
“الحركة الجوهرية عند الشيرازي” في 1971 كان الكتاب الذي أسس علاقتي الاولى مع مؤلفه المفكر العراقي الراحل هادي العلوي (1932-1998). وكتابه “المرئي واللامرئي في الادب والسياسة” كان الاخير. وهي علاقة خارجية وطارئة في الاصل، واشكالية ونقدية دائماً.. الا انها صارت في كل لحظاتها عميقة وودية وصادقة. وهي حالة امتلكها معه معظم الذين عرفوه بهذا القدر او الشكل ربما من معرفة مباشرة وهم قلة مقابل العدد الكبير ممن عرفه عن طريق كتبه العديدة ومقالاته الغزيرة وسجالاته اللامعة عادة.
وانطباعي العام حين غادرنا في مثل هذا اليوم 27 ايلول بالتمام والكمال من عام 1998، ان هادي العلوي يمكن تشبيهه بعالم قائم بذاته يتغير مشهده تبعاً لوجهات النظر. الا ان كل مشهد يمتلك مبررات وجوده لذاتها ويغريك بحقيقته الخاصة. انه بكلمة، عالم اغراه واغناه الجمع بين المفكر والباحث والمناضل والمبشر معاً، الصادق والحميم دائماً.. وهنا تحديداً تكمن اصالة خصوصيته المثيرة والصامدة على مر الزمان. مواقفه تباغت بمفاجئات كبيرة احياناً، الا انها بديعة غالباً او تصبح بديعة كلما مر الوقت. فهذا كاتب فائق التقنية على اكثر من صعيد. انما بلا اسلحة. وخصوصاً بلا اسلحة سوى الفكرة. اذا جاز اعتبار الفكرة سلاحاً. وهو ما لا يجوز برأي داعية لا يخفي رغبته بتغيير كل شيء متحدياً، بشكل لا يخلو من ملامح ابي ذر العظيم، “الكبار” احياناً، اي اولئك الذين، ساسة او شيوخ او مثقفين، يعتبرون في هذا المجال او ذاك، نخبة، ليحثهم على تغيير ليس نمط حياتهم وحسب بل افكارهم، كل افكارهم ربما، ساخراً منهم بلغة جريئة واستفزازية وحتى جارحة، مدافعا عن منظورات تتحدى الفهم الواقعي للكثيرين، الا انها لديه، ولدى خصومه أحياناً، ضرورية ورحيمة من وجهة نظر او اخرى.
تلك المنظورات وغيرها التي نثرها هادي العلوي بمثابرة وبالحاج مقصود غالباً في كتاباته الكثيرة المنشورة، من العسير التحدث عنها بالدقة والموضوعية والامانة والجرأة التي، كلها، كان العلوي الراحل يدين من يدير الظهر لها ادنى استدارة، لاسيما وان الامر يتعلق بحالة استطيع القول سلفاً بأنها ستترك آثاراً مقبلة، بناءة وتدميرية ايضاً، لم يتكهن بها ربما حتى صاحبها نفسه الا جزئياً.
ثمة ابعاد جذبت انتباهي في فكر هادي العلوي هي للوهلة الأولى أربعة رئيسة من وجهة نظري أتناولها باختصار شديد هنا متنقلاً من البسيط جداً الى المعقد جداً ومن المحلي جداً الى الكوني جداً مع ضرورة التأشير هنا على انه حرص، هو نفسه وبعناد جميل، على ان يمنح البسيط جداً والمحلي جداً نفس مكانة الكوني والمعقد سواء بسواء. وهذا بحد ذاته مقصود لديه بفعل انطلاقه الخفي او بالأحرى غير المتبلور من حلولية ذهنية او صوفية اذا شئت، تبناها تماماً كمذهب دون ان يتمذهب صراحة بها لسبب او لآخر ليس من المستبعد ان يكون سبباً ذهنياً هو نفسه وهذا يحتاج الاسهاب فيه الى وقفة تطول.
والبسيط والمحلي جداً انما الكوني في جوهره اذا بدأنا به الآن في قراءة هادي العلوي كحالة، هو حبه للعراق. فهذا البعد المقترن بالابتعاد كان المنطقة الأصفى في الشخصية الجسدية الروحية لهادي العلوي التي لا نستطيع استكناه شيء فيها ان لم نبدأ من هذا البعد تحديداً. فالعراق رصيده الاول ونبعه الأصلي الذي ظل ينهل منه ويلجأ له ويحلم من أجله في لحظات استغراقاته القصوى وانغماساته التغزلية بماركسية رومانتيكية مرة وعروبة انسانوية مرة كما في تبشيره بالنزعات الكونية والصوفية وحتى الجيفارية مرة ثالثة او رابعة.
وحب العراق بصوفية هو ما فتحت عينيه عليه حركة يسارية كانت نابضة ببراءتها سواء عبر مبادئها او ابطالها القديسين فهد وزكي بسيم وحسين الشبيبي، بعد ان كانت تربيته الدينية قد فتحت قلبه عبر أبطال مقدسين أسمى ظل يتأمل عظمة مجدهم الكوني كل حياته كعلي وأبو ذر وسلمان. فعراقي الهوى اكثر من أي عراقي اخر في المنفى كان هادي العلوي!
هذه الميزة، التي لم نجدها الا لدى نفر قليل، جعلت من هادي العلوي وطنياً عراقياً من الطراز الاول لكنه لم يكن عصبويا او متعصبا على الاطلاق. فعراقيته دون انسانويته على الدوام. وقد عكس ذلك في كل حياته اليومية وسواها بل حتى في براءته الرمزية من هويته العراقية تحديداً احتجاجاً على ابادة اطفال كردستان كما جاء في مقال له نشرته صحيفة السفير اللبنانية في 23 ايلول 88 في اعقاب مجزرة الاسلحة الكيمياوية البعثية في حلبجة:
“أيها الطفل الكردي المحترق بالغاز في قريته الصغيرة، على فراشه او في ساحة لعبه هذه براءتي من دمك اقدمها لك، معاهداً إياك الا اشرب نخب الأمجاد الوهمية لجيوش العصر الحجري، ولا أمد يدي الى واحد من العصر الحجري اقدمها لك على استحياء ينتابني شعور بالخجل منك ويجللني شعور بالعار أمام الناس اني احمل نفس هوية الطيار الذي استبسل عليك وليت الناس اراحوني منها حتى يوفروا لي براءة حقيقية من دمك العزيز. انا المفجوع بك، الباكي عليك في ظلمات ليلي الطويل في ترف حكام الذئاب البشرية الذي لم نعد نملك فيه الا البكاء، اقبلها مني ايها المغدور فهي براءتي اليك من هويتي”.
وانه لعار على الوطني العراقي النبيل، برأيه، “الانتماء الى هذا الجيش من الجبناء الهارب امام الأتراك والراكع امام الامريكيين لكن الوحش الكاسر امام اطفال كردستان. انه جيش حتى اللصوص وقطاع الطرق والذئاب تملك قيماً اخلاقية اكثر مما يملك”.
عروبته الانسانوية كانت البعد الثاني في فكره. فمفهوم “الأمة” العربية لا يعني لديه مفهوم “الدولة” العربية كما يزعم القوميون الشوفينيون العرب اعتماداً على الترجمة (وفكر القوميين الشوفينين مترجم كله). ذلك لأن مصطلح أمة ومصطلح شعب متمايزا في اللغة العربية بخلاف الحال في اللغات الغربية فالأمة قد تضم شعباً واحداً كالأمة الصينية وقد تضم عدة شعوب كالأمة العربية. والدولة تكون للشعب الواحد وليس للأمة الواحدة بالضرورة.
ويسخر هادي العلوي سخرية قاسية من الاوهام القومية للشوفينيين العرب ويهاجمهم بقسوة الا ان شعلة سخريته تنصب على ميشيل عفلق الذي يعتبره “اتفه واحقر شخصية انجبها الفكر الشوفيني شرقاً وغرباً، كما ان عفلق “هو ايضاً الأب الفعلي للنظام الشاذ في العراق نظام الخراب والجثث والنذالة”.
عروبة نبيلة أذن هي تلك التي يعلن العلوي الانتماء لها مدافعا عن “انسانية ناطقة بالعربية” اذا شئنا. واللغة العربية هي احدى اقداس هادي العلوي الخفية او بالاحرى العلنية: ألم يصدر معجماً عربياً جديداً في 1983 ثم معجماً كبيراً هو القاموس اللغوي الذي نشر منه جزئين فقط. والعربية لديه أحدث اللغات السامية ومن ثم اوسعها واكثرها تطوراً ورقياً.
وهكذا، فعروبة هادي العلوي انسانية بالفطرة ولا شوفينية بالضرورة، عالمها من العراق الى المغرب الاقصى، وهو عالم تجمعه وحدة لغوية وتاريخية وثقافية لكنها “وحدة من وفرة الوجود، اي العيش معاً، لا وحدة الوجود ي الغاء الفوارق، لأن العالم العربي فيه من التنوع بقدر ما فيه من التماثل ويصعب بالتالي حشر شره كلهم في كبسولة واحدة كما يزايد به القوميون العرب”.
اما حضارياً، فالحضارة العربية- الاسلامية هي آخر الحضارات الغرب اسيوية واملأها من ثم بالانجاز العلمي والثقافي والعمراني، وبها اكتملت المعرفة فظهرت الفلسفة والتصوف والادب والعلوم والفقه والسياسات. وحقيقة الحال لديه ان الحضارة الاسلامية وقرينتها الصينية هما الاساسان اللذان تطورت عليهما المدنية الحديثة والحضارة الحديثة معاً. وهما الى جانب الحضارة الاغريقية أرقى حضارات العالم القديم.
الحضارة الصينية اذن، وهذا البعد الآخر، هي قرينة الحضارة العربية الاسلامية واختها قديماً وحديثاً ايضاً. وهذه دعوة لم يكف المفكر الراحل من اطلاقها دائماً و الذي كان قد عرفها عن كثب وتأثر بها وكتب عنها “المستطرف الصيني” المنشور في 1994 وترجم عنها “كتاب التاو” من تأليف الكاتب الصيني تشوانغ تسه ونشرهُ بالعربية قبل ثلاثة اعوام من وفاته.
وهذه الدعوة للتحالف من جديد بين حضارتي شرق اسيا وغربها مصدرها رأيه القائل بأن للعرب عدو قديم هو الغرب الذي اعتبر دائماً غرب اسيا بمثابة النقيض او الغريم الجغرافي والحضاري لأوربا.
واخيرا، لا يتردد العلوي في منح ذلك العداء الغربي جذوراً تعود الى الاغريق والرومان مسهباً في ذلك أبعد اسهاب حتى ان الامر لا يخلو من طرافة احياناً عندما يعتقد بأن الامريكان ورثوا عقدة كراهية الحضارة العربية الاسلامية من الرومان والصليبين بغض النظر عن ان “هذه الكراهية مغلفة الأن” كما يقول “بحلوى الديمقراطية وسكر حقوق الانسان”.
د. حسين الهنداوي