريخ الفلسفة وعلى فلسفة الدين وعلى فلسفة الفن كمجالات قائمة بذاتها. انما “ومنذ خطواته الاولى، كان الفكر الهيغلي فكراُ حول التاريخ البشري”، كما كتب جان هيبوليت[1]. بل ان خطابه الفلسفي، في دروسه حول “فلسفة التاريخ”، يكاد يتمركز بشكل احادي على “التاريخ العام للبشرية” بمراحله الكبرى المعروفة وبالمعنى المعتاد او الاكثر شيوعاً لهذه التسمية، الى درجة ان هيغل يحترم التسلسل الزمني لمجرى الاحداث، منطلقا من الاقدم بينها للوصول الى ما هو اكثرها فاكثرها حداثة، لا بموجب مراحل منهجه الاستنتاجي الخاص، انما بموجب تتابعها الزمني الفعلي نفسه. لكن، واذا كان ذلك التاريخ العام للبشرية، بجزئه المكتمل، محدوداً بشكل صارم على صعيدي المكان والزمان لديه، واذا كان العالم الارضي هو الميدان الوحيد الخاص
- [1]) جان هيبوليت Jean Hyppolite (1907-1968) مفكر فرنسي واهم مرجع غربي للفلسفة الهيغلية في القرن الماضي، من مؤلفاته الرئيسية لها وارزها “مدخل إلى فلسفة التاريخ عند هيغل”، و”جذور وبنية فينومينولوجيا الروح عند هيغل”، و”المنطق والوجود: محاولة حول المنطق عند هيغل” و”دراسات حول هيغل وماركس”…
بتقلباته وصيرورته، فان العالم الأرضي ينقسم بدوره الى عالمين اثنين متميزين ومنفصلين جوهريا وهما “القديم” و”الجديد”.
العالم الجديد يتركه هيغل جانباً ولا يدخل عمليا في اهتمام فلسفته. وهو يقتصر في الواقع على القارة الامريكية، بلاد المستقبل. وهذا الاخير لا يشكل بالتالي جزءا من التاريخ في المفهوم الهيغلي، نظراً الى ان التاريخ بطبيعته متعلق لديه بما هو ماضي، وفقط بما هو ماض، بينما القارة الامريكية كانت تبدو بلا مضمون حضاري في عصره، اي قبل قرنين من الزمن.
وعلى العموم، لقد أظهر هيغل حذرا عميقاً من نزوة الانزلاق الى اطلاق اي تكهنات او نبوءات بشأن المستقبل وتاريخه المحتمل، كما لاحظ بدقة استاذنا الراحل البروفسور جاك دونت.
وهكذا فالعالم القديم، هو وحده، ما اعتبره مسرحا لـ “موضوع” التاريخ الكوني. وذلك العالم القديم ينقسم بدوره الى ثلاثة اجزاء او قارات هي افريقيا وآسيا واوربا. بيد ان هذا الانقسام يظل ثانوياً لأن العالم القديم ينحصر في المحصلة الاخيرة بمنطقة واحدة تحتل منزلة المركز او القلب منه، وهي حوض الابيض المتوسط تحديدا. فهذه المنطقة حسب هيغل: “تمثل عنصر الربط والجسر المركزي في تاريخ العالم… ولأن كل الدول الكبرى في التاريخ القديم وجدت حول هذه المنطقة المنخفضة من الارض.. لهذا فالابيض المتوسط هو قلب العالم القديم، يطبعه بطابعه ويحييه بحركته، ولن يكون ممكناً الحديث عن التاريخ الكوني بدونه”.
هذا على مستوى المكان. اما على مستوى الزمان, فالتاريخ الكوني لم يبدأ مع ولادة الانسان في الطبيعة، انما فقط منذ اللحظة التي “يبدو تطور الروح فيها متزامناً مع تطور تاريخي فعلي” في الحياة البشرية الفعلية. لأن التاريخ الكوني حسب هيغل، هو تاريخ تشكل الوعي الانساني عن الروح مأخوذة كواقع “فوق فردي”، اي كبشرية. وبعبارة اخرى، يتمثل التاريخ الكوني بجهود نحو 6000 سنة هي التاريخ الفعلي المعلوم للعالم وهي فترة ملموسة تبدأ من الطوفان لغاية العصر الحديث، ومن ظهور اول شكل للدولة “حتى الثورة الفرنسية” اي حتى فترة هيغل.
هذه التحديدات الدقيقة، المكانية والزمانية، مهمة جدا بالنسبة لدراستنا حول هيغل والاسلام، لانها تكشف لنا جلياً من جهة ما الموقع الذي يحتله عالم جنوبي الابيض المتوسط، باعتباره مهد ونطاق حركة الاسلام، من دور حاسم في صنع التاريخ البشري. وتكشف من جهة اخرى استحالة ان تستطيع فلسفة للتاريخ اغفال منح الاسلام مكانة جوهرية في تطور التاريخ الكوني، لا سيما اذا كانت تدعي كل تلك المنهجية الصارمة والرصانة كالفلسفة الهيغلية. وهذا الحال يوضح سلفا الاسباب التي اوجبت على هيغل، في رأينا، تخصيص مكانة متميزة وحيوية للعالم الاسلامي في فلسفته حول التاريخ خاصة، ومن هنا بالتحديد يتأتى منبع مفهومه الخاص عن الاسلام والذي سنحاول في هذه الدراسة التركيز المنهجي عليه للكشف عن ماهيته الجوهرية ومضامينه الاكثر اكتمالاً.
لكن، ولأجل جعل هذا المفهوم الهيغلي حول الاسلام واضحاً، ينبغي علينا قبل اي شيء ان نقدم عرضاً مختصراً للمنظور الهيغلي حول فلسفة التاريخ بشكل عام، يسمح لنا بتلمس المكانة التي يخصصها للعالم الشرقي تحديدا، والتي بدون فهمها جيدا سيكون عسيراً التغلغل في معرفة مختلف جوانب المنظور الهيغلي الخاص بمكانة الاسلام، بكل تعقيداتها وخصائصها والاساس العقلاني لهذا المنظور في الفلسفة الهيغلية. وبالفعل، فالاسلام من وجهة نظر الفلسفة الهيغلية ليس ديناً فحسب، انما هو ايضا، وخصوصا، حركة مستقلة ومتميزة وحاسمة في سيرورة تطور التاريخ الكوني تمتلك ديالكتيكها المستقل بذاته في ديالكتيكه العام، كما تمتلك دوراً وضرورة شديدي التعقيد خاصين بها.
التناول الفلسفي للتاريخ
بدون التوقف طويلاً امام ما يسميه هيغل بـ “فلسفة التاريخ”، نستطيع القول ان التاريخ، الذي هو موضوع افكاره الفلسفية، هو التاريخ العام للانسانية بمعناه المعتاد لدينا. فرغم تعقيدات منهجه التأملي المحض، كان هيغل ثابت اليقين بوحدة النوع الانساني وبوحدة تاريخه ايضا. ففي نص معروف جداً يتعلق بهذا التاريخ، يؤكد هذا الفيلسوف على “ان الفكرة التي تسود عموماً حول مفهوم التاريخ الانساني هي فكرة كافية، ونتفق معها الى هذا الحد او ذاك”. بيد ان المشروع الذي يقترحه هيغل لنفسه، هو الكشف عن المضمون ذاته الخاص بذلك التاريخ. والحال ان عرض هذا “المضمون ذاته” لا يمكن ان يتم الا عبر الفلسفة التي بدورها لا يمكن ان تقتصر على مجرد العرض انما عليها ايضا اكتشاف وتحليل شروط امكانية تكوين ادراك عقلاني للاحداث الانسانية التي حصلت في الماضي. وهذا الادراك هو “هدف فلسفة التاريخ” على وجه التحديد.
التاريخ الانساني هو كامل الانتاج المادي والروحي للانسان التاريخي اي الفعلي. لكن، ومقابل هذا المجموع من الانتاج، “لدينا امام العين لوحة هائلة مصنوعة من فعاليات وانشطة لأنواع متباينة الى اللانهاية من الشعوب والدول والفرديات تتوالى الواحدة بعد الاخرى بلا كلل.. ومن عقول خاصة تتابع اهدافا خاصة بها عبر حركة ابدية.. وفي خضمّ لوحة هائلة تفجر فينا مشاعر متنوعة، تثير الانبهار غالباً، ليس فقط بالتفاصيل اللامنتهية التي تعرضها انما خصوصاً، عبر هذا التجدد الذي لا يعرف توقفاً، وعبر “مشهد صراع آخاذ حيث حالما ينتهي شيء فيه، ينهض شيء آخر ليأخذ مكانه”[1].
امام كل هذا المشهد ثمة سؤال ينبثق: ماهي الغاية التي تشترك في السعي الى تحقيقها كل هذه العقول الفردية معاً؟ لأن من غير العقلي انها تستهلك نفسها وبكل هذه الحيوية لمجرد متابعة اهداف خاصة بها، انما لا بد من ان اعمالها جميعاً تساهم في صنع عمل كوني ما خارج ارادتها الخاصة!. فالمسألة اذن، بالنسبة لهيغل، هي معرفة “فيما اذا وتحت الاشتباك الذي يهيمن على السطح، لا يتم انجاز عمل صامت وسري توضع فيه طاقات كل هذه الظواهر”. بكلمة اخرى “في التاريخ الكوني، يترتب عن نشاطات الناس شيء ما آخر غير ما يعرفونه ويريدونه آنياً. انهم يهدفون الى تحقيق مصالحهم، الا انهم يقومون في الوقت ذاتهه بانتاج شيء آخر، شيء خفي لا يبلغه وعيهم ولا يدخل في حساباتهم”[2]، وهذا “الشيء الخفي يتحقق بالشكل التالي “عبر سعي الافراد لتحقيق ما هو خاص، ينتجون ما هو عام”.
هذا الامر يفترض بالضرورة وجود “قوانين كونية للتاريخ ليست من صنع الافراد او هدفوا لوضعها من خلال نشاطهم: الافراد يصنعون تاريخهم الا انهم لا يصنعونه بارادة منهم، ولذلك يبدو التاريخ لهم دائما “كقوة اسمى منهم، وبالتالي قوة خارجية، بل وغريبة عليهم احياناً، على الرغم من انها نتاج عملهم هم في الواقع”[3].
يجب الاعتقاد عندئذ بان هناك ارادة سامية وعليا، وبالتالي روح كونية هي التي توجه الاحداث والنشاطات، وهي التي قادت ولا تزال تقود الارواح الخاصة، روح كونية “شبيهة بميركور سائق الارواح” في الاساطير الاغريقية القديمة[4].
بلا ريب، اننا هنا حيال التبني الهيغلي المفلسف للفكرة المسيحية الخاصة بالعناية الالهية. الامر الذي يوحي سلفاً، بان هيغل، ومهما قيل عن صرامة نزعته العقلية، هو فيلسوف ولد وتربى في احضان الثقافة المسيحية، وان فلسفته تتضمن تفسيراً جديداً واصيلا فعلا لمسار العالم، الا انه تفسير مسيحي في جوهره.
وعلى اية حال، وانطلاقاً من فكرة ان روحا عليا تقود العقول الخاصة في عملية صنع التاريخ العالمي، يصبح لزاماً الاقرار بان التاريخ يجب ان يمتلك معنى. لكن هذا المعنى لا يظهر مباشرة كما لا يعلن عن نفسه دفعة واحدة. من هنا، فلبلوغه، وايضا لادراك ماهية تلك القوة العليا التي تتحكم بارادات الناس وانشطتهم دون علمهم، ينبغي استدعاء الفكر الحيوي الفاعل، اي الفكر الواقعي الملموس، وذلك لأن “التاريخ حقيقي بالقدر الذي نتأكد من حقيقية مضمونه، لكن هذا المضمون لا يظهر مباشرة بل يتطلب بحوثا عديدة تستدعي الفكر”[5].
الاعتبار الفلسفي الهيغلي للتاريخ اذن هو الاعتبار المتفكر بالتاريخ ولا شيء غيره. اما لماذا لا يمكن التخلي عن الفكر؟ فذلك “لأن الانسان كائن مفكر”. وبالتالي فان كل ما هو انساني يتضمن الفكر بالضرورة. وهذا الفكر يفرض حضوره دائماً كلما كان التاريخ موضع الاهتمام”.
وما دمنا بشأن هذا المفهوم في الفكر الهيغلي، ينبغي علينا التأكيد هنا، ان “الفكر الملموس حقاً” عند هيغل هو ليس الفكر الذي ينبثق ويعبر عن نفسه مباشرة عبر انتاج تمثلات جزئية او انفعالية عن الواقع، وبشكل خاص عن الانسان الملموس. انما هو ذلك الفكر الذي، وفي ما وراء سماته البديهية في التطبيق ووضعيته الخاصة، يعرف اعادة اكتشاف الكلي الحقيقي المتكون من مختلف خصائصه الجوهرية التي تكون قد تطورت معاً.
ان لزومية تدخل الفكر تفرض نفسها اكثر هنا على كل من يريد اكتشاف ليس الانسان الفرد وحسب، بل ايضا وخاصة الانسانية بشكل عام. وبكلمة، انه الفكر الفلسفي ولا شيء غير الفكر الفلسفي ما يسمح بفهم مضمون التاريخ الكوني. وهيغل يؤكد نفسه ذلك قائلا: “انها الفلسفة بالتحديد لأنها وحدها من يستطيع الكشف عن العقلاني، ووحدها من يستطيع في الوقت نفسه فهم القائم والفعلي[6]، ذلك لان الفلسفة هي الضمان الوحيد ضد ضلالات الادراك، لا سيما وأن الحقيقي لا يمكن ان يكون الا عقلانياً في نظر هيغل: “الفكرة ملموسة اساساً، لأن الحقيقي ليس مجردا، والمجرد هو ما ليس حقيقياً”.
بلا شك، ان الفلسفة تتحرك داخل مناطق الفكر المحض. لكن مضمونها يجب ان يؤخذ كفكر ملموس: “الفكرة، كفكر محض، مجردة بلاشك لكنها بذاتها ملموسة بشكل مطلق. ومن هنا لزوم تدخل الفلسفة للكشف عنها. لان الفلسفة هي الاكثر رفضاً للتجريد، بل هي بشكل ادق تكافح التجريد معلنة الحرب على التمثلات الذهنية بشكل دائم. الامر الذي يعني ان الفلسفة وحدها من يستطيع قراءة ما هو خفي في التاريخ. وقبل تناول الطبيعة والاشكال المختلفة، الذي يقوم هذا العقل الالهي المطلق باضفائها على نفسه في التاريخ الكوني الفعلي، يجب علينا ان نسجل الملاحظة التالية حول نظرية فلسفة التاريخ الهيغلية: في “فينومينولوجيا الروح” التي تضم مجموعة الافكار العامة لكل المنظومة الفلسفية الهيغلية، تبدو الفلسفة بمنزلة “العلم المطلق”، اي انها، كما لاحظ جان هيبوليت[7]، ليست منطقا كـ “قانون المنطق” (الاورغانون) الارسطي الذي يدرس اداة المعرفة قبل المعرفة، كما انها ليست “حب الحقيقة” الذي لا يمتلك حتى هذه “الحقيقة” المجردة، انما هي “علم” او “علم المطلق” بالتعريف الذي يتبناه الفيلسوف الالماني شلنغ. الا ان هيغل يطور المفهوم الخاص بهذا “العلم” وبذلك “المطلق” ايضا. فهذا الاخير لا يعود في الفلسفة جوهرا فحسب، وانما يصبح ذاتا ايضا. اي ان المطلق لا يصبح عندئذ خارج اي معرفة او عصيّاً على كل معرفة انما يصبح هو ذاته المعرفة، وتصبح الفلسفة تحديدا عندئذ وعي او معرفة “الذات” كهدف او ضمن وعي او معرفة “الموضوع” او المطلق. فالفلسفة اذن لا تتدخل لتنتج او تبني معرفة، انما لتكشف عبر العقل الجزئي عن ماهية المعرفة التي يملكها المطلق عن ذاته، ولتعرض سلسلة مراحل او مستويات تطور وعيه عن ذاته.
الله يحكم العالم
بالمقابل توصل هيغل الى يقين آخر وهو أن الفكرة الوحيدة التي تقدمها لنا الفلسفة في علاقتها مع المادة التاريخية هي هذه “الفكرة البسيطة حول العقل”: ان “العقل يحكم العالم”، وان التاريخ الكوني بالتالي يسير عقلانياً هو الآخر[8]. وهذا اليقين ليس افتراضاً ذهنياً، انما نتيجة لدراسة مجمل التاريخ الكوني. ففي التاريخ الكوني تسود الضرورة بلا منازع رافضة اي مساس او تجزيء لسلطتها. وهكذا يرفض هيغل كليا الاقرار باي دور للصدفة. بل يجعل اقصاء الصدفة هدفا اولا واساسيا للفلسفة، بل الهدف الوحيد: “لا هدف آخر للتفكير الفلسفي سوى اقصاء المصادفة”. وبالتالي اقصاء العرضي والخارجي اللذين هما شيء واحد من وجهة نظر الفلسفة، وكذلك اقصاء ضرورتهما لكونها منبثقة عن اسباب وظروف هي ذاتها خارجية.
الاسس المنطقية لفلسفة التاريخ تكمن اذن في الحقيقة المفهومية التالية التي نتلمسها فلسفياً: العقل يحكم العالم. وبالتالي يغدو من الثابت للفلسفة عبر المعرفة التأملية: ان التاريخ الكوني تمّ عقلانياً، اي بإرادة عاقلة، ما يعني ان العقل هو جوهره كما انه قوته اللامتناهية ومادته اللامتناهية وما يحقق مضمونه الخاص. ولتوضيح هذا التعريف الذي يقدمه للعقل يضيف هيغل التحديدات التالية:
- انه جوهر اي انه ذلك الذي تجد كل حقيقة كينونتها ومادتها عبره وفيه.
- وانه القوة اللامتناهية بذاته، اي انه ليس ضعيفا الى درجة انه لا يكون الا كمثال، او مجرد واجب وجود، لا يوجد في الواقع، انما في مكان ما مجهول..
- وانه المضمون اللامتناهي بذاته، اي انه كل ما هو جوهري وحقيقي، ويتضمن بذاته مادته الخاصة التي يقدمها كي تتبلور عبر نشاطها الذاتي الخاص. اذ هو ليس كالفعل اللامتناهي بحاجة الى مواد خارجية والى وسائل معطاة، ليقدم نشاطيته عبر العناصر والموضوعات، بل هو لذاته المادة التي يشتغلها.
- انه فرضيته الخاصة، اما غائيته فهي الغائية المطلقة. ولذا فان غائيته تقوده الى الانتقال من الداخل الى الخارج ليس فقط في العالم الطبيعي انما ايضا في العالم الروحاني، وبالتالي في التاريخ الكوني.
وباختصار فان “الفكرة” كمفهوم فلسفي تعني “العقل المطلق” لدى هيغل، ولذلك فهي “الحقيقي الازلي” وهي “القوة المطلقة”، وانها هي من يتجلى في العالم ولا شيء يتجلى غيرها وغير جلالها وبهائها. وهذا تحديدا ما تسعى الفلسفة الى ان تثبته وما يفترض ان تثبته[9].
ان اهمية الافكار المتضمنة في الفقرات اعلاه اساسية، في رأينا، لفهم فلسفة هيغل بشكل عام وفلسفته للتاريخ بوجه خاص. فعبرها نجح ان يضع اسس نظريته الخاصة حول السيرورة التساموية للتاريخ البشري او الكوني، وحول ضرورة هرمية ما يسميه “الارواح الخاصة” او “الجزئية” (اي “الشعوب”) التي تصنع التاريخ الكوني بدمائها وطاقاتها وعبقرياتها دون ان تكون جوهره، ما دام ذلك الجوهر ليس الا الروح الكونية وحدها او المطلق وحده (اي الله). ولهذا ينبغي ان نبحث في التاريخ عن “هدف كوني” أوحد، او عن هدف نهائي او شمولي او عام للعالم، وليس عن هدف خاص بروح ذاتية لأمة او شعب او بمشاعر انسانية لحضارة او حقب زمنية. كما ان علينا تلمس ذلك الهدف الكوني الاوحد عبر العقل وحده، لأنه الوحيد الذي لا يجد مصلحة له في اية اهداف غير “الهدف المطلق”، الذي هو مضمون يشهد بذاته عن ذاته ويجد كل ما يجذب اهتمام الانسان اساسه فيه. كما انه العقلاني الموجود في ذاته ولذاته، والذي منه قيمة لكل ما هو ذو قيمة في التاريخ. والذي لا تغير في طبيعته، التي هي ان يكون هدفاً، معطياً نفسه اشكالا متباينة تتجلى وتطرح نفسها باقصى الوضوح في التاريخ عبر تلك العناصر المتعددة الاشكال التي نسميها “الشعوب”: لا يمكن فهم التاريخ الا مع الايمان بفكرة أن “عالم الارادة لا يقوم على الصدفة انما على الضرورة، اي ان هناك هدف نهائي يهيمن على حياة الشعوب ويقودها وفق مخطط الهي.. وعليه، فالعقل حاضر في التاريخ الكوني، ولكن ليس العقل الذاتي والخاص انما العقل الالهي والكلي والمطلق.
العلاقة بين العام والخاص
العقل يحكم العالم، وبالتالي فان المحتوى الهائل للتاريخ هو محتوى عقلاني بالضرورة بل “يجب ان يكون عقلانياً”. فما الذي يعنيه هيغل، في اطار فلسفته للتاريخ، بهذا المفهوم المركزي: العقل؟
نستطيع القول باختصار ان هذا “العقل” هو الله. وهيغل نفسه يؤكد ذلك مرارا كالاعلان “ان التمثل الاكثر ملموسية لهذا العقل هو “الله” ضمن تعريفه المسيحي، و”اللوثري” حصرا دون ادنى التباس ممكن. وحسب كلمات هيغل نفسه، ان “مفتاح التاريخ الكوني اعطي لنا عبر الدين المسيحي في رأيه”[10]، وذلك لأنه: “اذا كانت فكرة ان العقل يحكم العالم هي فكرة فلسفية محضة، فانها يمكن ايضاً ان تطرح بصيغتها الدينية لتعني ان العناية الالهية تهيمن على العالم”. وهذه الصيغة الدينية هي الصيغة المسيحية اللوثرية تحديدا. لكن، وبما ان هذا الشكل من الصيغ متأت من تمثل عام، وبالتالي غير كاف، فان الفلسفة يجب ان تتدخل. وهكذا، وبعد وضعه في اطار التاريخ، فان العقل يستخدم التاريخ كي يتجلى، اي يتجسد على شكل ارادة عامة.
بعبارة اخرى، اننا لا نستطيع معرفة حقيقة الله عبر الايمان وحده او المشاعر الدينية وحدها. لأن الايمان والمشاعر الدينية تظلان في المحصلة الاخيرة وسائط او سبل كشف ذاتية وبالتالي غير موثوقة. لذلك علينا ان نكون مسلحين بالفكر الفلسفي. باعتباره الشكل الاكثر صفاء وضمانا في تمكين الفكرة الالهية من التجلي عبره في العالم. الامر الذي يترتب عليه بداهة ان العالم الانساني، والعالم الانساني وحده، هو موضوع فلسفة التاريخ.
اما لماذا العالم الانساني وحده فذلك لأن الانسان هو تحديداً الكائن المفكر الوحيد في العالم الطبيعي.
بلا ريب، نحن نستطيع ان نتعرف على الله في كل مظاهر العالم الطبيعي، لكن هذا التعرف لا يتجاوز الحدس والشعور، لان الطبيعة ليست الوجود الواعي بل الوجود اللاواعي للفكرة الالهية. كما ان الطبيعة مهما تسامت لا تستطيع بلوغ مرحلة المفهوم بينما يتصرف الانسان كموجود مفكر حتى اذا لم يكن واعيا بانه يفكر. وهكذا، فعندما يكشف الله عن نفسه امام الانسان فذلك فقط لان الانسان كائن مفكر اساساً[11]. وان ما يميزه عن نظرائه من الكائنات الطبيعية هو استقلاليته الداخلية، اي كونه معرفاً كـ”انا”. فهذه الاستقلالية لا تعني أنه وهب قدرة على الحركة الذاتية وحسب، انما لكونه قادراً ايضاً على ايقاف او التحكم بهذه الحركة، والتمكن بفضل ذلك من كسر خاصيته كمجرد مباشر وكطبيعي، اذ ينتج عن هذه الانا التي هي وعي، ان الانسان باعتباره ارادة نشيطة يبدو في التاريخ كذات، وهذا هو الشرط الضروري لامكانية وجود التاريخ، لأن التاريخ هو تطور الله في العناصر المحددة، او كما يقول هيغل: “فقط في ميدان الروح تستطيع الفكرة الالهية ان تتجلى في عنصرها الحقيقي وتصبح ممكنة المعرفة”. وذلك لأن الله كروح مطلق لا يتعامل الا مع الروح لايصال حقيقته، ما يعني ان الروحي وحده الحقيقي فعلياً. ومن هنا الاستنتاج بأن التاريخ الكوني ليس الا تاريخ تجلي الله في عالم الروح المحسوس الوحيد وهو الانسان.
لنحاول الان ان نحدد العلاقة بين الكلي والجزئي، بين الالهي الانساني في التاريخ الكوني من وجهة نظر اوضح: الله يسود العالم كالقوة الابدية والمطلقة، اي انه بلغة المفهوم الفلسفي، العقل الأوحد. اما التاريخ الكوني فهو ليس الا احدى تجليات هذا العقل الأوحد، اي احدى الاشكال التي يتكشف فيها، او “نسخة من الانموذج الاصلي معبراً عن نفسه في العناصر الجزئية[12].
هذا الاقرار يفترض وجود منطق خفي وراء تعاقب الاحداث يفرض ان التاريخ لا يجب ان يختزل، في نهاية المطاف، الى حفنة من قضايا لامعقولة تحيرنا اصلاً، بل ان ينتج عن ذلك الاقرار بأن كل محاولة لتفسير التاريخ الكوني ينبغي ان تبحث في هذا الاخير عن هدف كوني هو الهدف النهائي للعالم. والاقرار ايضا بان هذا الهدف الكوني مقصود بذاته قصداً وليس عرضياً او طارئاً: “هناك قوة الهية عظيمة تسود العالم، وهدفنا معرفة هذه القوة او الارادة الجوهرية. والحال يجب لمعرفتها ان نستدعي العقل. اي يجب ان نتجنب النظر اليها عبر عيوننا الطبيعية او تصورها عبر ادراكنا المتناهي، انما ان نأخذها عبر عين المفهوم وحده، اي عبر عين العقل الذي وحده يستطيع اختراق السطح البراق للاحداث والمظاهر متغلغلا الى ما وراء الاشياء”.
بكلمة اخرى: العقل يحكم العالم. لكن الروح في التاريخ الكوني هي حقيقة العقل وتعبيره الاكثر ملموسية ودقة وشمولاً. وهيغل يحدد هذا المفهوم كما يلي: “العقل روح عندما يرتفع يقينه بكونه كل وجود فعلي، الى مستوى الحقيقة، والى مستوى وعي ذاته كوعي عالمه ووعي عالمه كوعي ذاته”.
التاريخ الكوني هو اذن صيرورة الروح وراهنيتها في المعرفة: العقل هو جوهر التاريخ، لكن الروح هي ذلك الجوهر صائراً ذاتاً تعرف نفسها نشيطة كوعي وتقدم ذاتها لذاتها. واستنتاجا، فان التاريخ الكوني، بالنسبة للفلسفة، لا يبدأ فعليا الا منذ اللحظة التي تظهر فيها الروح، التي هي الفكرة الالهية، كذات وكعقل في ذات الوقت، وليس كمجرد جوهر وحسب.
مكر العقل
لقد لاحظنا ان التاريخ الكوني هو السيرورة التي في غضونها تجعل الروح نفسها ممكنة الادراك حسياً في العالم الملموس الذي هو عالم الروح. لكن ما الطريقة التي تعتمدها الروح لتحقيق ذلك خلال التاريخ الكوني؟
البشر، حسب هيغل، ينظمون وجودهم عبر متابعة اهدافهم الخاصة. لكن وعبر جميع ما يقومون به كعقول جزئية، يتابع العقل المطلق تحقيق هدف كوني يخصه هو. ما يعني ان ذلك الهدف الكوني حاضر في كل الاهداف الخاصة التي تتابعها العقول الجزئية مستكملا تحققه التدريجي عبرها دون علم منها. فعبر انشطة البشر على الهدف الكلي الكوني ان يتحقق مستخدماً الجزئي الخاص. بكلمة اخرى، ان مجال الروح يشمل كل شيء، ويتضمن تالياً كل ما اثار ويثير اهتمام الانسان فينشط فيه. وذلك لأن الانسان مهما فعل، فانه الكائن الذي تنشط عبره الروح باعتباره مملكتها، اي أن مملكة الروح يجب ان تتحقق في الانسان كي تعبر الى وفي الوجود. لكن الروح يجب ان تفهم فقط بأنها نتيجتها الخاصة هي وليس نتيجة اي شيء خارجها. فالروح تنتشر في التاريخ عبر تنوعية لا متناهية من الظواهر والافعال الانسانية بداهة. الا انها مستقلة بذاتها وليست بحاجة الى ارادة البشر لتحقيق خطتها الكونية.
لتفسير هذا التحديد، يقر هيغل بوجود ديالكتيك تلقائي ينتج توافقا عميقا بين الحرية الفردية والضرورة الكونية، يسميه بـ “مكر العقل”. وهو “مكر” يستدرج الجزئي بموجبه الى خوض معركة الكلي الكوني بدلا عنه دون دراية منه وفي ذات وقت خوضه لمعركته من اجل تحقيق اهدافه المحددة والخاصة به. وهكذا، واذا كان الجزئي يخرج ظافرا او منتصرا في المعركة، فان ظفر او انتصار مؤقت ومحدود بالضرورة ومكلف كذلك نظرا الى أنه يسبب استهلاكه هو ايضا في تلك المعركة على الاقل. والحال ان الروح المطلق باعتبارها من يقرر اشعال المعارك لتحقيق هدف تحقيق وعيها الخاص عن ذاتها في العالم الملموس، ليست، بل الجزئي، من يدفع ثمن المعركة متحملا التضحية من اجل اعباء الكوني الذي يكون الافراد بلا ادنى قيمة حياله فيضحى بهم ويهملون. وهكذا، فالفكرة او العقل المطلق، وهنا المكر، لا يدفع ضريبة تجلياته وحضوره المتجدد في التاريخ الكوني من جهده الخاص انما يستخدم الاندفاعات والممارسات الفردية للبشر لذلك.
وفكرة “مكر العقل” هذه يشرحها هيغل بشكل واضح في مقدمة محاضراته حول “فلسفة التاريخ” (والمعروفة بـ”العقل في التاريخ”). كما نجدها بشكل جلي ايضاً في مؤلفه “موسوعة العلوم الفلسفية” حيث كتب فيه: “ان العقل ماكر كما هو قوي. لأنه يقبل المكر بشكل عام في انشطته التوسعية التي، بتركها الموضوعات منسجمة مع طبيعتها الخاصة، تثير بعضها على البعض، وتستهلك البعض في احتكاكه مع البعض، دون تدخلها مباشرة في هذه السيرورة وبرغم انها لا تقوم بذلك الا من اجل انجاز هدفها هي.
بهذا المعنى، نستطيع القول ان العناية الالهية تتصرف حيال العالم كما لو انها مكر مطلق في خضم سيرورته الخاصة: الله يترك البشر يندفعون وراء حماساتهم ورغائبهم ومصالحهم الخاصة، لكن ما يثمر عنها هو تحقيق غايات غير تلك التي اراد من يجري استخدامهم انجازها اصلا.
روح الشعب
ان روح العالم، ومجرى تطورها هي جوهر التاريخ الكوني اذن. لكن هذا الجوهر ملموس وليس مجرداً، ولذا ينبغي البحث في العالم الفعلي عن تجلياته. وهذا العالم الفعلي ليس الا عنصر الروح الانساني وظواهره، وبشكل خاص الفكر الذي هو “الشكل الاصفى الذي تتجلى عبره الفكرة”. ونحن نستطيع القول انطلاقا من هذا ان هناك بنية هرمية خاصة بكل من الارواح والغايات في التاريخ الكوني، تقف روح العالم في قمتها مهيمنة على كل شيء ومقررة كل شيء، كما انها توجد في كل انسان وتظهر في كل وعي. لكن التاريخ الكوني هو جوهرياً نطاق صيرورتها، فكيف تتجلى تلك الصيرورة فيه؟
بالنسبة لهيغل، حالما تفلح الروح في الوصول الى وعي جديد لذاتها ولجوهرها ولطبيعتها، تنتقل الى الفعل الملموس على مسرح التاريخ الكوني. لأن ذلك الوعي الذي تصل اليه الروح يجب ان يمنح نفسه هيئة ملموسة في العالم الفعلي، ويتصرف بشكل يصبح فيه ما يعرفه عن ذاته، واقعا ملموسا وانسانيا. بيد ان تطور وعي الروح لذاتها تطور ديالكتيكي بالضرورة ومتطابق بشكل جليّ مع التطور التاريخي والزمني لوعي الانسان لذاته ولجوهره ولطبيعته.
فالتاريخ الكوني اذن، هو الصيرورة التي تعبر الروح الالهية عن ذاتها بشكل ملموس عبرها ومن خلال الانسان باعتباره روحاً. وهي سيرورة يكتشف عبر تحولاتها الانسان نفسه وكل ما هو غريب عليه وكل ما عليه التضاد معه في تحقيقه لوجوده، وهكذا فالانسان ليس الا امكانية ان يصير ما يجب ان يصيره، وان عليه ان يحرز كل شيء بنفسه.. كما ان عليه التخلص من عنصره الطبيعي، وذلك بالتحديد لأنه الكائن الذي تعبر الروح الالهية عن نفسها عبره بشكل ملموس ولتصبح واقعا مدركا حسيا بموجب وعيها المتحقق لذاته وبذاته.
وكما يقول هيغل، فان “موضوع التاريخ الفلسفي هو الاكثر تلمساً. انه الموضوع الذي يتضمن بذاته مجموع الاوجه المتنوعة لجوهر الفردانية التي تنطق عنها والتي هي روح العالم. وهذا الموضوع الملموس، بشكله الفعلي، وفي تطور الضروري هو ما تتخذه الفلسفة لنفسها موضوعاً عندما تعالج التاريخ.
لقد رأينا ان الفلسفة الهيغلية تؤسس تطابقا حاسما وحيويا بين الروح الالهية والروح الانسانية على مسرح التاريخ الكوني. لكن ليس الافراد، كأفراد ملموسين، من يمثل ويجسد الاشكال المختلفة للوعي الذي تفلح روح العالم في تحقيقه تدريجياً عن ذاتها في وقائع تاريخية. فالتاريخ يتم في الواقع عبر الجماعة البشرية وليس الافراد. وعليه لا يوجد تاريخ لافراد بل تاريخ لانسانية. وهذه الانسانية لا تطرح نفسها امامنا ككل ودفعة واحدة، بل يتم تمثيلها على التعاقب عبر هيئات متباينة. فالهيئة الملموسة التي تتلبسها الروح، والمطروحة كوعي ذات، ليست فردا انسانيا على الاطلاق. بلا شك ان الروح هي فرد في الجوهر، لكن في التاريخ الكوني ليس علينا التعامل مع افراد مهما كانوا متميزين بل مع شعوب وذلك لان الروح في التاريخ الكوني هي فرد انما بطبيعة كونية في الوقت نفسه وبالتالي فهي محددة كشعب ما يعني ان الروح التي علينا التعامل معها هي “روح الشعب”[Volksgeist]..
علينا بكلمة اخرى التعامل مع “فرس” واغريق و”رومان” و”عرب”..الخ، وليس مع هذا الفرد المحدد او ذاك. لأن “الافراد يتلاشون بالنسبة لنا، ولا قيمة لهم الا بالقدر الذي يقومون فيه بتحقيق الهدف الذي تسعى له “روح الشعب” باعتبارها روح كونية، في هيئة جزئية، في لحظة محددة من تاريخ تطور روح العالم.
وهكذا، فبالنسبة لهيغل ان الوحدات العضوية الحقيقية والعناصر الكونية الملموسة هي الشعوب وليس الافراد الفعليين. اما صفتها كفرد فمجرد توصيف تجريدي لكونيتها النسبية او المرحلية ليس الا. و”روح الشعب” هي ايضا الهيئة الخارجية التي تتجلى عبرها الروح الالهية متجسدة على مسرح التاريخ الكوني بأكبر الوضوح. وهيغل يشرح لنا ذلك كما يلي: “ان نقطة انطلاقنا هي التأكيد العام على ان التاريخ الكوني يبين فكرة الروح الكوني متحققة كسلسلة من الهيئات الخارجية المتتابعة، حيث تبدو كل مرحلة من مراحل تطور وعي الروح قائمة بذاتها ولذاتها في التاريخ كروح شعب موجود بشكل ملموس وحقيقي، ومتجلية بالتالي بهيئة وجود طبيعي على صعيدي المكان والزمان.
فالتاريخ الكوني استنتاجا، هو تعاقب ارواح الشعوب “بموجب مبدأ محدد وحيث كل شعب تاريخي اوكلت له مهمة تمثيل مبدأ متطابق مع الفكرة التي تكونها روح العالم عن ذاتها”. ولا يغير من الامر شيئا ان يتمكن شعب تاريخي ما من الظهور على مسرح التاريخ الكوني بعدة وجوه وفي عدة ازمنة. ذلك ان اي شعب لا يمكن ان يمثل الا وجها واحدا من وجوه روح العالم، وعندما تحل ساعته فان مصيره الرحيل الحتمي من التاريخ الكوني ولن ينفعه اي جهد لتغيير هذا القرار وذلك لأن روح العالم تكون قد انتقلت الى مرحلة جديدة من وعيها عن ذاتها، مرحلة تقترن بانتقال قيادة التاريخ الكوني الى روح جديدة لشعب جديد من جهة وبانتهاء مجد شعب بلغ الكهولة وانتهت لحظة النضج والانتصار الخاصة به.
انها تمثل درجة من درجات التقدم واليقينية (الايجابية) عندئذ لابد ان تعقبها لحظة اخرى هي لحظة استنفاد طاقتها الكامنة، لحظة شيخوختها: الاجراس تقرع وروح الشعب هذه يجب ان تغادر مسرح التاريخ مقهورة مدحورة ومطرودة بسبب ظهور روح جديدة (روح شعب جديد) طبقا لخطة روح العالم.
وهكذا، فالروح نفسها التي كانت تقدمية في لحظة سابقة تصبح رجعية عندما تنجز مرحلتها، عندئذ تجد نفسها عرضة للهجوم، والطرد تمهيداً لتحل روح جديدة محلها، فالروح المدحورة تكف آنذئذ عن تمثيل روح العالم، وحتى اذا تشبثت بحياتها التاريخية فانها لا تعود تمتلك اية قيمة ايجابية لأن التاريخ وروح العالم يكونان قد ذهبا بعيدا عنها متسامين نحو مبدأ أسمى في تطورها، اي في تمثيل الانساني والكوني. والشعب الذي يجري اختياره ليعبر عن مبدأ أسمى بموجب خطة بدئية من الروح هو في التحليل الاخير، اكثر حظوة من سابقه الذي اختير والتمثيل مبادئ اقل سمواً، او حتى اذا كانوا يمثلون جميعا، لحظات متميزة من وعي روح العالم، فان هناك ما يوحي بوجود فكرة ضمنية بتفوق الشعوب بعضها على بعض نسبياً.
حيال الحق المطلق، الشعوب الاقدم هي شعوب دون حقوق لاحقا، ويجب عليهم القبول بهيمنة لروح العصر والتلاشي امامه، والا فانهم سيسحقون من قبله.
سنعود الى مناقشة هذه الفكرة عندما نأتي على موضوع الشرق (والاسلام) لكن لنلاحظ من الان بان العالم الشرقي وحده، على العكس من العالمين الاغريقي والروماني، هو الذي يتشبث بالتاريخ بعد بطلان واستهلاك مبدئه، وبالتالي وباعتباره الاول في العوالم التاريخية، يجب عليه ان يكون دائماً، بمعنى ما، بخدمة الغرب، ايجابيا او سلبياً بالقدر الذي يجسد الغرب كل المراحل الاخرى في التقدم التاريخ الكوني.
هرم من شعوب وعقول
في التاريخ الكوني، الارواح المختلفة للشعوب، مفصولة على صعيدي الزمان والمكان، لكنها حوالي عرشه(عرش روح العالم) تحوم كمكلفين بتحقيقه. كل روح تمثل وحدة جميع مظاهر حياة شعب ما، المحدودة بمبدئه الخاص وبالمهمة التاريخية التي توكلها له روح العالم: “كل اشكال التجارب السياسية والقضائية والدينية تجد اذن اماكنها مادام الامر يتعلق باعتبار تجربته الوعي بشكل عام.
ان كل جوانب التجربة تمتلك ذات المبدأ وذات الطابع الذي يوجد في الاساس والذي يحكم الكل، الروح واحدة هي الروح الجوهرية لمرحلة الشعب ولمدة زمنية لكنها تستطيع ان تتشكل باشكال متعددة: “المبدأ الجوهري هو الوحدة، والرابطة الداخلية لكل هذه الاشكال المختلفة، يجب التمسك بشكل قوي بهذه الفكرة القائلة بعدم وجود الا روح واحدة ومبدأ واحد يعبر عن نفسه في الحالة الوضعية السياسية، كما يتجلى في الدين وفي الفن، وفي الاخلاق وفي الاداب الاجتماعية وفي التجارة والصناعة بشكل لا تصير هذه الاشكال المختلفة سوى اغصان عائدة للجذع العام نفسه.
يجب اذن عدم التصور بان السياسة والدساتير والاديان وغيرها هي الجذور او سبب الفلسفة او التصور، على العكس، ان الفلسفة هي سبب الاخرى، وكل هذه العناصر يمتلك الطابع نفسه الموجود في الاصل، ويتغلغل في الجميع، ومهما كان تباين هذه الاقسام المختلفة، فانها مع ذلك لا ترتبط باية علاقة تناقض، ان اي منها لا يتضمن عنصرا غير متجانس مهما كانت تعارضاتها الظاهرية “ان هذه الخصوصية المحددة هي التي تشكل اصالة شعب تاريخي ما، هذه الاصالة هي “مل ملموس نستطيع ان نتلمس مضمونه عبر الفكر، وهي بصفتها هذه تقدم الى محكمة العالم الذي هو التاريخ الكوني.
ان تعاقب الشعوب امام هذه المحكمة هي سلسلة من مراحل التقدم والتطور نحو تحقيق الهدف الاعلى للتاريخ، وكل شعب يعبر عن درجة الوعي الذي تمتلكه الروح الكونية عن ذاتها، درجة اسمى كمبدأ، من تلك الخاصة بالشعب السابق، وهكذا فعبر الشعوب “السماء هي التي تنزل وتنتقل الى الارض”. بلا شك بالنسبة لهيغل كما يؤكد هيبوليت “ليس هناك شيء أسمى من الشعب، الا ربما تاريخ الشعوب نفسه” لكن مع ذلك فان الشعوب ليست جميعا شعوبا تاريخية وليست جميعا مكلفة بمهمات كونية في التاريه الكوني الذي هو تاريخ تطور وعي المطلق عن ذاته وتجليات تحققه الملموس. بيد اننا نستنتج من هذا الاعتبار الفكرتين الحاسمتين التاليتين:
- ان الشعوب ليست جميعاً شعوباً تاريخية بالضرورة في فلسفة التاريخ الهيغلية. فبالنسبة لهيغل، الشعوب التاريخية الرئيسية عددها اربعة هي: “الشعب الشرقي والشعب الاغريقي والشعب الروماني والشعب الجرماني (الاوروبي الغربي اجمالا)، واذا كانت هذه الشعوب الاربعة تمثل تشكيلات نشيطة، فاعلة، طليعية، وقيادية وامتيازية وموهوبة، فان الشعوب الاخري هي شعوب تابعة، منفعلة وثانوية، ولا تستطيع التمتع بشرف استلام المهمة التاريخية الخاصة بتجسيد مبدأ كوني بالمعنى الكامل، جاك دونت اختصر مأساتهم في الفلسفة الهيغلية في صورة رائعة عندما قال “ان فلسفة التاريخ الهيغلية توقف القسم الاعظم من الجنس البشري امام باب المعبد ولا تترك الا بعض المحظوظين بالدخول فيه” فاذا كان صحيحاً ان هيغل (او التاريخ!) يخفي خيبة مريرة لهؤلاء الذين يدخلون المعبد، فكم هي مفجعة الخيبة التي يعانيها هؤلاء الذين لا يدخلون ابدا، لأننا يجب ألا ننسى، وحدها الشعوب التاريخية تتمتع بامتياز الحصول على المجد الذي هو اجرها، باعتبارها تمارس الهيمنة على العالم، وهكذا يحكم هيغل عليها بالعقم، وفي العجز عن انجاز صيرورتها، الشعوب غيرها التي علاوة على ذلك لا تحظى باهتمام هيغل.
- بموازاة ذلك، لا يوجد الا شعب تاريخي واحد في كل مرحلة وهو الذي يعبر عن المبدأ الانساني والكوني الخاص بتلك المرحلة. اما الشعوب الاخرى الباقية فهي اما تلك الشعول تنتظر مجيء لحظتها الخاصة، اي الشعوب المستقبلية على صعيد الدور التاريخي اذا صح التعبير، واما الشعوب التي انجزت المهمة الكونية الموكلة لها وطردت من مسرح التاريخ الكوني، فهذه الاخيرة حتى اذا ظلت على قيد الحياة فانها لا تعود محسوبة في التاريخ العالمي انما تشكل جزءا من هؤلاء الموتى الذين يجب قتلهم، لأنهم يعيقون حركة الانسانية التي، كما رأينا، لا تعرف التقدم للامام، فبالنسبة لهيغل عندما يكف شعب ما عن تمثيل روح العالم فانه يفقده مبرر وجوده، انه يصبح تمثيلا كالجبال مهجورا من قبل روح العالم، ولا يعود بقاؤه يملك اية قيمة “ان الفرد او الامة او النظام السياسي الذي يكف عن الابداع والخلق، يتحول الى ما يشبه الحيوان او الشجرة” والحال في نظر هيغل، ان اعظم انحطاط للروح يتمثل في السقوط في الالية الرتيبة، وهيغل يمطرها بهذه اللغة “انها تستطيع الاستمرار في الوجود برغم انها ميتة، فهناك افعال خارجية تقوم بستر الموتى الحقيقي” لكن وجودا كهذا هو وجود عديم القيمة وعدم الجدوى، ولهذا من الاصلح للشعوب التي تكف عن الابداع ان تتعلم كيف تموت، من ان تواصل حياة ميتة، وذلك لأنه من الضروري للنوع الانساني ان يمر عبر جميع مراحل تطور دون الاقتصاد وباي واحد منها لأن كل مرحلة لا يمكن ان تتحقق بالضرورة الا على او بالاحرى في جثة المرحلة السابقة عليها.
على ضوء التقسيم الهيغلي اعلاه نستطيع الاستنتاج، والبعض لم يتردد في جعله “يقينا”، ان الشعوب تختلف في ما بينها عبر هذا الذي يمكن ان يبدو كشرف وكمجد، اي تمثيل الانساني والكوني. الشعب الذي يجري اختياره ليعبر عن مبدأ أسمى بموجب خطة بدئية من الروح هو في التحليل الاخير، اكثر حظوة من سابقه الذي اختير والتمثيل مبادئ اقل سمواً، او حتى اذا كانوا يمثلون جميعا، لحظات متميزة من وعي روح العالم، فان هناك ما يوحي بوجود فكرة ضمنية بتفوق الشعوب بعضها على بعض نسبياً.
حيال الحق المطلق، الشعوب الاقدم هي شعوب دون حقوق لاحقا، يجب عليهم القبول بهيمنة لروح العصر والتلاشي امامه، والا فانهم سيسحقون من قبله. سنعود الى مناقشة هذه الفكرة عندما نأتي على موضوع الشرق (والاسلام) لكن لنلاحظ من الان بان العالم الشرقي وحده، على العكس من العالمين الاغريقي والروماني، هو الذي يتشبث بالتاريخ بعد بطلان واستهلاك مبدئه، وبالتالي وباعتباره الاول في العوالم التاريخية، يجب عليه ان يكون دائماً، بمعنى ما، بخدمة الغرب، ايجابيا او سلبياً بالقدر الذي يجسد الغرب كل المراحل الاخرى في التقدم التاريخ الكوني.
الحرية جوهر الروح
لقد رأينا ان الروح الالهية المطلقة الكونية عند هيغل، هي جوهر التاريخ العالمي، الذي تتجلى وتحقق فيه عبر الارواح الجزئية التي هي البشر لا بصفتهم كأفراد، انما بصفتهم عبقريات قومية، اي بصفتهم شعوب، يجب البحث والامساك بحقيقة الروح وتطورها في تعددية الاشكال الحية لروح الشعب التاريخي الذي يتفوق على الشعوب الاخرى في كل مجال في فترة تاريخية محددة، لأن هذا التفوق ليس الا تعبيراً عن تمثيل الكوني عبر هذا الشعب، يجب علينا الان معرفته في اي شيء تتمثل هذه الحقيقة التي يجب عليها ان تكون ملموسة وممكنة الادراك.
في مناسبات عديدة، يؤكد هيغل ان هذه الحقيقة هي الحرية، وهكذا ففي محاضراته البرلينية، كما في كتاباته التي نشرها في حياته، هيغل يؤكد الفكرة القائلة “بأن جوهر الروح هو الحرية” او “ان مملكة الروح هي مملكة الحرية” هذه الفكرة تبدو كالاكثر اساسية في فلسفة التاريخ الهيغلية التي تنص على ان ماهية الروح هي الحرية، في تعريفه التأملي للروح الالهية، هيغل يقول ان هذه الروح ليست بيئة مجردة، تجريدا للطبيعة الانسانية، انما هي فردية كليا ونشيطة وحية تماماً، انها وعي، لكنها ايضا موضوعها الخاص.
وفي هذا يتمثل وجود الروح: أخذ نفسها موضوعا لها، وبالفعل فان هيغل ينطلق من الفكرة القائلة بان الروح تترك نفسها تعرف عبر نقيضها، اي عبر ما هو مادي او طبيعي، والحال ان الاشياء الطبيعية لا تمتلك مركزها في داخلها، انما في خارجها من ذاتها، بكلمة اخرى ان الاشياء الطبيعية هي ليست موضوع وعيها الخاص، ولذلك فانها ليست حرة “الروح على العكس، تمتلك مركزها في ذاتها بالتحديد، وكما ان ماهية المادة هي ماهية ثقيلة، فان الحرية هي جوهر الروح، باعتبارها فردانية وحرة، فان الروح لا ترتبط الا بذاتها لأنها ليست الا ذاتها، ولذلك فان استقلالها هو استقلال مطلق حيال اي شيء آخر غيرها، انها كلياً في ذاتها عندما تكون في غيرها “الحرية توجد فقط حيث لا يوجد بالنسبة لي اي آخر لا يكون هو انا بالذات، حتى الانسان الطبيعي الذي ليس حراً الا شكلياً مادام غير محكوم الا بغرائزه، لا يكون الا بذاته.
اما بالنسبة لروح العالم فانها حرة، لأنها الموضوع الوحيد لمعرفتها “ان وعي ذاتها هو وعي استقلاليتها، اي وعي حديثها، الروح، يقول هيغل “هي في ذاتها وتظل في عنصرها الخاص بها، وفي هذا بالتحديد تتمثل الحرية، انا حر عندما اكون في عنصري الخاص، لأنني اذا كنت تابعا سأعتمد بوجودي على شيء آخر هو ليس انا، ولا استطيع ان اوجد بدون هذا الشيء الخارجي، علاوة على ذلك، فالروح واعية بالقدر الذي تكون فيه وعياً بذاتها فقط.
وهكذا، وبطبيعتها، فالروح تظل دائما في عنصرها الخاص، اي بكلمة اوضح، تظل حرة.. الحرية هي ملكية الروح الالهية، وهذا يقين يدافع عنه الدين، لكن الدين يعبر عنه بشكل تصوري “تمثلي” سيلتزم الايمان، بينما في الفكر التصوري، ان العنصر الخارجي العرضي للتصور يحل محل الضرورة الداخلية للمفهوم كأساس للمعرفة، وحدها الفلسفة، الفكر البحت الذي يستعمل المفهوم اداة تعبيرية، يحافظ على هذه الضرورة الداخلية، ويبدو جديرا بالامساك بالحقيقة العميقة فيما يتعلق بماهية الروح التي هي الحرية لهذا “فان الفلسفة تستلزم وعي الحرية، انها طريقة المعرفة الاكثر كمالاً، لأن الانسان يتصرف هنا بطريقة حرة كلياً.
والحال، ان ما تثبته الفلسفة هو ليس فقط ان الحرية هي واحدة من ملكيات الروح، بل ايضا ان جميع ملكيات الروح لا تتقوم الا بفضل الحرية، وان جميعها تبحث عنها وتنتجها” وهيغل يدفع بعيدا جدا هذه الاهمية المركزية للحرية عندما يؤكد ان “واحدة من المعارف التي تقدر “الفلسفة التأملية هي ان الحرية هي حقيقة الروح الوحيدة”.
نستطيع الان ان نفهم بشكل اوضح ربما لماذا يسمي هيغل الحرية بـ”الخير الاعظم” الذي تمتلكه الروح، وبالتالي بان وعي الذات ليس شيئا آخر غير وعي الحرية، لكن هذه الحرية هي حرية ملموسة جوهرياً ومحكومة بذاتها. انها تتجلى في العالم الملموس وتصبح واقعا. انها ليست وجودا خاملاً انما هي “النقيض الدائم لكل ما هو يناهض الحرية، ان كل ما هو عنصر طبيعي وخارجي، ولهذا وحده التاريخ مجالها الخاص، لأن الروح الكوني يتجلى في الانسان – الذي هو ايضا روح- ويصبح ممكن الادراك، فيما الانسان ايضا باعتباره روحا لا يستطيع التقدم الا بفضل الحرية وكل ملكات وقدرات الانسان ليست الا ادوات لهذه الحرية.
بكلمة اخرى، ان هدف الروح الالهية في التاريخ الكوني هو ان تعرف نفسها، وتتجلى في العالم المحسوس، كما هي على حقيقتها ولذاتها، وان تنتج عالماً روحياً يكون متوائما مع مفهومها، وان تستكمل وتحقق حقيقتها، وان تنتج دينا ودولة تتطالق مع مفهومها بشكل تكون فيه ذاتها الحقة او الفكرة بذاتها، لأن الفكرة هي الحقيقة التي هي ليست الا مرآة تعبر عن المفهوم” فعبر هذه الطريقة يحدد هيغل الهدف العام للتاريخ الكوني مادام هذا الهدف ليس الا هدف الروح الالهية، التاريخ الكوني ليس الا السيرورة التي تنزع خلالها الروح التي التحقيق المتقن لحريتها التي هي هدفها الوحيد، التاريخ يمثل تطوراً الذي تمتلكه الروح عن حريتها والواقع المنتج عبر هذا الوعي.
ان هذا الموضوع هو احد الموضوعات الرئيسية في الفلسفة الهيغلية: الانسان يتصرف حسب اهدافه لكنه محكوم بهدف المطلق. اي ان روح العالم هذه تتواءم مع الروح الالهية التي هي روح مطلقة، وبالقدر الذي يكون فيه الله حاضراً في كل شيء فانه يوجد في كل انسان ويظهر في كل وعي. ففي الواقع بالنسبة لهيغل ان روح العالم موجود اساساً كوعي انساني اذ يقول: “هناك بينها وبين البشر الرابطة نفسها الموجودة بين الافراد وبين الكل الذي هو ماهيتهم. وبالتاي، فان الطبيعة الحقيقة للانسان هي فعليته، وفي التاريخ فان الانسان بنشط بموجب اهداف ويحدد نفسه بموجب الكوني، لأن هذا الكوني يوجد في كل انسان ويظهر في كل وعي، وبما ان الهدف الكوني هو الحرية فان الانسان يجب ان يقوم ايضا بجعل الحرية هدفا له وان يطورها وفي سعيه وراء هذا الهدف للبحث عنه في سيرورة التاريخ فان الانسان ليس الا امكانية ان يصير ما يجب ان يصيره، اي ان يصير عقلانياً وحرا، لكن على الانسان ان يصير بنفسه ما يجب ان يكون عليه، يجب عليه ان يحقق كل شيء بنفسه وذلك بالتحديد لأنه روح، وان ما يحدد الانسان هو تمثيل ما هو عليه في حقيقته، اي مستقلا وحراً بذاته، لكنه باعتباره روحاً فان الانسان لا يتصرف الا في وعبر الفكر لبلوغ وعيه بحريته، ينبغي عليه ان يتخلص تدريجياً من كل ما هو عناصر طبيعية خارجية به ودون اغفال هذه الطبيعة الثانية التي خلقتها بنفسه بدون علم منه، اي الطبيعة والاجتماعية والثقافية.
الإلهي فوق الارض: الدولة
ان تحقيق هذا الهدف الكوني يتوالى بالضرورة عبر مراحل كل مرحلة تتزامن مع ظهور روح جديدة لشعب ما له كمهمة الاستمرار في المعركة التي تصر عبرها روح العالم الى انجاز وعيها الجديد هم حريتها، انها معركة تنطلق من تحديدات قديمة الى مبادئ ومفاهيم جديدة والى صيغ اكثر تطورا عن فكرتها لكل مرحلة تاريخية تمد جذزرها في الواقع السابق لكنها تسعى لتجاوزه، انها تولد عن التضاد الذي تثيره المرحلة السابقة في داخلها، لكن المرحلة التي تلي هي دائما أرقى وذلك لأنه اذا كان النوع في الطبيعة لا يحقق اي تقدم فان كل تغير في الروح هو تقدم، انه تقدم ديالكتي، الامر الذي يعني انه تقدم في الروح ذاتها.
ان درجة هذا التقدم في وعي الحرية الذي يبلغه الانسان بذاته ولذاته والوضوح الذي يجري التعبير فيه عن الحرية هذه عبر المنتجات الروحية لكل شعب هي جميعا المعايير الدالة على تفوقية هذا المبدأ او ذاك: ان روح شعب ما هي، بالنسبة لهيغل، واقع روحي اصيل ذي طابع فريد واوحد لا يتجزأ، انه واقع روحي تقوم فيه الروح المطلق بجعل تجلياتها مطابقة كلياً لماهيتها مع تطور وعيها لهذه الماهية.
بكلمة اخرى، ان وعي روح شعب ما هو الوعي الذي لديه عن ذاته، اي عن حريته. فالروح الخاصة “حرة في ذاتها”، لكنها لا تصير حرة فعليا وواعية بانها “حرة لذاتها” الا بفضل تقدم في وعي الحرية. وهذا الوعي يتجلى في كل الانتاج االروحي لذلك الشعب: في دينه الخاص، وفي فنه، وفي اخلاقه، وفي علمه، لكن شكله الاعلى يتجلى موضوعيا في بنية خاصة هي الدولة. فهذه هي الالهي على الارض. الدولة، بكلمات هيغل، “العقلاني في ذاته ولذاته، والمطلق والثابت الذي تبلغ فيه الحرية سموها الاقصى”. لكن للوصول الى الدولة التي يجد فيها الفرد نفسه حراً تماماً فان الانسان يستلزمه تطوير عدة اشكال من الدول، بموجب عدة مبادئ وعبر عدة حقب تاريخية ابتداء من اللحظة التي يبدأ فيها قطيعته مع حالة الطبيعة ممثلة بأفريقيا التي يقصيها كلياً من التاريخ الكوني. وبالفعل، فان تطور وعي المطلق في الاخير يجتاز اربع مراحل كبرى فقط، تتطابق مع اربعة مبادئ من تطور ذلك الوعي.
وفي كتابه “فلسفة الحق” ثم في محاضراته حول فلسفة التاريخ يحدد هيغل بدقة مبادئ مراحل الماضي الانساني الاربع، مبينا مبدأ كل واحدة منها وتعبيراتها المادية في ثقافة كل شعب ممن يجسدون الواحد او الاخر من هذه المبادئ. والمراحل هي الشرقية، والاغريقية والرومانية والجرمانية، وهي تجد نفسها محددة مكانيا ومحكومة جغرافيا ومناخيا، وحتى انثروبولوجيا الى حد ما بموجب خصوصياتها كـ”امبراطوريات” في التاريخ الكوني للروح وكل منها يتسم بما يلي:
-الامبراطورية الشرقية: هي الوجود الاول لروح العالم في الواقع الملموس، ولها مبدأ “هيئة الروح” الماهية كهوية تكون فيها الخصوصية ممتصة من قبل الجوهر وتظل بذاتها بدون مبرر.
-الامبراطورية الاغريقية: هي الوحي الثاني، ومبدؤها هو معرفة هذه الروح “المطروحة” كماهية من الكمال الى درجة ان المضمون الايجابي واكتمال والوجود بذاته لوهذا المضمون مأخوذا كشكل حي، انها امبراطورية الفردية الجميلة في الدولة (للمواطن) .
-الامبراطورية الرومانية: هي التشكيلة الكونية الثالثة، ومبدؤها هو التعمق بذاته للموجود المدرك بذاته، الذي يبلغ هكذا الكلية الكونية المجردة صائرا تعارضا لا متناهيا ضد الموضوعية المهملة من قبل الروح.
-الامبراطورية الجرمانية: هي التشكيلة التاريخية الرابعة، ومبدؤها هو “انقلاب” تنتقل بفضله الروح الى استقبالها داخليا لحقيقتها وجوهريتها الملموسة، وتجد نفسها متحدة مع ذاتها في الموضوعية ومتصالحة مع ذاتها، وبما ان هذه الروح العائدة الى ماهيتها الاولى هي ايضا الروح “اصبحت عائدة الى ذاتها عبر التخلص من ذلك التضاد اللامتناهي، فانها عندئذ الروح اصبحت قادرة على انتاج وادراك حقيقتها الخاصة كفكر يدار عبر القوانين.
على ضوء وبموجب هذه التحديدات، هيغل يبني تحقق الحرية في التشكيلات الاربعة اعلاه بالطريقة التالية:
– الشرقيون لا يعرفون ان الروح او الانسان بصفته هذه هو حر بذاته، ولأنهم لا يعرفون انهم احرار فانهم ليسوا احراراً. ما يعرفونه اذن هو ان واحداً فقط حر وهذا الواحد هو المستبد.
– الاغريق والرومان يعرفون فقط ان بعض الناس هم احرار، وليس الانسان لمجرد كونه انساناً.
واخيرا فان الجرمانيين هم اول من وصلوا الى ادراك ان الانسان باعتباره انسانا هو حر، وان الروحية الروحية تشكل طبيعته الخاصة فعلياً.
لقد حاولنا في الصفحات الماضية ان نقدم لمحة سريعة عن فلسفة التاريخ الهيغلية، ومهما كان هذا العرض سريعا وناقصا، فانه يقدم البني الاساسية للمنهج الهيغلي في اكتشاف والكشف عن مختلف لحظات الروح الكونية.
اما لحظة الإسلام التي تحتاج الى وقفة مفصلة، فهي زاخرة بالتناقضات الجوهرية في فلسفة التاريخ الهيغلية. فالاسلام هو “ثورة الشرق” والتشكيلة الاعلى للمبدأ الشرقي من جهة، وهي اللحظة الحاسمة بل المؤسسة لانبثاق وقيام العالم الغربي الحديث من جهة اخرى.
وبالفعل، ان بعض نصوص هيغل توحي بوضوح تام ان الاسلام شارك في التحفيز وانبثاق المكونات الاساسية لهذه التشكيلة التاريخية الرابعة والأخيرة. اذ فقط بعد الاتصال والصدام مع الشرق الإسلامي وقيمه الروحية، استطاع الغرب الجرماني ان يصل الى الوعي بان الانسان يجب ان يبحث في داخله عن ذاته باعتبارها ذات طبيعة الهية، وهذه كانت النتيجة المطلقة للحروب الصليبية حيث انطلاقا من هذه اللحظة تبدأ فترة الثقة ذاتها والنشاطية التلقائية للروح الغربية، أي كان يجب انجاز كل هذا العمل الطويل الذي استغرق قرونا عديدة كي يستطيع العالم الجرماني ان يصبح تشكيلة ذات “مضمون” كوني عالمي، وهذا التحول لم يكن ممكنا البدء به الا انطلاقا من انتصار شارلمان حسب هيغل، كما لو أن قرقعة جيوش شارل مارتل لن تهدأ ابداً رغم ان معركة “بلاط الشهداء” حدثت في عام 732، أي قبل 1500 سنة!
يتبع..
- د. حسين الهنداوي: امين عام مساعد بجامعة الدول العربية. يحمل الدكتوراه في الفلسفة من جامعة بواتيه الفرنسية والبكالوريوس من جامعة بغداد. صدر له بالفرنسية “هيغل والاسلام” (باريس، منشورات Orients،2021)، وبالعربية: ”التاريخ والدولة ما بين ابن خلدون وهيغل” (بيروت/ دار الساقي الطبعة الاولى 1996 والثانية 2023)، و”استبداد شرقي ام استبداد في الشرق؟”(بيروت/دار المدى 2017)، و”فلاسفة التنوير والاسلام” (بيروت/دار المدى 2014)، و”على ضفاف الفلسفة” (بغداد/بيت الحكمة 2005)، وترجمة كتاب “هيغل والفلسفة الهيغلية” لجاك دونت عن الفرنسية (بيروت/الكنوز الادبية 2004)، و”الفلسفة البابلية” (بيروت/دار المدى 2019)، و”مئة سنة من الفلسفة في العراق” (بغداد/وزارة الثقافة 2022)، و”لبنان 1991، رحلة في كوكب ممزق” (بيروت/دار المدى 2018)، و”محمد مكية والعمران المعاصر” (بيروت، ناشرون 2013) والعديد غيرها.
[1]) La Raison dans l’Histoire, pp. 53-55.
[2]) Ibid, p. 111.
[3]) D’Hondt, Hegel, philosophe du débat et du combat, pp. 159-160..
[4]) La Raison dans l’Histoire, p 39.
[5]) Ibid, p 45.
[6]) Principes de la philosophie du droit, trad. Dérathé, Paris, Vrin, 1975, p. 54.
[7]) Hypolite, Genèse et Structure de la Phénomènologie de l’Esprit, pp.10-11.
[8]) La Raison dans l’Histoire, pp. 47-48.
[9]) La Raison dans l’Histoire, pp. 48-49.
.
[10]) lbid, p. 13.
[11]) La Raison dans l’Histoire, pp.100..
[12]) La Raison dans l’Histoire, pp.60.
.
.