“شاحبة كل النظريات يا صديقي، فيما شجرة الحياة خضراء دائماً”. هل هو الشوق الكوني لأفول الأزمنة الدوغمائية هو الذي يبشر به غوته في هذه الهمسة الخالدة، أم هي نفثة قنوط مريرة من هذا المسمّى بـ “العقل” الذي يصبح أحياناً، أحياناً كثيرة، مجرد مصنع للنعرات وآلة لإنتاج وترويج الاوهام القديمة ذاتها؟
كلّ من الجوابين ممكن ربما، اذ لا فرق جوهريّ بينهما في المحصلة الاخيرة. لكن ما يهمّ هو الحدس، كي لا نقول اليقين، بان النظريات، كل النظريات، مصيرها الشحوب المبارك. ولا صباحات ابدية حتى بالنسبة لها. فمهما بدت الواحدة منها، في لحظة او اخرى، فتية بهية وواثقة الخطوة تمشي ملكا، لا مناص من ان يفضي بها الحال الى الاصفرار والى خريف قاهر. وحدها الحياة شجرة، حركة شابة ابدا تقود الفصول وتطيح بالتيجان وتكنس الاصنام غير آبهة إلا بارضاع فسائلها الجديدة، وغير فرحة الا ببهاء نسغها الصاعد والنازل. لكن النظريات تأبى الاعتراف بهذا النصيب مفضلة دفن رأسها في الرمال او دفننا في أيّ افيون. فهي لا تريد أبداً الاقرار، الرهيب بلا شك، انها “كانت” شابة و”كانت” ضرورية، وكانت وكانت… لكنها لم تعد كذاك. ولانها لا تريد ذلك فقد اخترعت مغالطة “نهاية التاريخ”. وهكذا فالحياة في زعمها هي التي اوشكت على “النهاية”. وهذا هو الامريكي فرانسيس فوكوياما آخر “المبشرين” في هذه الساحة المفجعة الاثارة.
لكن وقبل التفرغ لأفكاره في هذه الصفحات، من الضروري ملاحظة انه وفي ثنايا هذه المغالطة ذاتها ينبغي البحث عن التفسير الوحيد الممكن لظاهرة هذا العدد المفجع من المنظومات العقائدية والاحزاب والملل والنحل التي تتوزع البشر وتوزعهم اضداد فيما بينهم، وكل واحدة ترى نفسها وحدها تاج العقل واللحظة العليا في العلم المطلق، وكل منها تقطع لنا موعداً حتى في ما وراء الحياة، في العالم الآخر، وكأضداد ايضاً.
فالقول بـ “نهاية التاريخ” بضاعة قديمة قدم التأمل والحياة وخالدة بخلودهما ربما. فنحن نجدها في قلب كل الايديولوجيات والنظريات السياسية. كما نجدها في بشارة كل المذاهب الصغرى منها او الكبرى، اذ هي حاضرة بجلاء في مفهوم “الشعب المختار” كما في مفهوم “يسوع بن الله”، وفي مفهوم “التفوقية العرقية” كما في مفهوم “القيادة البروليتارية” او “الامة الخالدة”، كما هي متضمنة في عبادة البقرة او عبادة النار او عبادة الباذنجان الاسود. لكن القبول بهذه او تلك منها يظل قضية ايمانية مفتوحة، شرط بالطبع ان لا يأتي من يستعملها في برنامج جهنمي فيحولها الى مطية في حروب صليبية او مذابح هندو –سيخية او معسكرات موت نازية او مسالخ و”انفال” بعثية…
ففكرة “نهاية التاريخ” هي لحظة ايديولوجية في الاصل وفي الفروع. وكان على الفلسفة ان تأنف من امتطاء هذا الاغراء ما دامت، حسب تعريفنا الخاص لها “بحث عن الحقيقة من اجل الحقيقة عبر الشك بكل حقيقة”. وقد نجحت فعلاً في السمو على ذلك لقرون طويلة وان بصعوبة ومقابل تنازلات جمة عكست اضطراراً على المسايرة أكثر مما عبرت عن حالة رضاء وتوافق. إلا انها لم تلبث ان تخلت عن حصافتها هذه لاسيما منذ ولادة ما سمي بـ “فلسفات التاريخ”. فمع هذه الاخيرة راحت تدخل هي ايضاً في مساومات وتواطئات وتبعيات سعيدة مع كل هذا الضد – فلسفة الذي يعبر عنه الكيان الروحاني العام، الديني الثقافي الايديولوجي السياسي، الذي ينتمي له بالولادة او بالتبني هذا الفيلسوف او ذاك.
بلا شك ان “فلسفة التاريخ” هي ايضاً نظام ميتافيزيقي في مظهره العام وعناصره التأسيسية. إلا انها، ومن حيث كونها خوضاً في الزمنية الملموسة، النظام الميتافيزيقي الاكثر بهرجة وبعداً عن القيام بذاته ولذاته، ونكاد نقول الاكثر زيفاً مادام مستعداً، كنظام، ان يستوعب في جرابه كمّا لا حدود له من العناصر المزاجية والذاتية المباشرة، وما دام شغوفاً، في لحظة او اخرى، بعقد شتى صفقات التآلف والتوافق والمقايضة مع الانطباعات العامة الموروثة منها او المبتكرة.
نعرف بالطبع ان الفلسفة، منذ ان انزلها ارسطو من السماء الى الارض، لم تفلت من ارتكاب خطيئة الركون الى هذه المحدودية التعسفية التي تجعل الانسان “مركز الكون” الوحيد. لكن لحظة التجريد بقيت عظيمة الحضور عند التعامل مع هذا المعطى، حيث ظل “الانسان” مأخوذاً لديها كمحض عقل ومموضعاً في زمنية محض ذهنية. اما مع فلسفة التاريخ، فان لحظة التجريد هذه هي التي اطيح بها ومعها فقدت الفلسفة جناحها الاكثف ريشاً. ولئن اصبحت ارضية وزمنية بشكل مفجع، ذلك لأن التاريخ، استدلالاً، ارضي بالضرورة وزمني بحكم التعريف، وحيثي كي تمكن قراءته. وسواء وضعنا بدايته في سومر او بابل او اثينا او مصر، او ابعد او اقرب، فان مجرد وضع هذه “البداية” هو بحد ذاته تأسيس وإن مؤجل او افتراضي، لـ “نهاية” التاريخ.
حتى هيغل، فيلسوف “الروح المطلق” و”الديالكتيك” و “التناقض اللامتناهي” في “الفينومنلوجيا” لم ينجح في تجنب خطيئة وضع “الروح” في حجرة ضيقة في فلسفته للتاريخ. هذا “الجزء المخجل” في نظامه الفلسفي على حد تعبير الالماني سبرنغر منذ 1848 وهو ليس الوحيد في هذا الرأي.. حتى نيتشه حمل بسخرية وعنف على “فلسفة التاريخ” الهيغلية متهماً اياها بالاعتباطية من حيث انها توحي بان تاريخ الوعي الانساني وصل مرحلة “العلم المطلق” بها. وهي سخرية تفضح مرارة رهيبة بحد ذاتها، ذلك لأن الموافقة على هذه الفكرة، فكرة ان نهاية الزمان العقلي التاريخي قد ازفت، توقع الفيلسوف الآتي والحضارات اللاحقة في حيرة وشلل مدمرين لما تتضمنه من حكم قاطع ومسبق بعقم وعبثية أي جهد تأملي يمكن بذله بعد الآن.
بيد ان اخطاء هيغل تجاوزت هذا الحد احياناً، كما نعتقد، عندما اوحت بشكل او آخر بتمجيدها للدولة البروسية وبتخليدها الروحانية اللوثرية وبمباركتها عضال التفوقية الغربية وغيرها من الانزلاقات التي لا تليق بفيلسوف رصين يطمح ان ينطق باسم “العقل المطلق”.
صحيح، ان الفلسفة الهيغلية لم تعرف ابداً ان تكون واضحة لاهمال الفيلسوف ان يكون صارم الدقة لسبب او لآخر كالاستسلام الى بعض الثرثرة احياناً او الشغف المضجر لديه بالمزاوجة بين اسلوب لاتيني مندرس ولغة المانية في اوج التفتح بعد ما اوقعه في تناقضات لا تحصى، زادها بلّة “كسله” في القيام بنفسه بتدوين او بالاشراف على النصوص النهائية لمحاضراته حول فلسفة التاريخ وتاريخ الفلسفة وفلسفتي الدين والجمال، تاركاً هذه المهمة، بلا قصد، لتلاميذه ومستمعيه. إلا ان هناك بالفعل ما هو اعتباطي و”ميّت” اصلاً بين الافكار الجوهرية في الفلسفة الهيغلية لاسيما ذلك المتعلق بفلسفة التاريخ وتقسيماتها الخاصة لديه.
ومع ذلك فان كل هذا لا ينبغي، إلا تعسفاً، ان يقود الى طمس الحقيقة وهي ان روح الفلسفة الهيغلية تظل حيّة وتعبر عنها هذه الحركة الديالكتيكية المطلقة من الاطاحة والبناء، من الموت والولادة.. الحركة التي حالما تبلغ هدفاً تكون قد رسمت لها هدفاً جديداً وهكذا الى ما لا نهاية. فالهيغلية اذن هي الفلسفة التي تضع نهاية لكل تاريخ معين لكنها لا تضع قطعاً نهاية للتاريخ باعتباره حركة، وباعتباره سيرورة كونية. وهذا هو بالتحديد ما سميّ بالجانب “الثوري” فيها.
ولعله بالغ نيتشه في استنتاجه الغاضب بأن هيغل يصادره امكانية التفلسف، فسارع الى رجم قبره ببضعة احجار. لكن ليس كل من استنتج وجود فكرة “نهاية التاريخ” لديه سارع الى رجم هذا الفيلسوف. انما وجد على العكس من لم ير سواها عنده فصفق لها والتقطها ووضع عليها الطلاء الذي يشاء ليوظفها في بورصته الخاصة.
الفريد باوملر ودناصير الامبراطورية الهتلرية فعلوا ذلك بابتذال، وقبلهم قام به موظفو الدولة البروسية وهيغل على قيد الحياة بعد تاركين اياه يقضم كهولته وحيرته بصمت، وكتبة الامبراطورية الهنغارية النمساوية ايضاً وغيرهم وغيرهم من كل الاصناف. وحتى ايديولوجيو الامبراطورية السوفيتية لم يجدوا غضاضة في تجريب هذا الاستعمال. فما دام الأمر لا يكلف سوى وضع تمثال نصفي للفيلسوف يبدو فيه محنطاً وبارداً كالمومياء في مدخل حديقة مظلمة، لماذا لا يوظف هؤلاء هيغل، هيغل خصوصا، لحسابهم الخاص؟
لا نريد المباغتة بالاستنتاج، مما تقدم، بان فرانسيس فوكوياما يدلى بدلوه هو أيضاً في هذه البئر. بل علينا معرفة ما يقوله أولاً. ولنسجل من الآن باننا لم نستفز بصراحة اعلانه بانه موظف في “الامن القومي”(·) لامبراطوريته. على العكس وجدناه الاكثر صراحة من جميع اولئك الموظفين الذين نبشوا قبر هيغل بحثاً عن خاتم لهم، على الاقل لانه الوحيد الذي يخبرنا بانه موظف، وموظف امن، بينما زعم الآخرون لأنفسهم جلال الفكر.
هكذا تكلم فوكوياما
واذا توقفنا عند فوكوياما الآن، فيمكن ان نلخص الافكار التي يقدمه حول موضوعة “نهاية التاريخ” عبر المداخلة التالية التي تحرص ان تنقل افكاره بدقة:
يرى فوكوياما اننا اذا تأملنا الاحداث في العالم منذ اقدم وجود للوعي السياسي وللدولة وحتى الان، فان ظاهرة ملموسة تبزغ للعيان بجلاء، وهي ان النظام الليبرالي الديمقراطي وحده هو الذي استطاع الصعود والتطور اينما ظهر. ولا يغير شيئاً في هذا الاستنتاج كون ظهور هذا النوع من الانظمة لم يتحقق إلا منذ الثورتين الامريكية في 1776 ثم الفرنسية في 1779. يضاف الى ذلك، ويعززه، ان النصف الثاني من القرن العشرين، شهد انتشاراً كبيراً لهذا النظام في العالم. بل يمكن القول انه لم يعد يواجه منافسة او خطراً من أي نموذج او خصم حقيقي آخر بعد الانهيار المهرجاني للاتحاد السوفيتي ونظام الحزب الواحد فيه وفي توابعه. هناك بلا شك الآن وفي المستقبل عدد من الحركات والايديولوجيات التي تسعى او تطمح الى تحدي الليبرالية الديمقراطية، من بينها الدينية والقومية. إلا انها لن تفلح في ذلك نظراً لمحدوديتها وضيق افقها وعدم امتلاكها شروط اعتناقها بشمولية عالمياً.
ان هذه المعطيات جميعاً تسمح بالقول ان النظام الليبرالي الديمقراطي سيصبح خياراً سياسياً لكل شعوب العالم في مستقبل ليس بعيداً جداً، بفضل انتهاء الهجمات عليه وتوقف النزاعات الايديولوجية معه وبفضل التطور الاقتصادي الذي حققته الدول الصناعية ذات الانظمة الليبرالية في العالم الحديث. ويمكن الاستدلال على ذلك من حقيقة ان هذا النظام الذي لم يكن موجوداً قبل 1776 في أي مكان (الديمقراطية الاغريقية لا تعتبر ليبرالية لانها لم تقل بحماية حقوق وحريات الأفراد)، ولم يكوّن سوى ثلاثة انظمة في عام 1790، اصبح الان يتجاوز بعدده الستين نظاماً منتشرة في ارجاء العالم وليس في الغرب وحده.
وهذا العدد سيرتفع باضطراد حتماً لان نجاح هذا النظام نابع اساساً من جوهره، القائم على القول بان مبادئ الحرية والمساواة ليست نتاجاً عرضياً او مصطنعاً، انما هي نتاج اكتشاف الطبيعة الايجابية والعالمية للانسان. وعلى العكس منه، تثبت التجربة التاريخية للمجتمعات ان كل اشكال الانظمة الاخرى تعرضت، بعد فترة تطول او تقصر، الى السقوط والاندثار اما بسبب الثورات الداخلية (في حالة الانظمة الملكية الوراثية والاستبدادية الثيوقراطية) او بسبب الحروب الخارجية وعدم القدرة على المواجهة العسكرية (في حالة الانظمة الفاشية) او بسبب انفجار التناقضات الطبيعية داخل النظام (في حالة الانظمة الاشتراكية). وهي اذ تسقط فذلك لانها لم تكن في الاساس تمتلك شرعية فعلية في نظر مجتمعاتها، انما مفروضة عليها بالقمع والابتزاز.
اما الانظمة الليبرالية الديمقراطية فانها تتمتع بهذه الشرعية موضوعياً وبشكل كامل. فهذه تتأتى من قدرتها على تلبية وحماية المصالح العامة لمجموع السكان، وقدرتها على التطور في هذه الاستجابة بشكل يواكب تطور تلك المصالح. انها بكلمة الانظمة الاكثر انسجاماً مع وعي الانسان عن طبيعته مأخوذاً ضمن حركته التطورية. وهذه الخصوصية –وبالتالي الشرعية- لا يمكن ان تنضب او تلغى طالما نجح هذا النظام في تجديد نفسه والمحافظة على طبيعته الخاصة. فعندئذ لا الثورة الداخلية ضده واردة الحصول منطقياً، ولا الهزيمة العسكرية محتملة بسبب منعته الدبلوماسية والعسكرية ولا التناقضات داخله متفجرة بفضل ضمان امكانية حلها سلفاً.
ان ما تقدّم يسمح بالاستدلال على ان هذا النموذج من الانظمة السياسية، هذا النظام الليبرالي الديمقراطي الرأسمالي التعددي البرلماني.. هو اللحظة النهائية في التطور على صعيد شكل الدولة، وهو الغائية العليا التي يسعى العقل الى تحقيقها في التاريخ.
هذا الاستنتاج يطرحه فوكومايا بشكل واضح، بعد ان يأخذنا في جولة طويلة مبرمجة سلفاً في ثنايا الفلسفة السياسية وفي فلسفة التاريخ خاصة، وفي محاولة لا تخلو من بيروقراطية، من اجل تأصيل منظور يتبناه اصلاً، لا نلبث ان نكتشف بيسر ان الفلسفة مقحمة فيه قسراً. فهو يرى بدءاً، ان انهيار انظمة دكتاتورية الحزب الواحد في أوربا الشرقية يعني في الجوهر فشلاً للتفسير الاقتصادي للتاريخ الذي تقدمه الماركسية. صحيح ان الناس هناك كانوا يحلمون ايضاً ان يربحوا الرفاهية الرأسمالية – اي الرفاهية الاقتصادية- عندما اداروا ظهرهم للنظام الاشتراكي في بلدانهم، إلا ان الحقيقة الاكبر هي انهم كانوا يحلمون ايضاً بالحريات التي يضمنها النظام الرأسمالي. بمعنى انهم كانوا يدركون ان الرفاهية الرأسمالية لا تنفصل عن الديمقراطية الليبرالية بل هما مرتبطان ارتباطاً عضوياً في اساس النظام المذكور. فما كان يشغلهم هو ليس فقط تحسين شروطهم الاقتصادية انما ايضاً، وخصوصاً، التحرر من الخوف ومن مصادرة الذات ومن الاستبداد الذي تمارسه دولة الحزب الواحد المهيمن باجهزته القمعية.
وهكذا، وامام فشل التفسير الاقتصادي هذا، ينبغي البحث، حسب فوكوياما، عن تفسير آخر لا يأخذ السيرورة التاريخية على اساس الحاجات الطبيعية وحدها انما يعطي الاعتبار الاول لنزوع الانسان الى نيل الاعتراف به كذات. وهذا التفسير يجده في شكله الانضج لدى هيغل الذي، في نص له، تحدث فعلاً عن مبدأ “حب الاعتراف بي من قبل الآخر” باعتباره محرك الوعي الانساني في التاريخ. انه، استنتاجاً، ليس “التشوق الروحي للمُثُل” كما عند افلاطون، وليس “الرغبة بالانتصار” كما عند ميكافيلي، وليس “التطهر من الخطيئة” كما عند اوغسطين، وليس “حب الخير” كما عند روسو، ولا هذا وذاك. انما هو حب الحرية. فالتاريخ بالتالي ليس مجرد سلسلة من الاحداث العمياء، الاحداث المتعاقبة عفوياً، انما هو، وكما قال هيغل، “التقدم في وعي الحرية”.
وبالمعنى نفسه ايضاً يريد فوكومايا ان نفهم التاريخ. فالمقصود به هو ليس التاريخ بالمعنى التقليدي، كسلسلة من الاحداث الكبيرة والصغيرة، انما هو التطور المضطرد في تنظيم المجتمعات البشرية بدءاً من ابسط شكل للدولة، العائلية والقبلية، ومروراً بدول الاستبداد الفردي الثيوقراطي، فالملكيات المطلقة والامبراطورية، فالاقليات الارستقراطية، فالطغم العسكرية، فالحزب الواحد، فالديمقراطية الدستورية.. وما ينطوي عليه هذا التطور من تقدم للحرية.
وحتى هذه اللحظة، لا معضلة كبيرة مع فوكوياما، لكن لا جديد يذكر في هذه الافكار التي يطرحها. فقد سبق ان سمعناها بصيغة او اخرى من لدن الكثيرين من الاوساط الفكرية الغربية الليبرالية طوال سنوات الحرب الباردة وبشكل اعمق احياناً كما عند ريمون آرون وريفل. وفوكوياما نفسه لا ينكر ذلك ولا يتعب من ايراد الاستشهادات والشهادات. بيد ان المشاكل تبدأ وتتشابك منذ اللحظة التي يطرح فيها “نبوءاته” وابرزها اثنان: امكانية المطابقة بين النظام الليبرالي الديمقراطي الرأسمالي وبين “نهاية التاريخ” من جهة والمطابقة بين الدولة الدستورية النموذجية التي تصورها هيغل وبين النظام الامريكي خصوصاً، والغربي عموماً، من جهة أخرى.
هيغل من دون ديالكتيك !
لقد ذكرنا آنفاً ان الفلسفة المحضة، وفوكوياما يصر على التموضع داخلها، لا تقول صراحة او ضمناً بفكرة نهاية التاريخ. هناك، لاشك، اشارات عند مونتين عن “شيخوخة للبشرية” او عند كوندرسيه عن حلم تبلغ فيه البشرية مرحلة تحقق فيها توازناً بين المساواة والحرية والعقلانية، او عند كانت، في مقالة صغيرة كتبها في آخر حياته الفكرية، يوحي فيها بافتراض الوصول الى مرحلة يتحقق فيها ادراك ضرورة وضع الحرية تحت رقابة دستور مدني. إلا ان جميع هذه الاشارات بقيت عابرة وغامضة ولا تتجاوز الايحاء المشوش.
هيغل اذن هو الفيلسوف الذي اسس فكرة “نهاية التاريخ” بشكل حاسم ومكتمل نسبياً حسب فوكوياما. فهو كان من جهة أول الفلاسفة الغربيين الذين ادخلوا تواريخ الشعوب الاخرى في منظوراتهم الفلسفية حول التاريخ الكوني، وهو، ثانياً، الفيلسوف الذي نظر الى التاريخ على انه ليس مجرد تتابع لحضارات منفصلة عن بعض، او لمستويات مادية محققة ضمن تطور تاريخي، انما باعتباره صيرورة تطورية وكونية في وعي الحرية، وهذه الصيرورة لابد ان تتوقف في نقطة يبلغ فيها هذا التقدم في الوعي ذروته، أي غايته الكبرى، وهي التنظيم العقلاني المطلق للحياة في الدولة. وهنا في هذه النقطة لابد ان نصل الى “نهاية التاريخ”، اي تاريخ تقدم الوعي نحو الحرية.
ماركس أيضاً، في نظر فوكوياما، يشارك هيغل التصور بامكانية “نهاية التاريخ” مادام يرى ان المجتمع الشيوعي، هو هدف التاريخ الاعلى. فهذا المجتمع الخالي من الصراع الطبقي، أي من التناقضات، يلغي بذاته ضرورة تدميره. لذا يمكن النظر له باعتباره الشكل الاسمى والاخير في العملية التاريخية. إلا ان تمسك ماركس بالتفسير الاقتصادي من جهة ورفضه فكرة هيغل بوجود الدولة في ذلك المجتمع من جهة ثانية ورفضه ان يرى في الليبرالية الديمقراطية تمثيلاً لعالمية الحرب (انما لعالمية الرأسمال والحرية البرجوازية) من جهة ثالثة، يقود فوكوياما الى ابعاده من الارضية الفلسفية التي يريد الاعتماد عليها.
عند هيغل اساساً، وعند الهيغليين المثاليين لاسيما كوجيف، يجد فوكوياما كل ما يحتاجه لدعم موضوعته التي تجعل “نهاية التاريخ” متماهية مع النظام الليبرالي الرأسمالي العالمي الحالي. لكن أي هيغل؟
ان الاستعانة بهيغل وبقدر ما هي ممكنة وجذابة وضرورية، فهي ايضاً محفوفة بالمخاطر والمعضلات المغلقة. فالعقل “ماكر” كبير لا يرحم ضحاياه، يقول هيغل في فلسفة التاريخ. وضحاياه ليسوا الحضارات والمجتمعات والايديولوجيات والساسة فقط انما الافراد ايضاً بما فيهم الفلاسفة الذين قد يكتشفون فجأة، وغالباً في وقت متأخر، انهم، هم أيضاً، وقعوا ضحية عملهم الفكري ذاته. وهذا يصدق خصوصاً على اولئك الذين، ومدفوعين بانطباعات اعتباطية وأوهام قومية أو لاهوتية، يسعون الى قراءة فنجان المستقبل.
لقد قال هيغل، فعلاً، بأن التاريخ الكوني يبدأ من الشرق وينتهي في الغرب، وان “الامبراطورية الجرمانية” هي الامبراطورية الاخيرة، وان الدولة الدستورية هي الأمثل كنظام. ولنفترض القبول بكل هذا رغم المشاكل والتناقضات التي تكمن فيه. الا انه قال ايضاً ان التاريخ هو الديالكتيك متطوراً في الزمان وان التاريخ، باعتباره تقدماً في وعي الحرية، يعني ان الانسان مادام موجوداً – في الطبيعة – لن يتوقف ابداً عن التقدم لانه هو الهدف الاسمى للتاريخ، ولأن التوقف عن التقدم هو سقوط في عبودية جديدة وفي الانفصام.
الشيء ينتج نقيضه يقول الديالكتيك الهيغلي ليل نهار. وهذه حركة خارج التاريخ أي لولبية وابدية في ذات الوقت. فتطور الحياة التاريخية اذن يصبح بالضرورة لا نهائياً ما دامت لا تقوم إلا بانتاج التناقض ثم التصالح ثم التناقض الى ما لا نهاية. وحتى عندما يتحدث هيغل عن “نهاية” او “غاية قصوى” للتاريخ، فاننا يجب ان نفهمها ايضاً كـ “بداية جديدة” وكـ “منعطف آخر”.
هناك اذن نهايات مفتوحة، اي نهايات لا نهاية لها للتاريخ، وهذه النهايات التي لا نهاية لها، هي ما يمثل جمال التاريخ وثرائه كما يمثل ضرورته ذاتها. هذا ما ينبغي ويجب ان تقرأه الفلسفة في التاريخ. أي عليها ان تقرأ الأحداث بعد وقوعها وحسب، اما المستقبل فمن العبث التكهن به لانه لا يكشف عن نفسه إلا جزئياً، وإلا بغتة، أي كحاضر، وإلا كتراجيديا، ذلك لأنه يأبى قبول ان يقرأ مكره أحد، ويأبى ان يسقط في الابتذال، ويأبى الا ان يثبت بسخرية بلادة اولئك الذين توقعوا مساراته او تنبأوا بنهايته.
ان الحضارات الكبرى التي سقطت في مجرى التاريخ المعروف لم تعد تحصى. ومع ذلك لا نجد مفكراً واحداً تنبأ بانهيار الامبراطورية او توقف ازدهار الحضارة التي عاش فيها. ويكفي لنا الان ان نتأمل انهيار الامبراطورية السوفييتية في نهاية القرن العشرين. فحتى مطلع الثمانينات منه لم يكن هناك روسي او امريكي واحد يستطيع ان يتصور امكانية انهيار النظام السوفييتي حتى بعد نصف قرن على الاقل. بل كان الجميع، وفوكوياما نفسه ايضاً، يراه اشبه بالصخرة الأبدية. بل ان استراتيجي النظرة في العداء للنظام الشيوعي والشيوعية الدولية مثل كيسنجر ذهب الى حد القول قبل سنوات فقط: “ان الواقع الشيوعي لا نهاية له”! إلا ان النظام المذكور، والدولة ذاتها، لم يلبثا ان انهارا بفعل “لا عقلانيتهما” اذا استخدمنا مصطلحاً هيغيلياً.
التاريخ الكوني اذن لا ينتهي وربما ابداً بالنسبة للديالكتيك. إلا ان لكل تاريخ نهايته الضرورية الحتمية. وحده من “يتعلم ضرورة أن يموت عندما يجب ان يموت” يمتلك حق الولادة من جديد اجمل وأرقى. لأن “اعظم انحطاط للروح هو السقوط في الآلية الرتيبة”، كما يقول هيغل. والمانيا هي نفسها كانت قد سقطت في هذه “الالية الرتيبة” في عهده، لذلك لم يتردد من التصفيق للتدمير الذي حل بها على يد نابليون. هذا الفرنسي الغازي نفسه الذي أمر مدافعه أن تقصف مدينة الفيلسوف (ينا) مرغماً اياه على الهرب لا يحمل معه من ممتلكات شخصية سوى مخطوطة “الفينومينولوجيا”. فلقد رأى هيغل في ذلك الخراب، وفي تدمير المانيا العتيقة على يد جيش فرنسا الغازية، لحظة ولادة لألمانيا جديدة وموحدة تقود اوربا نحو التجدد والوحدة.
ليس لدى هيغل ذاته وجد فوكوياما دعائم فلسفية لموضوعته عن “نهاية التاريخ”، انما، وهو يعترف بذلك جزئياً، لدى هيغل آخر، “هيغل مضحك”، هو ذلك الذي قدمه الكسندر كوجيف(··) في كتابه “مدخل الى قراءة هيغل”. ففي هذه النصوص الغنية بالشروح والتفسيرات للفكر الهيغلي، لكن الزاخرة بالاشكالات والتناقضات العميقة معه ايضاً، ينسب كوجيف الى هيغل القول بأن حركة التاريخ لابد ان تبلغ، في مرحلة قادمة، هدفها الخاص. وهذه المرحلة هي ليست لحظة الوصول الى الغائية النهائية فحسب، انما هي ايضاً لحظة “نهاية التاريخ” حيث عندئذٍ لا تاريخ ولا موضوع للتاريخ ولا ضرورة لهما.
وكوجيف يذهب ابعد من ذلك في الواقع ليطرح قضية “موت الانسان” ونهايته في الطبيعة. اذ سعى، مبتعداً عن هيغل كل الابتعاد، الى تطوير ما يمكن تسميته بفلسفته الخاصة حول “الموت” كمفهوم ميتافيزيقي قائم بذاته. واذا ظل كوجيف ينسب افكاره الى الفلسفة الهيغلية فانها في الواقع لا علاقة لها بهيغل انما تعود في الكثير من أصولها الى الفلسفة الدينية السابقة لاسيما الافلوطينية.
على اية حال، ودون الذهاب بعيداً في خصوصية فكر كوجيف، من المؤكد ان هذا الاخير وليس هيغل، من قال بان الفلسفة الهيغلية ترى ان “نهاية التاريخ” آزفة حتماً وانها ستمثل حلاً لكل التناقضات. وهذا الرأي الخاص بتشويه هيغل على يد كوجيف معروف بشكل واسع في الاوساط الفلسفية ومنذ زمن. حيث تعرض هذا الفكر الروسي المهاجر الى انتقادات ساخرة من قبل مفكرين كبار من بينهم جورج بتاي مثلاً. ويبدو واضحاً ان فوكومايا لم يقاوم هاجس توظيف هذا الخلط كما لو انه مأخوذ بشوقه المتعجل لاقحام هيغل في اساس منظوره هو حول “نهاية التاريخ”، الى درجة دفعت بعض كبار النقاد، كالامريكي ألن راين، الى القول بان فوكومايا لم يقرأ نصوص هيغل ذاتها انما اقتصر على قراءة ما نسبه كوجيف اليها.
بيد ان هذه القضية تظل ثانوية، على اهميتها الخاصة. وعموماً فاننا نعتقد ان فوكومايا قرأ هيغل مراراً، وقرأه جيداً ربما، إلا انه تعامل مع النصوص الهيغلية بشكل انتقائي دائماً. والا لكان ادراك ببساطة ان هيغل كان يحب بهوس التأكيد على ما هو متحرك وعميق في التاريخ وليس ما هو ظاهر وما هو طقوس منمطة ودوغمائية محنطة ومعادلات مبسطة. والحال، ان ماهو متحرك وعميق في التاريخ ليس سوى التناقض وتعاقب الموت والحياة. “ان هذا لن يدوم” و”ان ذاك لابد ان ينهار” كان يردد هيغل باستمرار، ليضيف على الفور “حالما يسقط شيء فان شيئاً آخر يكون قد اخذ مكانه”.
وفي كتابه “العقل في التاريخ” يذهب هيغل الى حد القول ان فكرة “من الموت تولد حياة جديدة” هي “اعظم فكرة ابدعها الشرقيون في تواريخهم الفلسفية، وهي الفكرة الاسمى في كافة ميتافيزيقياتهم”. والحال في هذا الصدد ان هيغل يوحي هنا، ضمنا، بمعرفته واعجابه الكبير بالمفهوم القرآني “يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي” الذي ينطوي على بذرة ديالكتيك عميق لم يفلح الفسفة العرب والمسلمون في ادراكها وتطويرها في نظرية فلسفية، وهو موضوع سبق لنا ان تناولناه في دراسة خاصة.
عقلنة وهم
ان الفلسفة الهيغلية معقدة جداً بلاشك وتسمح بتباين التفسيرات حول بعض افكارها حتى الاساسية منها. إلا ان هذا لا يعني انها غامضة متناقضة في جوهرها العام، وجوهرها العام ليس إلا الديالكتيك. لكن ما يدهشنا لدى فوكومايا، ويثير الانقباض، هو هذا الوضوح الثابت والوثوق المسبق والبهجة الاحتفالية فيه.
قد يمكن بمعنى ما – كما ذهب البعض – ان نتلمّس في افكار فوكوياما تبشيراً بحتمية انتصار الديمقراطية عالمياً مادام هذا الهدف هو ما تسعى له العملية التاريخية كما يرى. لكن هذا القول يقتضي الكثير من التواطؤ وبعض السذاجة، لان هذا الشرقي الاصل – والذي يذكرنا للوهلة الاولى بكل الكبرياء الياباني – لا يريد من هذا الشرق بأقل من الاقتناع بتبعيته، فلسفياً هذه المرة، حيال الغرب مادام النموذج الليبرالي الديمقراطي البروتستاني الامريكي – والاوصاف يوردها فوكوياما نفسه – هو حلم الانسانية المطلق ونهاية مطاف الوعي في نظره.
المشكلة الاخرى هي اننا حيال فيلسوف – اذا جاز ان نسمي الانشاء الذي يقدمه “فلسفة”- كلما افرط في ذكر الاستشهادات والنصوص كلما اثبت انه محض موظف لامع اكثر مما هو مفكر فلسفي، وكلما حرص على اظهار الصرامة العلمية كلما اتضح بأن لديه مشكلة في التعامل معها، وكلما الح على التظاهر بأنه “هو الذي رأى كل شيء” كلما ثبت بأنه لم ير أي شيء.
فكرة واحدة تقف كالشبح القصديري وراء كل ما يقول فوكوياما، خلاصتها ان امريكا هي الحل الحي الوحيد لديه. فهذه الفكرة تمارس استبداداً لا يقهر عليه الى الحد الذي تبدو مصداقيتها المطلقة واقعية وملموسة ونهائية في نظره. من هنا يأتي هذا الاصرار المسبق والثابت على تحويل “نهاية التاريخ” الى بضاعة جاهزة، والى تحويل هذه الميتافيزيقيا- وماذا أكثر ميتافيزيقية من نهاية التاريخ؟- الى ما يشبه الوجبة السريعة، بينما هي، بالنسبة لنا، الفكرة الاكثر زوغاناً والاكثر غموضاً على العقل لأنها الاكثر لا واقعية.
انها صورة كاريكاتيرية في الواقع هي التي يرسمها لنا فوكوياما عن نهاية التاريخ، لأنها تعبر بلسان الفلسفة عن رغبة “ارادة” محددة في ان تحل محل الارادة الكونية. وهكذا وباسم الضرورة التاريخية و”التقدم في وعي الحرية” وباسم العدالة والمساواة وكونية الحلم الانساني بالحرية، يذهب هذا المفكر الى حد لا يمكن تخيله من المصادرات الاخلاقية والابتزازات الحضارية. وكل شيء مبرر عندئذ باسم الفلسفة الهيغلية: ابادة الهنود الحمر، نهب افريقيا واستراليا وتدمير آسيا واحراق فيتنام وقصف وتجويع الشعب العراقي وحتى القاء القنابل الذرية على هيروشيما ودرسدن.. وكل هذا يذكره “فيلسوفنا” تحت ما يسميه “استراتيجية التدمير اللازمة لحماية الانظمة الديمقراطية”، وغيرها من الافكار الغريبة التي دفعت بعض النقاد الى الذهاب الى حد القول ان “فوكوياما هو هيغل ناقص الديالكتيك زائد توجيهات وزارة الخارجية الامريكية”!
وهكذا، فاذا كانت هيغلية هيغل ثورية ومحافظة في جانب او آخر فان هيغلية فوكوياما محافظة وحسب. انها اشبه بالاستمناء الفكري، استمناء القوة الامريكية التي لا تريد ان تتخيّل لحظة نهايتها ماثلة امام بابها، ولانها لا تريد فانها تنكر وجود تلك اللحظة عبر اعلان “نهاية التاريخ”، دون ان تنسى ان تضيف “الفلسفي”، لأن ما يهمها هو ليس انهاء التاريخ الفعلي، فهذا مستمر واقعاً، انما قتل فكرة التغيير في التاريخ ذاتها. لكن، واذا كانت قد حققت شهرة لا تضاهى وساهمت في عقلنة أحلام الارادة الامريكية في الحلول محل “المطلق”، فان “فلسفة” فوكوياما هي الفلسفة الأسوأ حظاً في التاريخ ما دامت تقول بنهايته. انها كطفل الانبوبة الذي ولد نصف ميت بينما اهله فرحون بشكل استثنائي بقدومه.
لكن الاهم من كل هذا هو ان فوكوياما، وهذا ما فاته ادراكه، لا يبشرنا بشي آخر سوى حتمية انهيار النظام الليبرالي الرأسمالي ذاته، احد طرفي التضاد مع النظام السوفييتي، في الصراع السابق. وهذه الفكرة لا يفترضها مجرد الاستنتاج الذهني القائم على الرغبة الذاتية او الاستنطاق القسري للمفاهيم، إنما يفرضها الواقع نفسه كما نفترض، حيث نرى أن “التقدم في الاستغلال” هو المحرك الأساس في النظام الرأسمالي وليس قطعاً “التقدم في الحرية”.
بالطبع ان الحرية حققت انتصارات عظيمة خلال القرنين الأخيرين وفي الغرب بالذات. إلا ان هذه الانتصارات لم تقترن بتكافؤ الامكانيات المتاحة للتعبير عنها وبالتالي فهي محصورة بالنخب التي ينجبها الرأسمال بينما لا يستطيع عموم المجتمع إلا انتظار رحمته أو قسوته أو الانطواء على النفس او مع شاشة التلفزة الامر الذي دفع مفكرين غربيين كبار الى إعلان “اندثار الديمقراطية” كما ذهب جان فرانسوا ريفل او “إنغلاق العقل الامريكي” كما فعل الن بلوم استاذ فوكوياما ذاته في الجامعة. وهذا في العالم الغربي نفسه، أما خارجه فإن المفارقة اعظم وادهى نظراً لأن مظاهر القمع والاستغلال والجوع والحروب لم تفتأ تزداد حدة وبالتحديد نتيجة هذه العالمية التي يراد أن تكون صنو الحرية الرأسمالية. وثمة اعتباطية صارخة اخرى في استنتاج فوكوياما أعلاه تتعلق بفهمه للديالكتيك هذه المرة، لأن الديالكتيك في ابسط اشكاله المدرسية هو انهيار طرفي التضاد معاً، ومن تلاقح جثتيهما فقط يخرج الجديد وان آجلاً.
1992 لندن
هوامش:
(·)عندما نشر فوكوياما في 1989 مقالته “نهاية التاريخ”، كان موظفاً في جهاز الامن القومي الامريكي بمنصب نائب رئيس وحدة التخطيط الخاصة بمتابعة السياسة السوفيتية في بلدان العالم الثالث. واثر الشهرة التي حققها منذئذ نقل الى وظيفة مستشار وباحث متفرغ في الفلسفة في مؤسسة “راند كوربريش” التابعة للحكومة الامريكية والمتخصصة في الدراسات الاستراتيجية الخاصة. ومؤسسة “راند” تأسست في 1948 لمساعدة سلاح الجو الامريكي في ابحاثه الاستراتيجية. وهي متخصصة الآن في اعداد التقارير والدراسات للحكومة الامريكية حيث يعمل فيها مئات الباحثين اللامعين، موزعين على مختلف المجالات العسكرية والسياسية والاقتصادية والدبلوماسية وحتى الفنية والفلسفية.
انتهى
(·) عندما نشر فوكوياما في 1989 مقالته “نهاية التاريخ”، كان موظفاً في جهاز الامن القومي الامريكي بمنصب نائب رئيس وحدة التخطيط الخاصة بمتابعة السياسة السوفيتية في بلدان العالم الثالث. واثر الشهرة التي حققها منذئذ نقل الى وظيفة مستشار وباحث متفرغ في الفلسفة في مؤسسة “راند كوربريش” التابعة للحكومة الامريكية والمتخصصة في الدراسات الاستراتيجية الخاصة. ومؤسسة “راند” تأسست في 1948 لمساعدة سلاح الجو الامريكي في ابحاثه الاستراتيجية. وهي متخصصة الآن في اعداد التقارير والدراسات للحكومة الامريكية حيث يعمل فيها مئات الباحثين اللامعين، موزعين على مختلف المجالات العسكرية والسياسية والاقتصادية والدبلوماسية وحتى الفنية والفلسفية.
(·) الكسندر كوجيف (1902-1968) مفكر فرنسي من اصل روسي. ولد في موسكو وعاش فيها حتى 1919، حيث ترك بلاده مهاجراً الى المانيا. درس في برلين وهايدلبرغ ونال شهادة الدكتوراه تحت اشراف الفيلسوف الالماني كارل باسبرز، ثم انتقل الى باريس ليصبح محاضراً في جامعتها بين 1933 و1939، القى خلالها محاضرات حول الفلسفة الهيغلية. بعد سنوات الحرب الثانية قام تلاميذه بجمع تلك المحاضرات وتنقيحها وطبعها في كتاب صدر عن غاليما، في 1947 بعنوان “مدخل الى قراءة هيغل”. هجر كوجيف الوسط الفلسفي منذ انتهاء محاضراته في 1939، الا انه يعتبر مؤسس الدراسات الهيغلية في فرنسا.