السياب لحظته الحديثة الاخصب ونحو نظرية جديدة للشعر العربي.

د. حسين الهنداوي

كلما تأملنا كتاب التجربة الخاصة ببدر شاكر السياب، شعراً وقدراً، كلما ازددنا يقيناً قاطعاً بان السياب شاعر استثنائي بين الشعراء العرب الاخرين منذ اربعينيات القرن الماضي ولحد الآن. فهو بينهم كالقمر بين النجوم، كالمتنبي بين اقرانه وكالمعري بين ابناء زمانه، وكأمرئ القيس بين كل شعراء عرب ما قبل الإسلام أي  ما يعرف بالحقبة الجاهلية بمعنى ما.

ونحن نميل الى الاعتقاد ايضاً بان السياب هو المحطة الرئيسية الكبرى والرائد الأهم في حركة الشعر العربي الحديث. فهذا الشاعر ليس فقط المؤسس الفعلي الأول لأهم عطاء سجلته الثقافة العربية خلال قرونها العديدة الاخيرة، ونقصد به الشعر الجديــد (أي “الشعر الحر” كما نفضل تسميته)، انما هو ايضاً -لا يزال- اسعد ممثل لهذا الشعر منذ تأسيسه ولحد الآن رغم انه لم يقل كل ما ينبغي ان يقوله، بسبب رحيله المبكر جداً حاملاً معه قصائد على وشك الولادة. وبالطبع فان هذا الاستنتاج يأخذ بنظر الاعتبار ان بعض الطامحين لهذا التاج ما زالوا يتدافعون تهالكاً من اجله. ونعرف ان قلوباً كثيرة لا تبرح تستنشق حريقاً أصفر غيرة من السياب. فبعد البياتي وحروبه الصغيرة الشهيرة من اجل ناصية الريادة، وبعد الكبير ادونيس ورغباته السرية والعلنية لاقتناص بهاء الجيكوري الغائب، طلعت علينا الناقدة المرموقة خالدة سعيد قبل اعوام بفكرة جديدة – بالفرنسية هذه المرة – وهبت بموجبها للشاعر الاشكالي سعيد عقل نصف المجد وللرائع نزار قباني النصف الآخر معتبرة اياهما الرائدين الفعليين المتكاملين للشعر العربي الجديد كما لو ان دنيا الشعر في موسم تقاسم غنائم.

السياب هو وحده المحطة المركزية في الشعر العربي الجديد بنظرنا وحيث يتدفق جميلا وغزيرا وفي نسق نهر، ألق العناق الخلاق بين الالم والامل، والعراق والكون، وبين لغة الضاد ولغة شكسبير، وبين التراث والحداثة، والأسطورة والرمز وغير ذلك. اما ما عداه، ودون نكران العبقرية والابداعية لأحد، فلا نجد فيهم سوى محطات فرعية، كبرى ومتدفقة الثراء ربما، بما فيهم نازك الملائكة وعبد الوهاب البياتي وحليل حاوي وصلاح عبد الصبور وأدونيس اذا اقتصرنا على ذكرهم هنا وحدهم. لان إضافات هؤلاء والعديد غيرهم ايضاً، هي، في نظرنا، اضافات كمية بمعنى ما، وليست نوعية فيما يتعلق بتطوير بنية القصيدة العربية الحديثة وخصائصها اجمالاً. انها اضافات في الرؤية والرؤى وليس في الجوهر، في مراكمة واغناء التقنية الحديثة وليس في خلقها، في توسيع محيط الكشف وليس في صنع الكشف نفسه. ونستطيع الاضافة ايضاً ان السياب احرز نهائياً مكانه الخاص في تاريخ الشعر العربي كله كرابع الاساطين المجددين في مراحله الرئيسية بعد امريء القيس والمتنبي والمعري على التوالي والى جانبهم. فكلّ واحد منهم يقترن بريادة مرحلة محددة من مراحل هذا الشعر منذ أول بيت شعر نطق به عربي وحتى الوقت الحاضر.

وحتى لا نُتهم بالتعسف واطلاق تصورات اعتباطية، سنحاول فيما يلي تبيان الاسباب الجوهرية والمنطلقات العميقة التي قادتنا الى اعتبار هؤلاء الاربعة وحدهم رواد تجديد متتابعين زمنياً، متواصلين فنياً، كما لو ان كل واحد منهم يظهر في مرحلته كحتمية تفرضها المرحلة السابقة من جهة وكضرورة تقتضيها الحلقة اللاحقة من جهة اخرى. ولابد ان نشير مسبقاً هنا ان الافكار التالية هي خلاصة سريعة، ناقصة في كثير من جوانبها، لدراسة خاصة لتاريخ الشعر العربي نطمح ان ننجزها وفق منهج جديد، او هكذا نعتقد، في استقراء سيرورة التطور التاريخي الذي عرفه هذا الشعر لحد الآن. وعذراً سلفاً عن الابتسار والعجالة واللذين يمكن ان يلمسها القاريء هنا او هناك من السرد.

اذا انتقلنا الى جوهر الموضوع، نقول بدءاً باننا ننطلق في هذا الاستقراء من يقين اساسي يقرّ بان الشعر، كأي ميدان ابداعي آخر، هو فعل خلق مشروط، أي محكوم بضرورة ما غير مرئية نابعة من طبيعة العلاقة بين الذات الفردية الجمالية للشاعر (كـ “انا”) وبين ذاته الجمالية الجماعية كانتماء انساني، أي كجزء من مجموع في لحظة محددة. فهاتان الذاتان هما في وحدة دائمة لابد منها لكل منهما. هذا أولاً. اما ثانياً فهو انهما في صراع مستمر ضمن الوحدة، صراع تاريخه تاريخ الوعي الذي تكونه الذات الفردية عن خصوصيتها وتميزها عن الذات الجماعية. يجب اذن إقصاء الصدفة وتجريدها من أي دور في عملية التطورات البنيوية في عملية الخلق الفني. فتاريخ الشعر يسير اذن نحو هدف. وهذا الهدف هو اقامة تنظيم افضل واعدل وامثل للعلاقة بين الذات الفردية والذات الجماعية ضمن وحدتهما بشكل يضمن لكل منهما قيمته الجوهرية كطرف في الوحدة، واستقلاليتها المطلقة كهوية لها وحريتها الواعية كمحتوى، وجمالها الداخلي- الخارجي كشكل.

وبكلمة أخرى ان الشاعر لا يمكنه ان يعيش خارج انتمائه الجماعي. فالوحدة بين ذاته الفردية وذات انتمائه هي شرط وجودي لكل منهما بداهة ودائماً وابداً. ومن العبث البحث عن اصول وحاضر ومستقبل هذه الوحدة مثلما هو من العبث البحث عن اصول وحاضر ومستقبل نزعة العيش في جماعة لدى الانسان. وما دمنا نقر بان الانسان اجتماعي بالطبع فان الذات الفردية للشاعر (ذاته الفنية اطلاقاً) هي ذات جماعية بالطبع ايضاً. اما ما يجب البحث عن اصوله وسيرورة تطوره فهي وعي الذات الفردية تلك لمكانتها في الوحدة مع الذات الجماعية ومعقولية أو لا معقولية هذه المكانة.

هناك اذن في تاريخ أي خلق فني بداية ومراحل متتابعة وهدف أخير. والسير من البداية نحو الهدف يأخذ بالضرورة شكل سير دائم الى الامام. بشكل حلزوني او سرطاني ربما، لكنه دائماً نحو الامام وعلى الشكل الاتي:

ان الفن موجود منذ وجود الانسان وسيظل موجوداً ما دام هناك انسان. لكن وكما ان عمر الانسان يبدأ بالطفولة فان عمر كل فن يبدأ بطفولة هو ايضاً. وفي هذه المرحلة البدئية توجد الذات الفردية الفنية في وحدة خاملة وطبيعية مع الذات الفنية الجماعية حيث لا يمتلك كلاهما أي وعي عن خصوصيتهما واستقلاليتهما. إلا ان النضج التدريجي للذات الفردية، بفعل التراكم الحدثي والحيوية الداخلية، يقودها في لحظة عليا من هذه المرحلة الى ادراك اهميتها او هويتها المتميزة عن تلك الخاصة بالذات الجماعية، فتفرز نفسها عفوياً أولاً ثم تنفصل شيئاً فشيئاً عن الأخيرة، ثم تتموضع امامها كنقيضها نظراً لأن الذات الجماعية ترفض دائماً وبالضرورة الاخلال بالحالة السابقة السائدة من الوحدة، مما يقودها الى خوض صراع الى هذا الحد او ذاك ضد الذات الفردية المتمردة، صراع يقود في آخر المطاف الى اقدام الذات الفردية، متجسدة بهذا الرائد الفني او ذاك، على اقتراح صيغة جديدة للوحدة يلبي وعيها الجديد لذاتها. وهذه الصيغة هي التي تنتصر في النهاية، حيث تضطر الذات الجماعية بالتأقلم مع الأمر الواقع والتنازل للجديد خشية انفجارات أكبر لا تعرف نتائجها، وتتحد مع الذات الفردية من جديد وبالشكل الجديد.

ان هذه العملية (أي الوحدة – القطيعة – الوحدة) لا تقتصر على هذه المرحلة البدئية فقط (مرحلة الطفولة) انما تتكرر مراراً عديدة. فكلما تعمقت وتوسعت الذات الفردية في ادراك كنهها الحقيقي كلما اكتشفت ضرورة خوض الصراع والتقدم نحو صيغة جديدة اخرى. بل يمكن القول ان تاريخ كل فن هو سلسلة متواصلة من هذه النقلات. إلا ان بعضها تبدو حاسمة اكثر من غيرها حيث تأخذ شكل منعطفات جذرية وخضعات عنيفة هائلة النتائج، في حين تبدو النقلات الاخرى هادئة محدودة الآثار والنتائج وداخلية جداً لا تحدث الكثير من الخرائب. لذلك وبينما يظهر رواد الاخيرة كمجرد مجددين فرعيين، يظهر رواد الاولى كأرباب تجديد خالدين بكل معنى الكلمة شريطة ان تجتمع فيهم الخصائص التالية:

1- وعي الضرورة التاريخية للتجديد.

2- الجرأة على تجاوز ما هو سائد وقديم مهما كانت قدسيته.

3- دفع ضريبة التجديد وهي غالباً قاسية.

4- النجاح في تثبيت الصيغة الجديدة.

واذا اقتصرنا الان على تاريخ الشعر العربي وحده، فاننا نجد ان هذه الخصائص لا تجتمع إلا في أربعة شعراء، قاد كل منهم مرحلة من المراحل الرئيسية في تجديد الشعر هذا. وهؤلاء الشعراء هم على التوالي ما يلي: امرؤ القيس فأبو الطيب المتنبي فأبو العلاء المعري فبدر شاكر السياب.

ولنحاول الان تلمس خصوصية كل مرحلة من تلك المراحل من اجل فهم مصداقية وشرعية رأينا الخاص هنا حول هؤلاء الشعراء الاربعة.

باختصار شديد وبكثير من التبسيط، نقول باننا نعتقد ان الشعر العربي عرف في تاريخه الطويل سيرورة تطور متواصلة لا قفزة فيها ولا قطيعة، اجتازت نقلات ومراحل عديدة متتابعة فرضتها حيوية الصراع بين الذات الفردية للشاعر والذات الجماعية لانتمائه. وفي مجرى ذلك انتقلت العلاقة بينهما من حال الى حال الى الامام وضمن الوحدة دائماً. وهذه المراحل هي ما يلي كما تبدو لنا في الشعر المذكور:

المرحلة الاولى:

تمتد هذه المرحلة منذ ولادة الشعر العربي، كفعل خلق فني، حتى امرئ القيس وشعره. هذه المرحلة هي مرحلة طفولة الشعر العربي اذا صحّ القول. ويمكن تعريف العلاقة بين الذات الفردية والذات الجماعية فيها، بانها علاقة وحدة راكدة خاملة بشكل شبه مطلق. أي علاقة انسجام وسلام غريزي ومحبة طبيعية فطرية تشبه الى حد بعيد علاقة الفرد مع القبيلة والرضيع مع أمه والطفل مع أبيه، حيث لا تناقض ولا اصطدام انما وحدة دم وحليب. اذ ان الفرد في القبيلة الاولى البدئية ورغم شعوره بكونه فرداً مستقلاً عضوياً وجسدياً، وهو شعور واضح لديه، فانه لا يمتلك بعد شعوراً بانه شخص، ولا يمتلك وعياً ذهنياً بان ذاته تختلف – فنياً – عن الذوات الفردية الاخرى التي تتكون منها القبيلة. انه “نحن” فقط وليس “انا”. ولذلك فان قيمته لا تكمن في كونه “زيد” او “عمر” مثلاً انما في كونه “هلالي” و”أسدي” و”تميمي” و”قريشي” والى آخره. وما يصدق على افراد القبيلة يصدق على الشاعر ايضاً. فذات الشاعر الفردية هي ذاته القبلية أي الجماعية. ولذلك ليس صدفة ان الشاعر، في هذه الفترة خصوصاً، يسمّى بـ “ربابة القبيلة” او “صناجة العرب”. كما ان موضوع الشعر فيها هو قطعاً الرثاء والفخر والهجاء والتحميس والنصح وغيرها من مواضيع تعكس هموم الذات الجامعية ويندر ان تعكس هموم الشاعر كذات فردية.

هذه المرحلة البدئية ستستمر حتى ظهور امريء القيس الذي، بشخصنة قصيدة الغزل، كسر لأول مرة شكل وجوهر العلاقة بين الذات الفردية والذات الجماعية، مؤسساً اول تناقض داخل الوحدة العفوية التقليدية بينهما. ورغم شكوك طه حسين بصحة ما ينسب الى امريء القيس من شعر، ورغم قلة واضطراب ما يتوفر منه، فاننا نستطيع القول ان هذا الشاعر هو اول مجدد –ونزعم انه كان واعياً ذلك بالضرورة- في الشعر العربي. فعلى صعيد الشكل نجد انه اول من نقل القصيدة من مجرد حداء جماعي في السابق الى حالة جديدة يمكن تسميتها بالحداء الفردي الذاتي الذي -على صعيد المضمون- يعكس اغتراباً اولياً تعيشه الذات الفردية حيال الانتماء الجماعي، وهو اغتراب بلا أحلام ولا اوهام:

“ألا يا ايها الليل الطويل ألا انجلِ   بصبح وما الاصباح منك بأمثل“!

هذا الاغتراب يعكس محنة لا يعرف كيف يواجهها الشاعر، وهي محنة الذات الفردية في اول تمرد لها على “الاب” التقليدي (القبيلة). ولانه اول تمرد فان الذات الجماعية ستواجهه باستنكار عنيف: باتهام امريء القيس بـ”الخليع” و”الضليل” و”ذي القروح” وبمطاردته في المفازات والقفار. واذا كانت القبائل ستشفى غليلها بعد قتل امريء القيس، فانه ستجد نفسها مضطرة ان تخضع للضرورة التاريخية التي استجاب لها امريء القيس ودشنها بتحويله القصيدة من حداء جماعي الى حداء ذاتي، حيث نجد ان هذا التطور سيعتمده معظم الشعراء العرب بعد امريء القيس وخصوصاً بعد الاسلام.

المرحلة الثانية:

اذن، منذ امريء القيس بالتحديد، انتقلت العلاقة بين الذات الفردية والذات الجماعية من مرحلة الوفاق الخامل الى مرحلة النضال والصراع. صحيح ان الذات الاخيرة رضخت للضرورة واعترفت نسبياً بالذات الفردية وحاولت التكيف معها وارضاءها. الا ان الصحيح ايضاً انها ظلت تدينها خفية وعلناً فتتهمها بالسحر والغواية والتعامل مع الشياطين مرة وتخطط لاعادتها الى الحظيرة الاولى مرة اخرى وتنجح وقتياً وذلك عبر قيام الذات الجماعية بطرح نفسها كمتطورة وحديثة وكانتماء جدير بالتفاخر بعد ان تغير شكلها من قبيلة الى قوم او اقليم او أمة وعندئذ تغرى الذات الفردية بلبس قيودها بنفسها من غير ان تدري. واذا تلمسنا تجسيد ذلك في تاريخ الشعر العربي نجده واضحاً جداً في القرون الثلاثة الاولى من الفترة الاسلامية حيث تحولت القبيلة الى شعب والى أمة والخيمة والصحراء الى مدن وخلافة وشرق اسلامي. ففي هذه الفترة خمد الصراع بين الذات الجماعية والذات الفردية واتحدتا لصالح سيطرة الاولى. اذ تراجعت الــ “انا” الذاتية للشاعر امام الــ “نحن” الجماعية، ومثلما كان يتباهى بانتمائه القبلي سابقاً صار يتباهى بانتمائه “العربي” او “الشرقي” او “الاسلامي” او حتى “الحنبلي” او “الشيعي” او “الفاطمي” والى آخره. ولكسر هذه القيود وانعكاساتها ظهرت الضرورة التاريخية للتجديد التي تصدر ريادتها ابو الطيب المتنبي.

ان التجديد الذي ادخله المتنبي على القصيدة العربية كبير وعظيم سواء على صعيدي الشكل والمضمون وجماليتهما. وهو في جوهريته انتفاضة الذات الفردية للشاعر ضد الذات الجماعية وضد عنجهيتها واستبدادها. انتفاضة عنيفة ذهبت فيها الذات الفردية الى حد التباهي بنفسها كاشرف واسمى من الذات الجماعية التي اتهمها بدورها بالضلال والجريمة: و”ما مقامي بارض نخلة الا كمقام المسيح بين اليهود” ستصرخ ذات المتنبي الفردية بوجه الذات الجماعية، مضيفاً “انا في أمة تداركها الله كصالح في ثمود” و”كل ما قد خلق الله وما لم يخلق محتقر في ذمتي” وغيرها من تحديات نبيلة الهبت الرعب والحقد في قلب الذات الجماعية، فكسرت عن انيابها الحقيقية وارسلت خنجرها المعقوف مع اسدي فاتك ليمزق جسد المتنبي ارباً ارباً كرمز للذات الفردية المتمردة كما فعلت من قبل مع امريء القيس.

بيد ان التطور الكبير الذي حققته القصيدة مع المتنبي كان لابد ان يستمر كضرورة تاريخية. فعلى صعيد الشكل جرى التخلص من الثرثرة الحكمية والطقوس الدينية والتقاليد القديمة (كالبكاء على الاطلال كمقدمة خارجية للقصيدة)، وادخلت تطويرات خارجية جوهرية جمالياً كاستلهام الفولكلور والاساطير واستعمال الرموز وغيرها. اما على الصعيد الداخلي فان الاغتراب -الحيرة الذي نجده لدى امريء القيس وقصيدته سيتطور لدى المتنبي الى اغتراب هو تمرد وكبرياء وفردي تماما.

المرحلة الثالثة:

لقد تعلمت الذات الفردية للشاعر درساً عميقاً من الطريقة الوحشية التي اعتمدتها الذات الجماعية في الانتقام من المتنبي المتمرد. وادركت ان الاخطار التي تحيق بها كبيرة اذا ما واصلت الانتفاض، سيما وان الذات الجماعية تشهر الخنادق والبنادق وايديها على الزناد. ولذلك، وحماية لروحها من القتل، ستبتكر طريقة جديدة سلبية سلمية في النضال -الوحدة مع الذات الجماعية تميزت اما بالانطواء والزهد كما يتجسد ذلك في الشعر الصوفي (الوحدة مع الذات الالهية المطلقة) او التطوع لخدمة الذات الجماعية والتملق لها وحث النفس على الاستسلام والخيانة (ابو العتاهية).

لكن هذا الميعان والاستهدان كان لابد ان يصطدم بالجوهر النقي للذات ونبل معدنها. ولما كانت الاخطار لم تزل قائمة، فان الذات الفردية ستطور حالة جديدة من المطالبة بمكانتها والنضال بحقوقها، حالة جديدة اقتضت تجديداً في الشعر تصدر ريادته ابو العلاء المعري. فمع هذا الاخير سجلت الذات الفردية تطوراً نوعياً كبيراً في بلورة واغناء وعيها وفي اكتشاف طرق جديدة في الصراع مع الذات الجماعية. ويمكن تلخيص هذا التطور باكتشاف الذات الفردية لمحتواها الانساني العالمي الشامل بدلاً من بعدها القبائلي العربي (لدى امريء القيس) وبعدها الشرقي الاسلامي (لدى المتنبي).

وهذا التطور اقتضى تطوراً موازياً في بنية القصيدة داخلياً وخارجياً تجسد داخلياً في المضمون الفلسفي للقصيدة واعتماد “اللاغرض” كموضوع. اما خارجياً فتجسد في مغامرة “لزوم ما لا يلزم” وفي عقلنة حركة المفردة وتقنين حريتها جمالياً عبر منحها سموّاً خاصاً لا يسمح لها بالشطط والمجانية وسهولة الامتطاء والقياد المتهور. كما لو ان أبا العلاء المعري اراد ان يثبت – واعياً- ان الذات الفردية للشاعر هي حيال الذات الجماعية الانتماء، بمثابة القديس بين البشر، مجسداً بذلك ضرورة تاريخية لاثبات جدارة الذات الفردية بالحرية والاستقلال، وقدرتها على التحكم بنزواتها وردع نفسها بنفسها لا لمجرد الردع انما لادانة الذات الجماعية بانها هي التي ترتكب ما تتهم الذات الفردية بفعله: الهيمنة.

ورغم القسوة الذاتية الكبرى التي فرضتها الذات الفردية على نفسها في شعر المعري، فان خطوة داخلية هائلة الى الامام هي التي سجلها ابو العلاء مع تطور الشعر العربي عبر هذا المنهج مؤكداً ضمناً بان الشعر ليس مجرد ترف او غواية انما هو، بمعنى ما، جوهر الانسان ذاته، جوهره الاعظم ربما. وبالطبع فان الذات الجماعية تقرأ عبر حاستها التاسعة مغزى وخطورة التجديد الذي اقترحه المعري ولذلك ستحاول اقتحام حتى عزلته الطوعية. فبعد ان اتهمته بالكفر والزندقة، حضرت له حبال الصلب للانتقام منه وكادت تقتله فعلاً لولا انها وصلت متأخرة: كان الصليبيون الغزاة قد احتلوا معرة النعمان في طريقهم لاحتلال القدس وفلسطين فانقذوا دون علم مسبق، حياة أبي العلاء من بطش القبائل العربية الحاكمة والتي تعتبر الانتقام من الذات الفردية والشعراء “المتمردين” عليها، واجباً مقدساً يعلى ولا يعلو عليه ولا تطاله في الاولوية حتى حماية الاوطان من الغزو الاجنبي والخراب، كما لو ان خناجر القبائل تخفي غراماً سريّاً ما بعده غرام لدم الشعر والشعراء.

المرحلة الرابعة:

منذ التجديدات الكبرى التي أسسها المعري وادخلها على القصيدة، لم يعرف الشعر العربي، برأينا، إلا اضافات خارجية، تكميلية وثانوية، وإجمالاً غير حاسمة. اضافات تفرضها الذات الجماعية ذاتها ومن فوق. فلا البارودي ولا احمد شوقي ولا الخوري ولا الرصافي ولا ابو شبكة ولا جبران ولا الجواهري هم بشعراء مجددين مهما عظمت ادواتهم. انما هم شعراء حاولوا، كل بطريقته، التوفيق بين شعر قديم ومظاهر حياتية حديثة. والحال ان فنقول فعلاً ترميمياً كهذا نجده في كل فترة من تاريخ الشعر حتى الاكثرها جدباً. اما من يعتقد بان مضامين هؤلاء حديثة له بانه قديم ولا يدري، لأن وجود مفردة “طيارة” او “سيارة” او “كهرباء” في القصيدة لا يجعلها حديثة قطعاً، كما ان وجود كلمة “العالم” و”الامم المتحدة” و”الانتداب الانجليزي” و”الثورة البلشفية” لا يجعلها عالمية كونية قطعاً، مادام دم القصيدة قبلي، قومي، اقليمي، طائفي وما شابه. فالقصيدة التجديدية الحديثة لا تبد إلا مع الشعر الحر أي مع السياب ومن بعده وليس قبله أبدا.

فحتى السياب، كانت الذات الجماعية هي المسيطرة بشكل مطلق. اما معه وبعده فقد انقلبت هذه الموازنة لصالح الذات الفردية مدشنة مرحلة جديدة في تاريخ تطور القصيدة، وملبية ضرورة تاريخية لم يكتشفها فعلياً وعميقاً إلا السياب. صحيح ان بعض الشعراء الاخرين سبق السيّاب في كتابته شعراً بدون قافية او شعراً منثورا، غير ان هذه المحاولات لا تسمّى كشفاً بحد ذاته. كما هو الحال تماماً بالنسبة لاكتشاف كريستوف كولومبس للقارة الجديدة. فقبله كان الصيادون الفرنسيون والايرلنديون والبريطانيون قد وطئوا القارة وبنوا لهم فيها مستوطنات وقتية. لكن ذلك لم يكن اكتشافاً بالمعنى العميق للكلمة.

ومهما يكن الأمر يمكن تلخيص محور الكشف السيابي بكونه نجح في استقراء الضرورة التاريخية للتجديد، أي الضرورة التاريخية لحصول الذات الفردية على مكانة أرقى من السابق في فاعلية وحركية وحدتها مع الذات الجماعية. فبتحريره القصيدة من عبودية القافية حرر السياب الذات الفردية في الواقع من عبودية الذات الجماعية باعتبار القافية هي بمثابة السجن الذي تستخدمه هذه الاخيرة لمنع الذات الفردية من امتلاك ذاتها بذاتها.

هذا التطور الجوهري في نضج وتحرر الذات الفردية بمواجهة الذات الجماعية كان لابد ان يقترن بتطور حتمي موازٍ في نضج وتحرر الاطار الشعري جمالياً وفنياً تمثل في ضرورة هدم القافية وكسر عكازة الجناس والطباق، وفي اعادة توزيع الموسيقى الداخلية وحركيتها وفق ذوقية اكثر انسانية وعالمية وعمقاً نغمياً واكثر صدقاً في حرارة العشق، معبراً عبر كل ذلك، على صعيد المضمون، عن اغتراب جديد واع تماماً هذه المرة، هو الاغتراب من اجل الحرية التي تجعلها القصيدة السيابية دائماً كما لو كانت مضمون الانسان ذاته. فتسمية “الشعر الجديد” بـ “الشعر الحر” هي تسمية عميقة جداً برأينا.

واذا كان البعض يسعى لطرح تسميات اخرى فذلك لا يجب ان يخفي جوهر هدفه. اي انه هنا ينفذ حيلة الذات الجماعية في هجمتها الجديدة لتصفية الحساب مع ذلك التجديد. ويعكس ايضاً البغضاء الابدية التي تكنها الذات الجماعية للحرية سواء كانت مفهوماً ام مفردة. ويبدو لنا ان السياب كان يدرك، الى هذا الحد او ذاك، ان الذات الجماعية لن تقف مكتوفة الأيدي امام التطورات التي حققتها الذات الفردية، وانها لن تنتظر طويلاً لتتحرك من اجل استعادة سيطرتها على الذات الفردية من خلال مفاهيم جديدة – قديمة كالالتزام و”الفن للمجتمع”، وترويجات مخاتلة كالقول بان “الشاعر هو لسان حال الأمة” او “برغي في ماكنة الثورة” والتي لا تعني في الجوهر سوى ذات الشيء الذي تدل عليه مفردة “صناجة القبيلة” و”ديوان العرب“.

لقد حققت الذات الفردية انتصاراً هائلاً مع السياب وانتزعت الاعتراف من الذات الجماعية بقيمتها وجوهريتها وضرورتها كطرف يجب ان يكون ندّاً ومتساوي الحقوق في الوحدة بينهما. لكن هذا الاعتراف لن يكون من جانب الذات الجماعية سوى هدنة مؤقتة لأخذ النفس وكسب الوقت، اذ انها لابد ان تعود الى حشد قواتها وجيوشها لشن الحرب ضد الذات الفردية بهدف استعبادها من جديد. لان الذات الجماعية لم تتخل عن كل ذلك إلا على مضض، وفي لحظة كانت عاجزة فيها عن الدفاع عن مملكتها الواسعة القديمة.

وها هي الآن اصلاً تمهد للهجوم بدفع الشعر الحر الى ارتكاب اخطاء قاتلة تربك ضرورته التاريخية كالقيام باقناع بعض رموز الشعر الحر المنهكة بالعودة الى كتابة الجنجلوتيات العمودية والعودة الى الحظيرة نادمين. والقيام ايضاً بتشجيع “الشعر المنثور” الذي لا يمكن بعدُ فهم مبرر وجوده مادام بلا ضرورة تاريخية، حتى الآن على الاقل، في الشعر العربي. وبكلمة اخرى اننا نعتقد ان الشعر الحر لا يزال معرضاً الآن اكثر من أي وقت مضى الى هجمات الذات الجماعية ممثلة بالشعر القديم، وان هذه لن تترك فرصة تفلت من يديها، اذا سنحت غداً، لاستعادة هيمنتها القديمة. اننا نعرف ان الشعر الحر يمتلك ضرورته التاريخية بكلتي يديه، إلا ان هذا لا يكفي لوحده بل عليه ان يغسل نفسه بين فترة واخرى ليزيح الاميبيات العالقة به التي تغذيها الصحف الرسمية والتجارية كل يوم.

واذا حاولنا الآن تلخيص كل ما تقدم بكلمات قليلة نستطيع اقتراح الجدول التالي كمخطط يوضح طبيعة سيرورة التطور التي قطعها الشعر العربي في تاريخه الطويل وخصوصية كل مرحلة من مراحله الرئيسية فيما يتعلق بتجديد الشكل والمضمون وهو كما يلي:

1- الشكل الخارجي للقصيدة:

وحدة بدئية خاملة بين الشكل والمضمون (قبل امريء القيس) طغيان الشكل على المضمون (امرؤ القيس) وحدة خارجية بين الشكل والمضمون (المتنبي) طغيان المضمون على الشكل (المعري) وحدة داخلية بين الشكل والمضمون (السياب).

2- الشكل الداخلي للقصيدة:

حداء جماعي (قبل امريء القيس) حداء ذاتي (امرؤ القيس) تأمل ذاتي خارجي (المتنبي) تأمل ذاتي داخلي (المعري) يقين ذاتي داخلي- خارجي (السياب).

3- المضمون الداخلي للقصيدة:

توافق عفوي بين الذات الفردية والذات الجماعية (قبل امريء القيس) اغتراب/حيرة الذات الفردية حيال الذات الجماعية (امرؤ القيس) اغتراب/ تمرد الذات الفردية حيال الذات الجماعية (المتنبي) اغتراب/ تعالي الذات الفردية حيال الذات الجمالية (المعري) اغتراب/ تحرر الذات الفردية حيال الذات الجماعية (السياب).

4- المضمون الجمالي للقصيدة:

جمالية خاملة (قبل امريء القيس) جمالية خارجية (امرؤ القيس) جمالية خارجية – داخلية (المتنبي) جمالية داخلية (المعري) جمالية داخلية – خارجية (السياب).

هذا باختصار رأينا في تحديد مراحل سيرورة تطور الشعر العربي وارباب التجديد في كل مرحلة منها. ونضيف ايضاً ان هذا التقسيم وهذا الاختيار هو اشبه بتحصيل حاصل تفرضه رؤية عميقة لتاريخ هذه السيرورة وايضاً لدور هؤلاء الشعراء فيها. هذا الدور الذي يبدو كما لو كان من فعل قوة لا مرئية لا يعرفون بها هم انفسهم. انها قوة سرية جعلت هؤلاء الشعراء كما لو انهم ولدوا من اجل الشعر والشعر وحده، وعاشوا في خيمة الشعر والشعر وحده، وماتوا شهداء الشعر والشعر وحده. وجميعهم عرف طفولة قاسية، ومراهقة مضطربة، وقلوب ممزقة، ومعشوقات لا يفهمن في العشق، وغربة دائمة وحصاراً قاهراً. وجميعهم أخيراً مات مكسور القلب ممزق الجسد على يد الذات الجماعية وقبائلها التي، بعد ان تقتلهم، تلعق دمهم، ثم تبكي عليهم وتقيم لهم اليوبيلات الفضية والذهبية والمهرجانات الباذخة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *