
د. حسين الهنداوي
كان الشعر هو المجال المفتوح امام من يسعى الى خوض عالم الابداع في المشرق في تلك الفترة من مطلع الالفية الأولى الميلادية المتزامنة مع النصف الثاني من القرن الرابع الهجري. اما في النثر، فالحقل شاسع لكنه مليء بالمؤلفات الواسعة والغزيرة. فإلى جانب المؤلفات المختصة بالدين، كان غيرها مختصا بالتاريخ العالمي أو المحلي والسير والجغرافيا ومشكلات علم الكلام والنحو والخطابة وغيرها بما فيه الموسوعات التي غطت كافة مجالات الثقافة، ما جعل عسيرا تجاوز اساليبها في التعبير وابتكار سواها للتواصل مع العالم بدون قيود التقاليد الرتيبة. ومن هنا يكون ابتكار المقامات في تلك الفترة، كنوع ادبي جديد يمثل اضافة اصيلة الى الابداع الأدبي العربي.
بهذا الاستنتاج يفتتح المستشرق الفرنسي الكبير أندريه ميكيل André Miquel مقدمته للطبعة الفرنسية الجديدة لكتاب (المقامات) لبديع الزمان الهمذاني التي قام بمراجعتها والصادرة مؤخرا عن (منشورات اورينت Orient editions) بدعم من المكتبة الوطنية الفرنسية، والمزينة برسوم خاصة لرائد الرسم العربي الفنان العراقي الشهير يحيى الواسطي الذي ولد في مدينة واسط وعاش ببغداد في القرن الثالث عشر.

وتتميز مقامات الهمذاني بنجاحها بتقديم صورة شاملة وصادقة عن مجتمعات المشرق العربي الاسلامي في القرون الوسطى بكل سماتها وتناقضاتها. وهي عبارة عن حوارات يديرها مشرد عبثي، ساخر وماجن أحيانا، ولكنه حكيم في نفس الوقت، يأخذ فيها دور الراوي الذي يختفي خلفه او يستخدمه مؤلف هذه القصص الرائعة اللاذعة وهو الكاتب العربي الموهوب بديع الزمان الهمذاني الذي نال شهرة واسعة لاسلوبه الفريد في نقل الحكمة والمعرفة عبر قصص سهلة الفهم متخيلة ونقدية ضمنا وعبر طريقة أدبية جديدة مبتكرة تحول السرد النثري الى أداة لايصال الأفكار الأدبية والأخلاقية والاجتماعية والدينية وحتى الرسائل الفلسفية بأسلوب فني جذاب يتميز بجزالة اللفظ والأناقة اللغوية وجمال الأسلوب ويأخذ صيغة قصصية خفيفة وموسيقية الجناس والطباق تقدم للجمهور باطار ممسرح يعكس التطور الثقافي والسياسي والاجتماعي لتلك الفترة فيما توحي أسماء المقامات بأحوال البلاد المعنية كالمقامة الكوفية، والمقامة الدمشقية، والمقامة البغدادية والمقامة الصنعانية.
واستخدم الهمذاني في مقاماته بطلين متخيلين وهما عيسى بن هشام وأبو الفتح الإسكندري، حيثُ جعل من عيسى بن هشام راوياً للمقامات وجعل من الإسكندري بطلاً مغامراً لها، وبالرغم من كونه البطل إلا أنّ المؤلف لم يحرص على إظهار الاسكندري في كلّ المقامات التي يتميز أسلوبها بالطابع البسيط والطريف والمتحرر من القيود وحتى الترفيهي مع الحرص على تضمينها بعض التوجهات النقدية المعتدلة والقيم والمواقف الفكرية او الأخلاقية المحورية المستهدفة، مع توظيف مكثف للشعر والفكاهة والامثلة والمعلومات المنتقاة والمستفيدة من التراثين العربي والفارسي.
وبديع الزمان الهمذاني، أبو الفضل أحمد بن الحسين بن يحيى التغلبي، (969 /1007 م)، شاعر وأديب ولغوي من أسرة عربية ذات مكانة علمية مرموقة استوطنت مدينة همذان في ايران وفيها ولد فنسب إليها وتلقى دراسته الاولى فيها، وقد تمكن من امتلاك الثقافتين العربية والفارسية وتضلعه في آدابهما وله في المقامات اكثر من أربعمائة مقامة (لم يبق منها سوى اثنتان وخمسون). وتنقل بديع الزمان بين مدن أصفهان وجرجان ونيسابور وسجستان وغزنة وأخيرا مدينة هرات حيث توفي ولم يكن قد بلغ الأربعين من عمره.
ويعتبر كتاب المقامات أشهر مؤلفات بديع الزمان الهمذاني الذي له الفضل في وضع أسس هذا الفن وفتح بابه واسعاً تبعه فيه أدباء كثيرون أشهرهم أبو محمد القاسم الحريري الذي ضم كتابه “مقامات الحريري” كثيرا من الرسوم التي رسمها له الواسطي مؤسّس تلك المدرسة الفنية التي اختصّت بزخرفة الكتب وتصوير المخطوطات، اذ تميز أسلوبه الجميل بالرسم والزخرفة مُؤسسا بذلك لمرحلةٍ جديدةٍ في الفن الإسلامي بفضل صوره ورسوماته التي تجعل مشاهد الحياة اليومية نابضة بالحيوية والجمال فضلا عن نقل حقائق الحياة اليومية التي عاصرها كما ابتدع الواسطي ما يُعرف بنسق الصور المتزامنة، وذلك من خلال الجمع بين عدة مشاهد في صورةٍ واحدةٍ، من خلال تقسيم هذا المشهد إلى عدة أقسام.
والمقامات الهمذانية مجموعة حكايات قصيرة متفاوتة الحجم جمعت بين النثر والشعر بطلها رجل وهمي يدعى أبو الفتح الإسكندري وعرف بخداعه ومغامراته وفصاحته وقدرته على قرض الشعر وحسن تخلصه من المآزق إلى جانب أنه شخصية فكاهية نشطة تنتزع البسمة من الشفاه والضحكة من الأعماق. ويروي مغامرات هذه الشخصية التي تثير العجب وتبعت الإعجاب رجل وهمي يدعى عيسى بن هشام.
و تنطوي المقامات على ضروب من الثقافة إذ تقدم لنا أخباراً عن الشعراء مرة او معلومات ذات صلة بتاريخ الأدب والنقد الأدبي او حجاجاً في المذاهب الدينية والكلامية او قصص مجلس أدب وأنس ومتعة او حوارات فكاهية ما دفع البعض الى اعتبار مقامات الهمذاني بمثابة نواة المسرحية العربية الفكاهية، على اساس انه خلد فيها أوصافاً للطباع الإنسانية جعلتها تحفة أدبية رائعة بأسلوبها ومضمونها وملحها الطريفة التي تبعث على الابتسام والمرح، وتدعو إلى الصدق والشهامة ومكارم الأخلاق التي أراد مؤلفها إظهار قيمتها بوصف ما يناقضها.
وهو ما حرص على تأكيده في مقدمته للكتاب المستشرق الفرنسي أندريه ميكيل الذي أغنى المكتبة الفرنسية بعشرات الدراسات الرصينة والكتابات الأصيلة عن الثقافة العربية الاسلامية فصلا عن الترجمات الأدبية والفكرية، حيث قدم خلال أربعين عاماً من النشر نحو أربعين مؤلَفا حول الإسلام وثقافتِه، كما ألـَّف كتباً مهمة، منها قصصُ الحبِ في الأدبِ العربي، والحبُ عند العرب وترجم ألف ليلة وليلة وكليلة ودمنة وغيرها من روائعِ الأدبِ العربي حتى عد أكبر المختصين والمهتمين عالمياً بالأدب العربي، و”آخر العمالقة المستعربين الكبار الذي أثرى بترجماته المكتبة العربية والفرنسية، وأصبحنا نحن طلابه في مراكز متقدمة في دولنا”. كما قال عنه الأديب الجزائري، الطيب العروسي.
وكان أندريه ميكيل المولود في سنة 1929، قد درس العربية على يد المستشرق الفرنسي الشهير بلاشير، وعمل في الخمسينات عقب تخرجه في دمشق وبيروت وإثيوبيا، عين سنة 1961 مستشاراً ثقافياً لفرنسا في مصر، واطلع على روايات نجيب محفوظ وغيره من الأدباء المصريين والعرب المعاصرين، ثم عمل بالتدريس في الجامعات في فرنسا منذ سنة 1968، وشغل منصب مدير معهد لغات الشرق والهند وشمال إفريقيا بجامعة السوربون الجديدة، ثم انتخب أستاذاً لكرسي الأدب العربي في الكوليج دي فرانس سنة 1975، وقدم للمكتبة العالمية أكثر من مائة وخمس وثمانين دراسة في التأليف والترجمة، وترجم عن العربية «ألف ليلة وليلة» و «كليلة ودمنة»، وكتاب المقدسي «أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم» ومختارات من الشعر العربي. لكن أهم أعماله هو كتابُه الموسوعي الشهير عن «جغرافية دار الإسلام البشرية»، وكتابه «الإسلام وحضارته».
انتهى