
كتابة شهادة (بحدود 1000 كلمة) تلخص رؤيتك للثقافة العراقيّة التي لمست ملامحها بعد العام 2003 من خلال تواجدك في العراق، وأين نجحت وأين أخفقت هذه الثقافة على صعيد الإنتاج والحيوية والمبادرات المستقلة والتأثير في المشهد العام.
————-
المشهد الثقافي العراقي بعد 9/4/2003 انطوى، في نظري، على تناقض صارخ، سياسي ونفسي، هو نتاج طبيعي لفترة انتقال من حالة نظام قمع فاشي مصادر لأبسط حقوق التعبير الحر والمقرون اثر الغزو العراقي للكويت في آب 1990، بنحو عقد من حصار دولي عشوائي ومدمر، الى حالة نظام احتلال عسكري اجنبي غاشم ومهين ترك للأدباء والفنانين والمفكرين العراقيين بعض هامش لحرية التعبير لم يعهده سابقاً، الا انه كان هامشاً هشاً وملغوماً بذاته ومشروطاً بأولويات الاحتلال ما صادر جدياً امكانية الخروج من المأزق السابق. لكن في الحالتين، كنا نعرف ان العراق لن يعدم القدرة على العطاء الثقافي الاصيل تحت اي ظرف. وهو لم يعدمها في ذروة الطغيان البعثي البائد.
شخصياً، كنت اميل دائما الى التمييز بين جيلين ثقافيين عراقيين مختلفين يتقاطعان في المساحة الزمنية لما بعد سقوط بغداد تحت الاحتلال الامريكي. الجيل الاول هو جيل سنوات الاحتلال وفترته العقد الاول من القرن الواحد والعشرين اي ما بين لحظة سقوط نظام صدام حسين بفعل الاحتلال الامريكي في 2003 وبين انتهاء الاحتلال في نهاية عام 2010 وانسحاب القوات الامريكية من العراق رسميا. فهذا الجيل كان خارجاً للتو من حقبة عجفاء وخطيرة زخرت بالتصفيات الجسدية والاعتقالات التعسفية والاهانات المعنوية للمبدعين، وقد ثقت لنا في التسعينات بعض فصولها الكاتبة هاديا سعيد، في مذكراتها عن “سنوات الخوف” في العراق الوطن الذي جعله صدام حسين “مزرعة” له ولحاشيته، وابتكر فيه “فنوناً” في تعذيب الادباء والفنانين العراقيين، فصاروا يأكلون ويشربون ويتنفسون الخوف والرعب. وتخبرنا، من موقعها كصحافية لبنانية، كيف تحولت الصحافة العراقية إلى “بوق” للنظام، وكيف صار شعراء وكتاب وأدباء “كبار” مجرد موظفين في دوائر أجهزة المخابرات يشون ببعضهم البعض، وكيف أُفرغت الثقافة من محتواها واستُخدمت كـ”بروباغندا” مهمتها دعم “القائد الضرورة”.
اما الجيل الثاني، فهو جيل ما بعد اتفاقية انسحاب قوات الاحتلال الامريكية، وفترته العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين اي ما بين 2011 وحتى نهاية هذا العقد او على الاقل حتى اليوم. ولئن بدا الثاني بينهما أكثر حيوية وموهبة وبالتالي اهم عطاء فذلك لانه، في نظري، اكثر ثقافة واصدق موقفا، مع حرية داخلية اصفى، بحكم انه لم يتعرض للقمع البعثي ولا الاحتلال الاجنبي، مقابل ان الاول اكثر معرفة واطلاعاً وتخضرماً ربما، الا انه مرهق الحرية الداخلية مكبوتها بفعل قوة عادة متأصلة لديه بتكبيلها، ولكثرة حسابات لم يعد لها، بعد 2003، مبررا لكن هذا لا ينفي النبل والسمو والطاقات الجمالية المكبوتة فيه هي الاخرى.
هاتان الفترتان متشابكتان متحركتان بداهة. بيد ان روحاً مختلفاً يسكن كل منهما بحكم تكوين فكري نفسي اجتماعي سياسي معقد وخاص بكل منهما منحهما اصالتين مختلفتين انعكستا طولا وعرضا على ماهية كل منهما.
السؤال اذن “أين أخفقت الثقافة العراقيّة على صعيد الإنتاج والحيوية والمبادرات المستقلة والتأثير في المشهد العام”/ هو سؤال يخص الجيل الاول خاصة او حصرا، لأن الجيل الثاني يبدو لي كان ناجحا لا سيما في مجالات الفنون البصرية والرواية وبشكل اقل في الشعر. انه جيل فرصته امامه بعد. واتوقع له ان يمنح الثقافة العراقية لحظات جميلة مقبلة قد تسمح لها بمنافسة وحتى تخطي ما لدى غيرها منه على المستوى العربي والاقليمي لا سيما في الرواية والقصة والسينما. اما في الشعر، فالقضية اصعب. هناك الآن بعض الشعراء الجدد نجحوا في امتلاك اصوات متميزة. لكن المسرح غير معبد لهم بعد. ففي الشعر العراقي ثمة ايقونات كلاسيكية وحديثو ينبغي تحطيمها عاجلا ام آجلا في نظري.
الجيل الاول، على اية حال، أقرب الى جيل تصفية حسابات حتى مع النفس احيانا. جيل ظلمته الظروف التاريخية فدفع ثمنها غاليا ما قبل 2003 وما بعدها. الاسماء الكبيرة الاولى، الكبيرة حقا، لكن الصامتة المتعففة غالباً، هي نفسها كانت بعد 2003 الاكثر حضورا مع نفس الابداعات الاولى تقريبا وبريق اقل. كما لو انها كانت بذلك الوحيدة الحية بعد “ذوبان” شلة الادباء والفنانين البعثيين الذين لم ينبس احد منهم بكلمة اسف او نقد لخطاياهم الجسيمة السابقة كما لو انهم قدوا من حجر بينما كانوا قد سلموا ارواحهم الى الشيطان لنحو ثلث قرن من قبل.
الاحتلال الامريكي زاد الطين بلة على هذا الفئة من المبدعين ووضعهم في حيرة التوفيق بين مقاومته ثقافيا وسياسيا دون الوقوع في شراك أجندة الجلادين السابقين. حيرة عمقتها هيمنة القوى الظلامية والعشوائية والرجعية على الثقافة ايضا ومعها عوامل العنف والفساد وتغليب الهويات الفرعية الطائفية والعشائرية على الهوية الوطنية، والهويات العنصرية على الهوية الانسانية مما أضعف مقاومة الثقافة العراقية التي صار عليها مواجهة تهديدات قوى سياسية وعسكرية غير رسمية ما أثر بداهة على قدرات المبدع العراقي على الانفتاح والتجديد. وقد فاقم ذلك الهجوم المعلن والمبطن ضد الفنون المختلفة كالموسيقى والرسم والمسرح والسينما بزعم انها منافية لثوابت الاخلاق والدين.
ليس مدهشا بعدئذ ان يكون بعض أفضل ناشطي الجيل الاول هذا، من بين “العائدين” من الخارج. فظاهرة هجرة الأدباء من العراق في نصف القرن الماضي كانت عربيا الأغزر والأكثر اصالة وحضوراً حتى ان الشاعر اللبناني محمد علي فرحات قدر ان أكثر من 75 في المئة من أدباء العراق كانوا خارج بلدهم في عام 2000، وان غالبيتهم كانوا أدباء محتدمين وجدانياً، لا يستطيع الواحد منهم ان يتكيف مع بلد جديد وثقافة جديدة، ولا يستطيع الغاء ماضيه أو تحويله الى صورة “اكزوتيكية” ينقلها الى لغة جديدة لتثير دهشة الغرباء. ولذلك رأينا الأدباء العراقيين المهاجرين أكثر تعلقاً بشؤون وطنهم وتفاصيل حياة أهلهم من الأدباء المقيمين، اذ يجدون في ذلك تأكيداً لانتمائهم، ويتخذون منه درعاً في مواجهة غربتهم، ونوعاً من الأمل بعودة الى الوطن لا يتقدمون فيها الى الناس كــ”غرباء” يجهلون تجارب العيش اليومي فيه. لكن هذه الشهادة اللبنانية النادرة العدل لم تمنع أحدهم من “تأليف” مجلدات نقدية عن منجز الثقافة العراقية شتم فيه كل مثقفي الخارج ووصفهم بالعمالة للامريكان بينما كان هو يعمل صحفيا صغيرا في فضائية دعائية امريكية.
والحال، في المهجر، وكان بالنسبة لنا منفى بمعنى ما، لم نعتبر أنفسنا من ادب عراقي او فن عراقي مختلف. كان هناك مبدعون عراقيون وكبار احياناً هنا او هناك، الا انه لم يكن هناك “ادب خارج” بتاتاً ولحد الآن ما عدا فذلكات تجارية النزوات حاولت محاكاة نماذج الادب المغاربي بالفرنسية مثلا، دون ان تمثل ظاهرة جدية. فالاكثرية الساحقة من الادباء والفنانين العراقيين المغتربين، وكنتم منهم، ظلت تنتمي علنا وبتباه الى المشهد الابداعي العراقي الذي اقتطعت منه كالغصن من الشجرة، وكان هذا شعورا عاما، بل اعتبرت نفسها الاكثر تعبيرا عنه بفعل العدد الهائل من المبدعين العراقيين الهاربين من بلادهم الى اوروبا الغربية خاصة وايضا بفضل الحرية التي وهبت لنا وحرم منها اخواننا في الداخل. فقد كنا في الغالب نكتب للعراق وعنه كل شيء. ويكفي للتأكد من ذلك، تقليب المجلات الكثيرة التي اصدرها الادباء العراقيون الهاربون الى الخارج بعد صعود الفاشية البعثية الى الحكم في تموز 1968.
وعلى العموم، بعد عودتي الى بغداد منتصف عام 2004، كانت دهشتي الاولى تأتي من هيمنة النزعة الاعتياشية في الصحافة الواسعة الانتشار مع غياب الصحفي الثقيل المتميز. أفضل الصحفيين، حتى مهنياً وهم قلة، كانوا اما من القادمين من الخارج او كتاب منتقلين الى العمل الصحفي حديثاً وبدون خبرة الا نادراً. انعدام الخبرة المهنية لا يزال في نظري ظاهرة واسعة جدا في اجهزة الاعلام العراقية لا سيما الحزبية التي لا تهتم اساساً بالقيم الصحفية.
دهشتي الكبيرة الاخرى تتعلق بقوة هيمنة “العامية”، عدو الثقافة هذه، على الشعر ولا اقصد الشعبي وحده الذي غدا بالياً وهزيلا للغاية، بل غير الشعبي ايضا بفعل تعميم التسطيح والرطانة وحتى الفجاجة. يوازي ذلك كله انقطاع مفجع عن التيارات العالمية المعاصرة من جهة، لا سيما في الشعر والمسرح والنقد والموسيقى والفلسفة واقل منه في النحت والرسم والسينما والرواية، وكذلك انقطاع عن الكتاب والفنانين العراقيين في الخارج حيث الجهل المطبق حتى بالكبار عربيا او عالميا كمحسن مهدي في الفلسفة وزهاء حديد في العمارة.
حسين الهنداوي
الدكتور حسين الهنداوي
(سيرة ادبية)
يحمل حسين الهنداوي الدكتوراه بدرجة شرف من فرنسا في الفلسفة الحديثة (1987)، مع ماجستير في الفلسفة من فرنسا ايضا (1984)، وبكالوريوس بدرجة جيد جدا من جامعة بغداد (1970) في الفلسفة الاسلامية. وهو يتقن اللغات العربية والفرنسية والانكليزية بطلاقة تامة.
والهنداوي كاتب وصحفي وعضو في نقابة الصحفييين البريطانية، وعضو جمعية الصحفيين الاجانب في المملكة المتحدة الى جانب عضوية اتحادات ادبية وفكرية واعلامية عربية واجنبية. وتولى الهنداوي بين 1995 و2003 رئاسة تحرير القسم العربي في وكالة انباء يونايتدبرس انترناشيونال العالمية بعد ان عمل بين 1990 و1991 مسؤولاً لمكتب فرنسا لطباعة صحيفة “الشرق الاوسط” اللندنية، وبين 1985 و1990 باحثا في القضايا الاستراتيجية لدى المركز الدولي للدراسات والنشر في باريس ومحرر خارجي في صحيفة (الحياة) اللندنية. وهو قبل ذلك مؤسس القسم العربي في جامعة بواتيه الفرنسية ومدرس الحضارة الاسلامية واللغة العربية فيه بين 1982 و 1986. ولديه كتابات واسعة الانتشار عربيا ودوليا في القانون والسياسة والفلسفة، وبعض كتبه الثمانية تعد مراجع اساسية حول “فلسفة التاريخ” لا سيما “هيغل والاسلام” (بالفرنسية)، و”التاريخ والدولة ما بين ابن خلدون وهيغل” و”هيغل والفلسفة الهيغلية” و”فلاسفة التنوير والاسلام” و”محمد مكية والعمران المعاصر”، و”الهندية طويريج بيتنا ويستان بابل” و”مجموعة شعرية بعنوان “اخاديد” وعدة مؤلفات تحت الطباعة منها: “استبداد شرقي ام استبداد في الشرق؟”، و”مقدمة في الفلسفة البابلية”، و”لبنان 1991، رحلة في كوكب ممزق”، و”التيارات الفلسفية في الادب العراقي المعاصر”… الخ. اضافة الى عشرات الدراسات الاخرى بالعربية في اكبر الصحف والدوريات العراقية والعربية. كما ظهرت له عشرات المقالات والمقابلات مترجمة الى الانكليزية ومنشورة في اشهر الصحف الغربية كـ “ناشيونال ريفيو” و”ناشيونال انترست”، و”واشنطن تايمز” و”ميدل ايست تايمز” وفلوريدا تايمز” الى جانب المقالات المنشورة في دوريات عربية مهمة منها “السفير” و”الحياة” و”الاغتراب الادبي” و”نزوى” و”المدى” و”الصباح” و”الصباح الجديد” و”العالم”، اضافة الى مجلة “اصوات” التي أسستها مع آخرين مجلة في 1976.
انتقل مع عائلته من الهندية الى بغداد في 1961. في 1962 اشتغل عاملا في مطابع المتنبي حيث نشأ، ثم عمل مراجعا لغويا في “مجلة العاملون في النفط” قبل ان يبدأ النشر في الصحف العراقية. بعد ايام من تخرجه من جامعة بغداد عام 1970. اعتقل وتعرض للتعذيب في 1971 بتهمة معارضة السلطة البعثية. وبعد اطلاق سراحه، اضطر بسبب الملاحقة الى الهرب من بغداد والالتحاق بالمعارضة العراقية في المناطق المحررة من كردستان العراق لنحو اربع سنوات. وفي نهاية 1974 تسلل الى سوريا ثم الى لبنان مطلع 1975، ومنه لاجئا سياسيا الى فرنسا حيث درس اللغة الفرنسية واشتغل عاملا في الزراعة والبناء ثم مترجما ثم مدرسا في جامعة بواتيه الفرنسية بعد اكمال الماجستير والدكتوراه فيها كما اسس القسم العربي لكلية الآداب في الجامعة نفسها والموجود لحد الآن وعمل فيه لسنوات قبل ان ينتقل عام 1990 الى العمل مسؤولا لمكتب صحيفة “الشرق الاوسط” في جنوب فرنسا اولا ثم مستشارا دوليا لحقوق الانسان لدى منظمة العفو الدولية وبعدها مستشارا لدى الامم المتحدة منذ 1993 في هايتي وجمهورية الدومينيكان قبل ان ينتقل الى منصب رئيس تحرير القسم العربي في وكالة انباء يو بي آي العالمية لثمان سنوات انتهت بعودته الى العراق بعد سقوط النظام السابق واختياره من قبل الامم المتحدة للاشرف على انشاء مفوضية الانتخابات في العراق ورئاستها لسنوات، واخيرا عودته مستشارا دوليا اقدما لدى الامم المتحدة من جديد.