
مرتضى سام،
صحيفة المدى في 5/5/2012
فريدريك هيغل! ما أن يتبادر هذا الاسم الى مسمعنا، حتى يذهب بنا التفكير الى ذلك العملاق الذي اعتبر من اكبر اساطين الفلسفة في القرن التاسع عشر؛ والذي ظل منهجه مخيماً على التفكير الفلسفي والاجتماعي طيلة القرنين الماضيين بل ظل منبعاً ثراً لأغلب المذاهب السياسية والاجتماعية اضافة للفلسفة في الحقبة السابقة لزمننا هذا. وللأسف ظلت الأدبيات العربية فقيرة جداً لما يتصل بهذا الفيلسوف؛ ذلك ان ضخامة تراثه الفلسفي وانطوائه على الكثير مما يصعب فهمه سببا التردد في الأقتراب منه، خاصة وان كتبه لم تترجم الى العربية مباشرة باستثناء كتابه “فلسفة التاريخ” الذي ترجم في سبعينات القرن الماضي (او على الأقل، هذا ما وصلنا فقط في بغداد حتى فترة قريبة). ولعل انحسار الموجة الماركسية وكذلك الوجودية كان سبباً في فقدان الاهتمام به من قبل المثقفين العاديين، وظلت دائرة الاهتمام به محصورة بالفئات التي تتعاطى المنهج الماركسي والفئات الأخرى المتأثرة بالفلسفة الوجودية؛ وهكذا بقي التعرف على هيغل حصراً بهذه الأوساط الاكاديمية ولأغراض البحث والتدريس ليس إلاّ.
إن كون الديالكتيك الهيغلي هو أحد المصادر الأساسية للماركسية بعد أن جرى قلبها رأساً على عقب حسب تعبير الفيلسوف الالماني “انغلز” جعل اسم هيغل مطروحاً بكثافة في الفكر السياسي لليسار في العالم كله ومنه عالمنا العربي.
لذا فإن صدور كتاب المفكر الفرنسي جاك دونت المعنون “هيغل.. والفلسفة الهيغلية” عن دار الكنوز الادبية في بيروت وبترجمة الدكتور حسين الهنداوي؛ هو جهد مميز لإعادة هذا الفيلسوف الكبير الى الواجهة او المكانة التي يستحقها في تفكيرنا واهتمامنا، ومحاولة جريئة لإعادة فهمه بعد ان تحرر الفكر من كثير من القيود السياسية والنظرة الشمولية الى الفلسفة.
وفي مقدمة المترجم الهنداوي التفاتة خاصة لهذا الجانب فهو يقول: “بعكس ما أصاب معظم نظرائه من اهمال يتواصل الاهتمام بهيغل في عصرنا هذا متسعاً في العالم كله وفي مشهد لا يخلو من الطرافة أحياناً. فهو مفكر، وهنا مفارقة أولى، لا يترهل حتى عنّدما تتهافت أجزاء جوهرية من فلسفته، كما حصل مع تلك الأجزاء الخاصة بفلسفة الطبيعة مثلاً، ولا يتقادم رغم مرور اكثر من قرن ونصف على موته” في عام 1831.
وحسب مقدمة المترجم فقد ولد المؤلف جاك دونت في مدينة تور الفرنسية عام 1920 وتخصص في الفلسفة الهيغلية تحت إشراف جان هيبوليت ثم اصبح استاذاً لها في جامعة بواتيه الفرنسية، وهي الجامعة التي تخرج منها الفيلسوف الكبير ديكارت صاحب مبدأ الشك ومقولة (أنا افكر اذن أنا موجود). أسس دونت عام 1970 مركزاً عالمياً للدراسات الهيغلية والماركسية وترأس بعد ذلك الجمعية الفلسفية في فرنسا واتحاد الجمعيات الفرنسية الفلسفية في العالم. وتواصل دونت في التأليف الفلسفي بعد تقاعده وقد توج ذلك بكتابه (سيرة هيغل) وقبله عدة كتب تدور كلها حوله منها (هيغل فيلسوف الجدل والصراع) و(ايديلوجيا القطيعة) بالإضافة الى هذا الكتاب (هيغل والهيغلية) الصغير حجماً ولكن الكبير والثمين باعتراف عالمي وقد صدر بالفرنسية بأربع طبعات وبأعداد كبيرة وترجم الى معظم اللغات الحية. ويعود تأريخ الترجمة العربية للدكتور الهنداوي الى عام 2004.
ينقسم الكتاب الى فصلين رئيسيين؛ ويضم كل فصل مجموعة من المحاور الفرعية، يتكون الفصل الأول والذي عنوانه (العمل الفلسفي وقدره) من ستة محاور هي على التوالي:
1- هيغل
2- هذا المسمى هيغل
3- هيغل الغامض
4- هيغل المتكتم
5- مغامرات الهيغلية
6- هيغل وماركس
يبدأ المحور الاول (هيغل الكبير) بمقولة ذكية ودقيقة للمفكر الفرنسي موريس ميرلوتونتي هي ان “هيغل في أصل كل كبير في الفلسفة منذ قرن”، ويقول المؤلف بأن هذه العبارة تعني انه في المستطاع وبسهولة قلبها لتعني إن كل ما يصبو للسمو في الفلسفة وكذلك في غيرها أحياناً يعلن انتسابه الى هيغل!.
ويستعرض المؤلف في هذا المحور جوانب من فلسفة هيغل منذ بدايتها ونظرياتها الكثيرة رغم الحياة القصيرة للفيلسوف 1770-1831. ومما يقوله المؤلف في هذا المحور (لقد صاغ هيغل فلسفته على دفقات متتالية في مجرى حياة قصيرة نسبياً وظروف عسيرة غالباً؛ فعلى العكس من فكرة سادت عنه طويلاً زعمت ان حياته كانت حياة موظف مترف بلا مشاكل ولا منغصات، يكشف البحث الدقيق لنا انها لم تعدم المآسي العميقة والنزاعات مع السلطات، فالحالة المزرية التي كانت تعيشها المانيا انذاك والتي عرفت بـ”البؤس الالماني” لم تسمح لهيغل أن يحقق طموحات شبابه ولاسيما الجريئة منها، إلا انه عرف دائماً كيف يحافظ على كبرياء كبير وعلى طيبة عميقة.. وأخيراً فأن حياة كهذه وبحكم الظروف التي احاطتها ليست مثيرة بذاتها فقط، انما جديرة أيضاً بأن تسرد روائياً بل وان تخرج سينمائياً.
إن ظهور فلسفة جديدة هو بذاته إعلان عن انقضاء ساعة الفلسفات الأخرى. وهيغل يلح بقوة على ما يترتب عن ذلك، فقد تجرأ مع مؤلفين كانوا أحياء بعد ويحظون بأعتبار كبير على التحدث بنفس قسوة القديس بطرس في حديثه لأرملة أنانياس عندما قال لها: “أمام الباب.. وقع أقدام من دفنوا زوجك، وسيأخذونك ايضاً”.
وكان هيغل يستهدف بذلك مفكرين مثل كروغ وراينهولد وجاكوبي ومحنته وحتى صديقه شيلنغ. ولئن لم يسقط هؤلاء جثثاً هامدة فانهم اضمروا له الضغينة؛ أما عمانوئيل كانت فقط افلت من الشتيمة بفضل رحيله عن الحياة قبل ثلاث سنوات من ذلك.
وفي المحور الثالث (هيغل الغامض) يتحدث المؤلف عن الأخطاء العلمية في ابحاث هيغل في العلوم بعد التطورات العلمية التي نشأت بعد رحيله ويقول في هذا المجال:”اما سبب عدم الفهم والاضطراب المتمثل في أخطاء هيغل العلمية فهناك ما يشفع له، لأنه يبرز على الأقل الاهمية الاستثنائية والاحترام الكبير الذي أظهرهما هيغل للعلم، فهو على الأقل لم يهمل العلوم؛ كما لم يسع الى اقصائها من اعتباراته الفلسفية مثلما فعل فلاسفة كثيرون سبقوه او عاصروه، فالفلسفة الهيغلية وحتى عندما يحصل لها ان تتيه في التفاصيل لا تفصل ابداً العالم عن الفلسفة ولا تعارض احدهما الاخر.
أما عن غموض هيغل وهي مشكلة قد يواجهها أي قارئ له فيقول: هناك سبب آخر للغموض؛ هو ان هيغل انشأ فلسفة دائمة الحيوية بشكل استثنائي ولكنه بلورها مع ذلك عبر مواجهات ثابتة ودقيقة وليس مع علوم عصره فقط وانما مع فلسفات عصره مثل فلسفة كانت وشلينغ وجاكوبي وليس معهم فقط وانما ايضاً مع مفكرين كانوا قد فقدوا سلفاً كل نفوذ لهم مثل برادلي وراينهولد وكروغ وسولفر وهالر وفرايس.. هذه السجالات تطلبت مناظرات شائكة جداً لاسيما وان هؤلاء “الفلاسفة” انفسهم لم يتميزوا بأطروحات واضحة، وهكذا يظل الكثير من فقرات هيغل مبهمة وعلى أشد درجات الانغلاق اذا لم يتم الرجوع الى مذاهب هؤلاء المنسيين او هؤلاء المنبوذين الذين كتب بشأنهم تفنيداً او تقييماً او مديحاً، وهو ما يعقد مهمة قارئ هيغل في مطلع القرن الحادي والعشرين.
أما المحور الرابع (هيغل المتكتم) فهو يبدو كأستمرار للمحور الذي سبقته اذ يقول المؤلف: حتى في ما يمس فلسفته الجوهرية التأملية؛ لا مفر لنا من استغراب الطريقة غير الملائمة وغير الوافية التي عرضها عبرها هيغل والى الآن يصدمنا التضارب بين الوضوح والمنهجية المحيطة، والاختصار لعروض الشراح ومعظمهم من كبار الاكفاء بلا شك، وبين اضطراب ورقابة وتشتت، وتقلب النصوص التي يفسرونها، فهل كان هيغل عاجزاً عن الأتيان باطروحات واضحة، تمنح القارئ فهماً تقريبياً وبدئياً يسمح له بتكوين تقييم أولي واجمالي عنها.
ويستمر المؤلف في الحديث حول الموضوع فيقول: لقد ساد الظن منذ وقت طويل بأن هيغل يخفي بعض الأشياء.. مهمة كانت أو غير مهمة؛ محض فلسفية او غير ذلك ولا يدعها تظهر إلا في مناسبات مختارة لها بعناية وبصياغات مبهمة موجهة لشهود استثنائيين ووجوه مثل هوفمايستر وهو أحد ناشري اعمال هيغل الذي لم يبالغ كثيراً عندما أكد ان هيغل التزم الصمت الأعند بشأن الأشياء التي تخصه مباشرة.
ويقول في مكان اخر من نفس المحور: تنبع اسرار هيغل الصغيرة التي لا تزال ننتظر تقدير اهميتها النسبية من مشاغل متنوعة جداً: مذهب ونشاطات عامة واراء وحياة خاصة يتطلب توضيح عواقبها التزام حذر كبير على صعيد تفسير الفكر الهيغلي. فمثلاً عرفنا منذ وقت متأخر جداً ان هيغل انجب في شبابه ابناً غير شرعي، ولكنه تعامل معه بطريقة لا يؤاخذ عليها؛ فليس من المدهش ان يلتزم الفيلسوف الصمت المطبق بشأن هذا الموضوع اذا اخذنا بنظر الاعتبار طبيعة الرأي العام السائد في تلك الفترة ومشاريعه الجامعية الخاصة وحالته العائلية وقد نفهم ان يقوم أول ناشر لمراسلات هيغل وهو إبنه كارل باستبعاد كافة الرسائل التي وجد فيها اشارة الى ذلك الابن غير الشرعي، او الازعاجات التي نالها الفيلسوف بسببه.
وفي المحور الخامس من هذا الفصل يصرح المؤلف بأن كان هناك نوع من “مدرسة هيغلية” مفخخة منذ البدء بالانشقاقات؛ ولها لسان حال وهي مجلة “حوليات النقد الفلسفي” التي أسسها تلميذ هيغل المفضل وصديقه ادوارد غانز (1798-1839) الذي كان قانونياً وليبرالياً واشتراكياً ومادياً الى حد ما، وشديد التعلق بهيغل حتى انه اضطهد بسببه، وكان شخصية متميزة، ومن سوء حظ هيغل ان هذا التلميذ النجيب لم يعش إلا بضع سنوات بعد موت استاذه.
هذه المدرسة الهيغلية انبثقت سريعاً بين ما يعرف بــ”اليمين واليسار” إلا ان الخط الفاصل بينهما لم يكن واضحاً تماماً؛ وهذا بحد ذاته نجاح كبير للهيغلية لأن هيغل نفسه قد قال:لا يثبت حزب بأنه ستنتصر الاّ عندما ينشق بدوره الى حزبين. وعلى هذا النحو فالانشقاقات التي تولد في حزب ما تبدو كأنها علامة بؤسه هي في الحقيقة دليل مجده.
وفي المحور السادس والمهم جداً يتناول المؤلف موضوع هيغل وماركس. وكما يقول المؤلف فأن هيغل مدين لماركس بجزء كبير من مجده اللاحق لأن ماركس لم يفكر قط بدينه؛ فاذا كان هيغل قد قدم الكثير لماركس، فأن هذا يرده الأن اضعافاً مضاعفة حتى اولئك الذين يسعون الى استخدام هيغل ضد ماركس او الذين يلوذون بهيغل لتجنبه، ما كان لهم ان يعرفوا تلك الخيارات لو لم يكن هناك ماركس.
ويستطرد المؤلف في مكان آخر: كان ماركس يؤكد علينا دائماً انه تلميذ ذلك المؤلف “الكبير” وهي صيغة لم يكف عن اطلاقها على هيغل بينما لم يطلقها على أي من الفلاسفة السابقين عليه.
ويستطرد المؤلف قائلاً: لقد طور ماركس وانغلز فلسفة مختلفة جداً عن فلسفة هيغل لكنهما لم يعتقدا انهما اقاماها انطلاقاً من لا شيء اجمالاً بل هما يجعلانها في تعارض مع الهيغلية بالنسبة لعدد من الجوانب ولكنهما لا يترددان بالمقابل اخذ ما يعتبرانه افكاراً اساسية فيها، فالمنهج الديالكتيكي بالنسبة لهما ينطبق على قاعدة فلسفية مادية مثلما تنطبق على قاعدة فلسفية معاكسة أي مثالية. ويختصر ماركس اختلاف المنهجية بقوله: منهجي في التطور ليست المنهج الهيغلي لأنني مادي وهو مثالي فالديالكتيك الهيغلي هو الشكل الأساسي لكل ديالكتيك لكن فقط بعد تحريره من طابعه السوقي، وهذا على وجه الدقة ما يميز منهجه. وهكذا فالتمايز والتعديل لا يعنيان الالغاء.
أما الفصل الثاني من الكتاب واسمه (الأرث الهيغلي) فهو يحتوي على المحاور التالية:
1- نظام ودين
2- النظام الهيغلي
3- الفكر التأملي
4- فكر السيرورة
5- نظام وديالكتيك
6- اعلاء التأريخ
ففي المحور الأول يشير المؤلف الى ان مثالية هيغل ترتبط بشكل حجم نظامه؛ أي بهذا الكل المعماري والديالكتيكي والمنهجي الذي يعبر عن فكره والسبب في ذلك كما يقول المؤلف لأن هذه المنهجية لا تتعلق حقاً إلا كما يرى البعض بالأسس التأملية المحضة التي يضعها كتاب (علم المنطق) وأما لأنها تشمل كما زعم بعض الاتباع والناشرين حملة من الاستنتاجات والاشتقاقات التي يطورها كتاب (موسوعة العلوم الفلسفية)، اما بماذا تتميز المثالية عن المادية عند هيغل فبما يترتب عن ماهية الترتيب المتعاكس للفكر والمادة داخل النظام الفلسفي . اذ آنئذٍ تتوافق المثالية الفعلية مع المثالية المعلنة لدى هيغل.
وفي المحور الثاني (النظام الهيغلي) يقول المؤلف (النظام الهيغلي ليست لديه بنية مشلولة وانما يشبه كياناً حياً، وهو في المحصلة الأخيرة كتاب روحي يحتوي على لحظات موضوعاتية وعلى (التحقق) وهذه تمثل ما نسميه (اللاروحي) أي ماهو طبيعة واشياء وهيئات.. الخ. وهذه الوقائع تندرج مع ذلك كلحظات سلبية في الحياة الخالدة للروح.
وفي محور الفكر التأملي وهو المحور الثالث في الفصل الثاني يلخص المؤلف الموضوع كالآتي: إن التأملي يحمل نفسه على الاقتناع بأن الفكر ينتج كل شيء بنفسه كما ان المقامر المحظوظ يتوهم أحياناً أن النقود التي يقامر بها تنتج نقوداً جديدة ولعل شعور الاكتفاء الذاتي هذا هو اكثر ما يميز الفكر التأملي. ولقد عبر ماركس عن ذلك بقوله ناقداً الموقف الذي تفاخر هيغل باتخاذه “لقد وقع هيغل في وهم تصور الواقع كنتيجة للفكر الذي يتجمع في ذاته ويتعمق في ذاته ويتحرك انطلاقاً من ذاته؛ في حين ان النهج الحقيقي عكس ذلك” (مقدمة في نقد الاقتصاد السياسي).
وفي المحور الرابع عن فكر السيرورة يقسم المؤلف الموضوع الى نقاط ويقول في بداية المحور: لقد حصل لهيغل ان ميّز بين ثلاثة جوانب في “المنطق”:
1- الجانب المجرد او النابع من الادراك: ان الفكر بوصفه ادراكاً يكتفي بالتحديد الثابت ومطابقة التفاصيل بالنسبة الى الغير وان قيمة تجريد جامد كهذا هي في بقاءه وكونه ثابتاً.
2- الجانب الديالكتيكي او العقلاني سلباً: اللحظة الديالكتيكية هي الالغاء الذاتي لكذا تحديدات متناهية وانتقالها في اضدادها.
3- الجانب التأملي او العقلاني ايجابياً: التأملي او العقلاني ايجاباً يحيطه بوحدة التحديدات في تضادها وبالايجابي المتضمن في انحلالها وانتقالها “في شئ آخر.”
وعن السيرورة يقول في مكان آخر من نفس المحور: من يريد أن يستوعب السيرورة التي هو نفسه مستوعب فيها، عليه ان يخضع عاداته الفكرية خضوعاً له هو نفسه، وان يكسر صلادة قلبه وان يستيقظ من رقاده الدوغمائي كما ان عليه ان يتخطى ما يسمى الحس العام وهو ما يسميه هيغل الادراك.
وفي محور (نظام وديالكتيك) يقول المؤلف في بداية المحور: من البديهي ان هيغل لم يفصل مبدئياً على الأقل بين الديالكتيك والنظام التأملي واذا تعلق الأمر بإعادة تنظيم فكره على نحو أصيل، لا يسع المرء عندئذٍ الاّ التفكير بنظامه الديالكتيكي في وحدته وتجانسه المزعومين كما اقترحه هو نفسه وبطريقة لا تقبل التقليد. كما يقول المؤلف في مكان آخر: ان تحديدات قوانين واجراءات الديالكتيك لا يمكن محاولتها إلا ضمن الشرط التالي؛ الانسان او العالم او النظري تحديداً هو وعي الكيانية التي ينتمي لها والتي عرف منها جزئيا بعد ان فصلها وقتياً ونسبياً من السيرورة الاجمالية.
وفي المحور الأخير (اعلاء التأريخ) يقول المؤلف: كل فكر هيغل مسكون بمشكلة التأريخ، ففي شبابه كان قد تساءل سلفاً عن معنى الصيرورة الانسانية وعن قيمة ما يتخذه بشأنها، وفي السنوات الاخيرة من حياته كان يواصل الاجابة بعد على هذا التساؤل بتأليف دروسه الشهيرة حول (فلسفة التأريخ) الذي يتعلق اساساً بالحياة السياسية، لكن الذي يقدم بشكل اكثر اجمالاً طريقته في رؤية التأريخي بوجه عام.
في الختام نقول ان هذا الكتاب القيم يستحق القراءة والتمعن بجدارة وان هذا العرض ربما ظلم الكثير من المواضيع المهمة والمصفحات التي تستحق الاطلاع والتي يحفل بها الكتاب. وقد جاء الكتاب في فترة تحتاج فيها المكتبة العربية الى مثل هذه الكتب التي ربما سيصبح أساساً لنهضة فكرية جديدة بعيد إحياء النهضة الاولى التي طوقها طوفان الفكر المغلق والاطلاقي الذي انجز مهماته الاساسية في تجهيل الناس واعادتهم الى الانماط البدائية في العيش والفكر.
كلمة أخيرة: حين سئل عالم الفيزياء الفذ البرت انشتاين (1879-1955) عن اسباب نبوغه وعبقريته، اجاب بأنه كان يزجي أوقات فراغه في قراءة الكتب الفلسفية!؟.. فأنا لي التأمل الفلسفي صفاءً ذهنياً للفوز في اسرار الكون. وحين بادر السوفييت في منتصف القرن الماضي في غزو الفضاء: قامت امريكا كرد فعل معاكس بتغيير مناهج الرياضيات في المدارس الامريكية وادخلت اليها مادة الرياضيات الحديثة، فاستطاعت اللحاق بالركب العلمي السوفيتي وتجاوزه في بعض المناحي.
خلاصة القول: نحن نعاني من تخلف كبير في كثير من العلوم؛ والفلسفة وعاء كل العلوم.. فطالب الدراسة الاعدادية؛ وهي اخطر المراحل الدراسية لا يفهم شيئاً في الفلسفة لدينا ولا يعرف من هو الفيلسوف ولو سألته عن الفيلسوف لاجابك: بأنه الرجل الذي يعرف كثيراً! صحيح ان الفيلسوف يعرف كثيراً؛ ولكن ليس كل من يعرف كثيراً هو فيلسوف. لذا بات من الضروري تدارك ذلك في عراقنا الجديد، عليه اوصي بتدريس بعض محاور الكتاب (هيغل والهيغلية) وبشكل مبسط في المدارس الاعدادية للتعريف بهذا الفرع الجليل من فروع المعرفة… وان تعذر ذلك فعلى الاقل تدرس الكتاب في الصف الاول في قسم فلسفة بكلية الآداب.. لأن الكتاب يستقي اهميته من خلال تناوله واحداً من اكبر الفلاسفة على مر العصور وهو هيغل.
وللاستاذ المترجم د. حسين هنداوي اقول: لقد جئت شيئاً فريداً لكنه جميل ومفيد في زمن القحط والجفاف.. زمن الجوع المجنون.. وهو امر لا يأته إلاّ ذو حظ عظيم.http://almadasupplements.net/news.php?action=view&id=4576…