المؤلف: حسني هنداوي
(الناشر: دار الساقي، بريوت: 1996 (134صفحة من القطع الصغير
محمود الذوادي
يمثل الكتيب الذي بني أيدينا الكتاب الواحد والعشرين في سلسلة بحوث اجتماعية التي تنشرها دار الساقي.
وقد بناه المؤلف على أربعة فصول ومدخل. فهو يتمحور حول موضوعي التاريخ والدولة عند كل من ابن خلدون وهيغل.
يعلن المؤلف في مدخل الكتاب أن الدراسات قد تعددت لفكري ابن خلدون وهيغل، وأن هناك تقاطعاتٍ كثيرة بينهما في مفاهيمها النظرية والسياسية (ص5)، وأن ما يثير انتباه الدارس أكثر بهذا الصدد هو التلاقح بين «دروس» التاريخ «والعبر» الخلدونية. ويذهب المؤلف إلى أنه أصبح من الثابت الآن أن ابن خلدون هو مؤسس دراسة التاريخ بوصفه فرعاً من فروع الفلسفة، وبالتالي فهو مؤسس فلسفة التاريخ.كما أن نظرية صاحب المقدمة، في هذا المجال، تظل أهم منظومة حتى العصر الحديث أو حتى عصر هيغل على الأقل(ص6).
وعلى الرغم من عدم ذكر هيغل لإبن خلدون بالإسم، فإن الأستاذ حسني هنداوي يرى أن كثرة الوشائج بين فلسفة التاريخ الهيغلية ونظريهتا الخلدونية تجعل من الصعب اعتبار هذا التشابه بين هذين المفكرين مجرد صدفة. وهذه هي المقولة الرئيسية لفصول هذا الكتاب (ص8).
يستهل المؤلف الفصل األول بالحديث عما عرفته الحضارات المختلفة في كتابه التاريخ قبل ابن خلدون.
فالبابليون حققوا قفزة مهمة في فن كتابة التاريخ وذلك بتسجيل أخبار الملوك والسلالات الحاكمة ومنجزاهتا (ص15)
ويرى المؤلف أن مبادئ البابليين وتصوراهتم للتاريخ قد تقمصت صيغاً أكثر عقلانية لتظهر من بعد في عدد من الديانات الرئيسة في منطقة الشرق الأوسط. ويتمثل ذلك أساساً في مفهوم التدخل الإلهي المباشر في التاريخ الإنساني. وهذا ما يعكسه الفكر التاريخي المسيحي والإسلامي (ص 16).
أما أول من استعمل مصطلح تاريخ فهو الإغريقي هيرودوت الذي استخدم كلمة (Historia). ويعني هذا اللفظ النشاط الفكري لكتابة التاريخ. ويشير الكاتب إلى أن الإغريق لم يطوروا هذا المفهوم تطويرا ملحوظا.
واستمر حال كتابة التاريخ على ما هو عليه حتى مطلع القرن الخامس الميلادي حين جاء القديس أوغسطين
(354 ـ 430م) بمنظور تاريخي جمع فيه بين الرؤية اللاهوتية المسيحية وعناصر من الرؤية المانوية في كتابه مدينة الله
(God of City the). وهو كتاب حول التاريخ السياسي الخاص بالإمبراطورية الرومانية التي كانت تمر بمرحلة انحلال وتدهور. وفي رأي المؤلف أن أغسطين لا يفسر التاريخ على أساس فكرة فلسفية تقود إلى اكتشاف العلية والسببية الموضوعية التي يمكن أن تعزى إليها صريورة التاريخ، وإنما انطالقاً من فكرة الخطيئة واللاهوتية المعروفة. وباختصار، فإن نظريته دينية في الجوهر والتفاصيل، وتنص بجلاء على جعل القضاء الإلهي المحرك الوحيد للتاريخ (ص
.(18
ويرى الأستاذ هنداوي أن النظر إلى التاريخ في الشرق الإسلامي لم يتحرر، كما هو الشأن في الغرب المسيحي، من مبدأ التبعية للرؤية الدينية. كما أن كتابة التاريخ لم تعبر مرحلة السرد الوصفي لدى المؤرخين المسلمين قبل ابن خلدون .
أما في الفصل الثاني من الكتاب فيقرر المؤلف أن العلم الجديد أو علم العمران البشري الذي جاء به ابن خلدون هو فكر تاريخي في الصميم والمنطلق فهو يمثل ولادة فلسفة التاريخ بالمعنى الحديث لهذا المصطلح. فالعلم الخلدوني الجديد يقوم أساساً على النظر العقلي والتحقيق في الأسباب والتعليل النظري والعلم بالكيفيات وغيرها. ويمثل كل ذلك أدوات عمل فلسفية بحتة.
أما تفسير هيغل للتاريخ فيظل في جوهره العميق وطيد الصلة وعميق الجذور بالتفسير اللاهوتي المسيحي (ص 32). ومع ذلك ينطلق هيغل وابن خلدون من تفكير عقلي (فلسفي) لفهم التاريخ. ويعتمد كل منهما على نظرية في المعرفة لا تكاد تختلف عند الاثنين فهي في رأي المؤلف، عالية التطور عند هيغل وحذرة وناقصة عند صاحب المقدمة. وينطلقان في فلسفتيهما حول التاريخ من تصور متقارب للإنسان: الإنسان هو الكائن الطبيعي الوحيد الذي يتجلى عبره العنصر الإلهي في العالم الطبيعي.
ويشير المؤلف إلى أن هناك تماثلاً كاملاً بين هذين المفكرين على صعيد تحديد مسرح التاريخ الكوني والعوامل المؤثرة في ذلك. وترجع أصول هذه التماثل إلى آراء بطليموس والإدريسي خصوصاً. ويرى الكاتب أن تأثير ابن خلدون في فكر هيغل أمر وارد بسبب نظرية المناخ الخلدونية فهيغل يتبنى أفكار مونتسيكو حول أثر المناخ في تحديد الدولة. ويعتقد الأستاذ هنداوي أن ابن خلدون هو المصدر الأكثر احتمالاً لنظرية المناخ عند مونتسيكو (ص 50).
وفي الفصل الثالث يناقش المؤلف ما سماه بالسببية الميتافيزيقية في فهم حركة التاريخ عند هذين المفكرين. فيشير إلى أن ابن خلدون وهيغل يعتقدان أن الله تعالى أو العقل الكلي هو قوة أدبية مطلقة تسود العالم. وما التاريخ الصيرورة التي يعبّر من خلالها الروحُ الكوني عن ذاته في شك ملموس عبر الإنسان ومن ثم فالإنسان ذو انتماء مزدوج إلى العالمين الروحاني والطبيعي. ولا تكاد تختلف ماهية العلاقة بين الإلهي والإنساني عند ابن خلدون عن تلك التي نجدها عند هيغل (ص 76). أما بخصوص مفهوم الجدلية في حركة التاريخ فإنه يمثل العمود الفقري في المنظومة الفلسفية لهيغل. ويعتقد الأستاذ هنداوي أن هيغل ربما استلهم ذلك من الجدل الخلدوني الذي جعل النفي والتناقض مصدر التقدم في العمران البشري، وخاصة بين العمران البدوي والعمران الحضري.
وينهي المؤلف مناقشته لموضوع التاريخ عند هذين المفكرين بطرحه لمفهوم جدلية مكر العقل الإلهي في صيرورة أحداث التاريخ البشري. فيشير إلى احتمال تأثر هيغل بمفهوم «مكر العقل» في القرآن الكريم حيث يقول تعالى: وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ﴾ [الأنفال: 30]. أما ابن خلدون فيرجع إلى النص القرآني مباشرة لكي يؤكد التدخل الإلهي في تاريخ الشعوب ومصير الحضارات الإنسانية حيث يستشهد بقوله تعالى: ﴿وَإِذَا أَرَدْنَا أَن تُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا [الإسراء: 16] (ص 70). وهكذا فصاحب المقدمة يضع قانوناً ثابتاً من قوانين الصيرورة التاريخية التي قامت عليها فلسفته فالإرادة التاريخية بالتغيير أو التدمير هي إذاً القوة الكونية الواعية التي تخلق سبب التغيير وفعله موضوعياً.
وينتقل المؤلف في الفصل الرابع والأخير من الكتاب إلى موضوع الدولة عند ابن خلدون وهيغل. فيرى أن ابن خلدون هو أهم من فكر في ظاهرة الدولة في الحضارة العربية الإسلامية. ويمكن اعتبار نظريته في الدولة نظرية ترتكز
بقوة على أرضية العلوم الاجتماعية والسياسية. فعلى المستوى المعرفي فإن الدولة التي يحللها ابن خلدون هي دولة محلية وإسلامية في كل جوانبها بينما يعالج هيغل دائماً الدولة الكونية. وخلافاً لهيغل، يرى المؤلف أن ابن خلدون لم يسع إلى صياغة مفاهيم دقيقة وشاملة لفكرة السياسي. ويعترض الأستاذ هنداوي على القائلين بأنه كان مستحيلاً على ابن خلدون أن يذهب أبعد مم ذهب إليه، إذ الصحيح عنده أن صاحب المقدمة تعمد عدم السعي لذلك.
أما بالنسبة لعوامل قيام الدولة، فابن خلدون يرى أن جنين الدولة موجود بالقوة في إطار العمران البدوي ولا تولد ظاهرة الدولة بالفعل إلا عندما تندفع قبيلة كبيرة أو تحالف من القبائل للاستيلاء . بالقهر والحرب . على أحد مراكز الحضارة. بينما لا يضع هيغل لحظة محددة لبداية نشوء الدولة، ويعتبر القبيلة البدوية العربية . تحديداً الجماعة الإنسانية الأولى التي أطلقت ولادة التاريخ والدولة (ص (82). ويتفق هيجل مع ابن خلدون على الأثر الحاسم للعصبية أو «البنية البطريكية» ما يسميها هيغل في إقامة الدولة ويتحدث كل من ابن خلدون وهيغل عن الجدلية بين الدين والدولة. فابن خلدون يرى أن الدين ذو أثر كبير في توسيع الدولة وتحولها إلى دولة كبرى أو إمبراطورية، ومع التنبيه في الوقت نفسه على أن «الدعوة الدينية من غير العصبية الملك الدولة لا تتم». أما قيام الدولة عند هيغل فهو يتوقف على الدين، فهي تزدهر بازدهاره وتندحر باندحاره (ص 89).
ويطرح المؤلف موضوع غاية الدولة عند ابن خلدون وهيغل فيعطينا تفسيراً اجتماعياً حضارياً لذلك. فابن خلدون يلح على حاجة بني البشر إلى الدولة بوصفها وازعاً يقمع الظلم ويقيم العدل بينهم. أي أن غاية الدولة في ظروف انحطاط العالم الإسلامي يتمثل في إقامة العدل الاجتماعي (ص (92). أما عند هيغل فغاية الدول تتمثل في تحقيق المجتمع البورجوازي الحر. وهي تعكس مدى تأثر هيغل بمبادئ الثورة الفرنسية.
وينظر كل من ابن خلدون وهيغل إلى الدولة على أنها كائن حي يولد، ثم يشب ويبلغ طور الكهولة الذي تعقبه مرحلة الهرم. ويشير الأستاذ هنداوي إلى أن صياغة هيغل لأطوار حياة الدولة تكاد تكون خلدونية تماماً (ص 98).
فالدولة تمر بأربع مراحل:
.1 طور ولادة الدولة وانطلاقها.
2. طور الشباب والرجولة الذي يتحقق فيه الهيمنة والازدهار وكل الانتصارات الأخرى.
3 طور الكهولة والهرم والذي تفقد فيه الدولة حيويتها.
4 طور موت الدولة وانقراضها.
وهناك اختلاف واضح بين هذين المفكرين بخصوص حياة الدولة. فهي تشمل عند هيغل حياة الدولة بوصفها ظاهرة كونية مستمرة على نطاق التاريخ البشري. أما عند ابن خلدون فإن حياة الدولة أمر مستقل بذاته وميكانيكي إلى حد كبير ومحلي بالضرورة إلى درجة يتوجب على كل عصبية أن تمر في التجربة التلقائية نفسها لإقامة أسس الدولة الخاصة بها. وبعبارة أخرى، فهناك قطيعة بين الدول وحضاراتها في الفكر الخلدوني، وهو عكس ما يذهب إليه هيغل.
ثم يطرح الكاتب قضية العنصرية العرقية في فكر كل من ابن خلدون ،وهيغل فيرى أن فكر صاحب المقدمة خال من النزعة العنصرية أو العرقية إذ إنه يؤكد أن النسب أمر وهمي لا حقيقة له في حين يؤمن بقوة بتفوق العقيدة الإسلامية. ومن جهة أخرى يرى الأستاذ هنداوي أن هيغل يرمي بالدونية العرقية الشعوب الشرقية لاقتناعه بتفوق الورحانية المسيحية. ومن ثم فالعالم الشرقي مطالب دائماً بالخضوع والتبعية للغرب (ص 106). ويخلص المؤلف إلى القول بأن النزعة الإنسانية في فكر ابن خلدون أكثر صفاء ما نجده عند هيغل، وأن نقده للبدو والحضر وبعض الأمم الإفريقية يستند إلى أسس موضوعية لا شخصية عنصرية.
وتختم المؤلف كتابه بتساؤل غير مفاجئ هل اطلع هيغل على مقدمة ابن خلدون؟ وللإجابة عن هذا السؤال يقدم لنا عدداً من الأدلة تجعل إطلاع هيغل على المقدمة أمراً ممكناً حقاً. ويبدو أن ذلك قد تم إما بطريقة مباشرة: أي عبر قراءة هيغل لنصوص مقدمة ابن خلدون المترجمة إلى اللغات الأوروبية، أو بطريقة غير مباشرة: أي عن طريق مفكرين أوروبيين تأثروا بابن خلدون أمثال ميكيافللي ومنتسكيو وفيكو (ص 110). فكتاب فيكو العلم الجديد كان أبرز النصوص الرئيسية التي كان هيغل مطلعاً عليها أشد الإطلاع. ويؤكد الأستاذ هنداوي أن فيكو كان متبيناً تماماً رأي ابن خلدون القائل بأن المبحث الحقيقي للعلم الجديد هو فهم باطن التاريخ، أي فهم تلك القوانين الخفية تحكم التاريخ البشري. أما من ناحية إمكانية إطلاع هيغل بطريقة مباشرة على أفكار ابن خلدون فإن الكاتب يمدنا بمعطيات عديدة في هذا الشأن. فمن جهة لهيغل أصدقاء من بين المشرفين على المجلة الآسيوية الفرنسية التي نشرت بين 1822 و 1830 أكثر من عشر دراسات عن فكر ابن خلدون (ص .(112) ومن جهة أخرى لقد أكد العديد من المؤرخين والمستشرقين الألمان والفرنسيين المعاصرين لهيغل أن مقدمة ابن خلدون هي المرشد النظري لفهم الحياة الاجتماعية في عهد الدولة العثمانية. ومع ذلك يشير الكاتب إلى أن هيغل لم يشأ أن يعترف للعقل العربي الإسلامي بإمكانية أي إبداع أصيل، وذلك لأنه ينتمي إلى العقل الشرقي الذي وصمه هيغل بالدونية انطلاقاً من نزعته العنصرية.
إن الدراسات الفلسفية الحديثة حول محددات الفكر والعلم والمعرفة تساعد على فهم يرشح موقف هيغل النكران
الفكر الخلدوني
1- فمن الثابت اليوم أن فرضيات العالم ومفاهيمه ونظرياته تتأثر بعمق جذوره الشخصية والاجتماعية والحضارية. وبالتالي يصعب أن تكون موضوعية وغير منحازة لذاتها الفردية والجماعية. فنكران هيغل لفكر صاحب المقدمة وتأثيره فيه يمكن أن يكون حصيلة لتحيز هيغل ضد العقل الشرقي بصفة عامة.
2- لقد أصبح جلياً من الدراسات العلمية الحديثة حول الإبداع الفكري أن ميلاد ظاهرة الإبداع عند الأفراد ظاهرة معقدة تأبى التبسيط. ومن ثم فهي لا تخضع لقوانين التحمية المتشددة (Rigid Determinism). وخير مثال على ذلك ميلاد مقدمة ابن خلدون نفسها. فقد رأى العلم الجديد للعمران البشري» النور في ظل دول استبدادية وأزمة عميقة للحضارة العربية الإسلامية. فميلاد فلسفة التاريخ الخلدونية في تلك الظروف الصعبة كان فعلاً أمراً غير منتظر عند ذوي الرؤية الضيقة التبسيطية في فهم أسباب تبلور ظاهرة الإبداع الفكري في الحضارات الإنسانية.