حاوره: حيدر ناشي
في عالمٍ تتداخلُ فيه الحضارات وتتنازعُ الأصواتُ حول أسبقيَّة الأفكار، يطلُّ البروفيسور حسين الهنداوي كـ”حفارٍ في أرض الفلسفة المنسيَّة”، يحملُ بين يديه مخطوطاتٍ فكريَّة تتحدى السرديات التقليديَّة عن مهد الفلسفة، برصيدٍ يتجاوز عشرة مؤلفات، وإرثٍ من الندوات التي هزت أسئلتها اليقينيات. يُعدُّ الهنداوي أحد أبرز من نحتوا مساراتٍ جديدةٍ للفكر الفلسفي العراقي.
في هذا الحوار، لا نستجوبه، بل ننزلُ معه إلى حفريات التاريخ، ننفضُ الغبارَ عن جدليَّة يتحول الحوار فيها إلى رحلة فلسفيَّة عميقة المعنى.
* أحد عنوانات مؤلفاتك “الفلسفة البابليَّة” يدعو للغرابة.. يا ترى هل كانت الفلسفة في منشئها اغريقيَّة أم بابليَّة؟
– إذا كان المقصود بالفلسفة الفكر العقلاني المؤسس، أو المستند على معرفة منطقيَّة تأمليَّة مستهدفة بذاتها، فهناك فلسفة بابليَّة أسبق من الفلسفة الاغريقيَّة بلا ريب في نظري، بل هي أحد مصادر هذه الأخيرة في أكثر من مجالٍ، سواءً ما يتعلق بمصدر المعرفة أو انبثاق الوجود أو مصيره أو العلاقة بين الله والإنسان، وحتى بعض المفاهيم الأخلاقيَّة والسياسيَّة الكونيَّة.
صحيح، إنَّ الفكر الفلسفي الاغريقي “جاهز” الصياغات والتبلور كمفاهيم بينما الفكر الفلسفي البابلي يحتاجُ إلى التنقيب الدقيق والفرز وإعادة الصياغة قدر الإمكان بصيغة “المفهوم” الخاصة بالفلسفة، أي بعد تجريده من أدوات التعبير الدينيَّة وتحريره من أجواء الأسطورة والحكاية والشعر وإخراجه من أجواء الأنشطة الروحيَّة والطقوس والخيال. فما يهمنا من الأفكار الفلسفيَّة البابليَّة هو مضمونها العقلي المحض فحسب.
وعلى العموم فإنَّ الفكرة العقلانيَّة التي يمكننا التثبت من وجودها في نصٍ دينيٍ أو أدبيٍ أو فنيٍ أو قانونيٍ، وبعد تجريدها من كل ما هو غير فكرٍ محض، هي مادة فلسفيَّة شئنا ذلك أم لا. وهذا ما نفعله لاستنتاج الأفكار الفلسفيَّة من نصوص الكتب المقدسة أو من الشعر الصوفي، أو حتى من بعض النصوص الروائيَّة والمسرحيَّة “لابن طفيل أو نيتشه أو سارتر” وسواهم. وهذا ما فعله كبار مؤرخي الفلسفة الغربيين مع جملٍ لفلاسفة يونانيين وردت في صيغ تعبيرٍ اسطوريَّة أو دينيَّة أو شعريَّة.
إنَّ الفكر الفلسفي البابلي أو المصري أو الاغريقي القديم شأنه شأن الفكر الفلسفي الحديث، هو “ابن عصره”، في ما يتعلق بطرق التعبير، وعليه، لو توفر للواحد منهم التراكم المعرفي ذاته، والوسائل والتسهيلات العلميَّة وحدود الحريَّة الذهنيَّة عينها التي لغيره، لما تميّز أو تفوق أحدهم على الآخر من حيث علاقته بالفعل الفلسفي وبدافع تلك العلاقة الذي هو “حب الحكمة”، أي حب الفهم العقلي، إلا بقدر العبقريَّة التي يتميز أو يتفوق بها مفكرٌ عن آخر في الشرق أو الغرب. ومع ذلك إننا إذ نؤكد وجود فلسفة بابليَّة أسبق على الفلسفة الاغريقيَّة نرى أيضًا أنَّها لم تكن متطورة منهجيًا، إنما تأسيسيَّة، بمعنى انَّها لم توجد انطلاقًا من تراكم مفاهيم تأمليَّة متبلورة سابقًا عليها، كما أنها لم تولد على يد مفكرٍ فلسفيٍ معروفٍ أو جماعة منسجمة فلسفيًا، إنما انبثقت بنفسها، ككل المنظورات البابليَّة الأخرى، بهيئة تأملاتٍ عقليَّة أولى ومتصاعدة التطور عن الوجود واللاوجود، وعن العالمين الإلهي والطبيعي وعلاقتهما. فلا تبخسوا الفكر الفلسفي البابلي مكانته العظيمة في تاريخ الفكر التأملي البشري.
* قرأنا عددًا من مؤلفاتك ولاحظنا أنك تتبنى المنهج الهيغلي، ومثلما هو معروفٌ إنَّ الديالكتيك بدأ هيغليًا، يا ترى هل تتبناه مقلوبًا مثلما وصفه كارل ماركس؟
– المنهج الفلسفي الهيغلي عظيمٌ وعبقريٌّ كالمنهج الفلسفي الماركسي، إلا أنَّني لا أنتمي إلى أيٍ منهما إلا جزئيًا وفي تناقصٍ وبعلاقة صراعٍ إيجابيَّة وسلبيَّة حسب الحال. وعمومًا لا يمكن للمرء أنْ يتماها مع منهجٍ من الماضي هيغليًا كان أو ماركسيًا أو ما شابه، لأنَّ هذه المناهج تهرمُ وتتخشبُ بالضرورة، بينما الحياة خضراءٌ دائمًا. أنتمي بالمقابل إلى منهجي الخاص في الديالكتيك أي المعاصر جدًا والأخضر بعد، والذي لا يعني سوى الإيمان بالاستمرار المطلق للصيرورة، أي للصراع والتناقض والنفي والتجدد والموت والحياة كضرورات كونيَّة بذاتها.
* الحتميَّة الهيغليَّة مطلقة، وهذا أشبه بالإيمان اللاهوتي الذي يقرّ المطلق وينفي النسبيَّة، وحتى الماركسيَّة أقرت مبدأ الحتميَّة التاريخيَّة لمراحل الحياة البشريَّة، هل تعتقد أنَّ الماديَّة وقعت في فخ المثاليَّة من دون أنْ تشعر؟
– مفهوم “الحتميَّة” عند هيغل وكذلك عند ماركس يرتبطُ بفلسفة التاريخ لديهما وهو مفهومٌ تطوريٌّ في الحالتين، وبالتالي لا يمكن عدُّه من طراز المسلمات اللاهوتيَّة (عند هيغل) أو العلميَّة (عند ماركس) مهما زعم البعض ذلك. إنه أشبه بقراءة فلسفيَّة للمستقبل وبالتالي مفتوحة على كل الفرضيات ومنها (وهنا نسبيتهما) فرضيَّة إمكانيَّة استعمال الزمن كعنصرٍ إيجابي في حركة التاريخ المقبلة، أي مراحل حياة البشريَّة إذا شئت رغم أنَّ الهيغليَّة وكذلك الماركسيَّة لا تحصران التطور بالحياة البشريَّة على مكانتها المركزيَّة الحاسمة. وهذه القراءة احتماليَّة وليست أكيدة الصدق أو مطلقة الصحة بالضرورة مهما بدت أو اعتبرت واثقة من نفسها. ومن هنا مطالبتنا بتحرير الفلسفة الهيغليَّة من أي عقائد مثاليَّة وتحرير الفلسفة الماركسيَّة من أي عقائد ماديَّة بما فيها التاريخيَّة الميكانيكيَّة. فكلاهما ينطويان على مكونين مادي ومثالي بدرجاتٍ متفاوتة، وكلاهما لا ينفيان النسبيَّة في تصورها المتباين لمسار التاريخ البشري وكل تاريخ.
وعلى أيَّة حال يجب دائمًا استبعاد مفاهيم “المجرد” و”المطلق” و”المثالي” واستبدالها بـ”الموضوعي” و”النسبي” و”الملموس”. وأنْ نتذكر على ضوء ذلك أنَّ “الحضارة الغربيَّة” بدأت تترنح جديًا الآن وهي ليست “نهاية التاريخ” حتميَّة كما توهمها بعض صبيان الهيغليَّة مثل فوكوياما وهنتغتون، بينما لا صحة لمقولة “حتميَّة انتصار الاشتراكيَّة” مقابل “حتميَّة سقوط البرجوازيَّة” كما بشرنا لينين وستالين، بينما لم نجد نصًا فلسفيًا هيغليًا أو ماركسيًا قد بشّر بذلك من قبل.
* أشرت في كتابك “على ضفاف الفلسفة” إلى ضعف النشاط الفلسفي العراقي في النصف الثاني من القرن العشرين، قياسًا بالمغرب العربي ومصر والشام، رغم أنَّ هنالك العديد من الأسماء المشتغلة في الشأن الفلسفي لكنَّ نشاطهم لم يكن مؤثرًا مثل أقرانهم العرب، ما السبب برأيك؟
– بالفعل أنجب العراق علماءَ فلسفةٍ من المستوى الرفيع خلال النصف الثاني من القرن الماضي كمدني صالح، ومحسن مهدي، وحسام الآلوسي، وكامل الشيبي وغيرهم بيد أنَّ عطاءهم كان خافتًا نسبيًا مقارنةً مع الحيويَّة الملحوظة التي كنا نرصدها بيسرٍ لدي مفكري المغرب “الحبابي، العروي، الجابري، الخطيبي…”، أو مصر “زكي نجيب محمود، عبد الرحمن بدوي، زكريا إبراهيم، فؤاد زكريا…”، أو لبنان “حسين مروة، علي حرب، ناصيف نصّار…”، أو سوريا “صادق العظم، طيب تيزيني، جورج طرابيشي..” وغيرهم، من دون نسيان المهجر العربي “اركون..”. ويعود السبب في نظري إلى ما كان يعانيه المفكر العراقي من حرمانٍ في ظل النظام السابق لغياب الحريَّة بمعناها الشامل وليس فقط السياسي. وهذا يشمل جميع ميادين التفكير وليس الفلسفي فقط. هذا التلازم بين الحريَّة والفلسفة ليس حصرًا على العراق بداهةً. إلا أنَّه كان مؤثرًا جدًا في العراق بسبب شراسة القمع الحكومي وضيق مجال الهجرة. فالشرط الموضوعي للإبداع الفلسفي هو الحريَّة التي هي ليست مجرد حاجة أو ضرورة بالنسبة للتفكير الحر إنما هي شرط وجوده؛ لأنَّ الفلسفة في أسمى تعريفاتها ليست شيئًا آخر غير الحريَّة. وما دام المفكر محرومًا منها لا مفرَّ له من التكتم والصمت، لاسيما أنَّ مهمَّة الفلسفة الأساسيَّة هي إعلاء كرامة العقل عبر تمكينه من توظيف حريته. صحيح جدًا أنَّ الحريَّة التي أشاعتها بعض الحكومات العربيَّة الأخرى كانت محدودة، بيد أنَّ هذه المحدوديَّة كانت معدومة تمامًا في ظل النظام البعثي السابق.
* ذكرت البروفيسور محسن مهدي في إجابتك السابقة، وهذا الرجل حينما اطلعت على سيرته ومنجزهِ، وجدتهُ عَالمًا من الفلسفة، لكنْ يمكن أنْ أصفهُ “بالكوزموبولوتيَّة اللاعربيَّة” إذ اختصَّ في الفلسفة العربيَّة/ الإسلاميَّة وروّج لها عالميًا دون العالم العربي، هل برأيك ظلم نفسه وبيئته العربيَّة من تأثيراتهِ؟
– أشعر بفخرٍ كبيرٍ كوني أكثر من اهتمَّ بتقديم البروفيسور محسن مهدي للقارئ العراقي والعربي عمومًا، فهذا المفكر المولود في بلدة شثاثة “أو عين تمر” قرب كربلاء والذي وافاه الأجل في العام 2007، لم ينل من وطنهِ الاهتمام أو التثمين الذي يستحقه كأحد أهم علماء الفلسفة العرب والشرقيين في القرن العشرين، لا سيما في سعيه المثابر والأصيل إلى إحياء وإعلاء مفهوم “العلم المدني” أي الفكر السياسي الواقعي وأصول الحكم، من خلال الكشف عن أهميَّة وعمق تياراته لدى ابن خلدون الذي خصَّصَ له في 1954 اطروحته لنيل الدكتوراه، ثم لدى أهم فيلسوفٍ مسلمٍ كتب في علم السياسة لغاية الآن والفيلسوف المدني بامتياز “المعلم الثاني” أبي نصر الفارابي الذي خصَّصَ له سلسلة من الدراسات العلميَّة. المفهوم المهم الآخر الذي سعى محسن مهدي إلى إحيائه وبالقوة ذاتها هو ذلك المفهوم الخاص الذي يدلُّ عليه تعريف الفلسفة كعلمٍ محضٍ يقومُ على منهجيَّة مماثلة لمنهجيَّة العلوم الطبيعيَّة كالرياضيات التي تعتمد على البراهين العقليَّة.
ومن هنا أسهم بشكلٍ فاعلٍ في إحداث تقدمٍ نوعيٍ في نمط المناهج الاستشراقيَّة السائدة من قبل في الجامعات العالميَّة بشأن دراسة الفلسفة الشرقيَّة والاسلاميَّة خاصة. وتوّج محسن مهدي مسيرته العلميَّة بتحقيقه نسخة مجهولة من كتاب “ألف ليلة وليلة”، أثبت فيه أنَّ النصوص المتداولة فيها الكثير من الانتحال والنواقص والتحريف. ولا أعتقد أنَّه ظلم أحدًا أو ظلمهُ أحد من دون أنْ يعني هذا تبرئة الأوساط الأكاديميَّة والثقافيَّة العراقيَّة الفاعلة من التقصير أو التقاعس حيال العلماء والمفكرين العراقيين، لا سيما القاطنين في المهجر، إذ غالبًا ما يعاملون بحذرٍ وتمنعٍ وريبة. وأعتقد شخصيًا أنَّ إهمال المفكرين لا سيما الفلاسفة النقديين منهم، هو من مظاهر التخلف الثقافي وحتى السياسي كما أنَّه منبعٌ مهمٌ لخسائر جسيمة حضاريَّة وتاريخيَّة لا مفرَّ أمامنا من مواجهتها بصراحة والعمل على تقليصها وهو أمرٌ ممكنٌ جدًا لا سيما أنَّ الثقافة العراقيَّة حيويَّة وخلاقة بطبيعتها كما أنَّه لا يحق لأحدٍ أنْ يشكّكَ بوطنيَّة العلماء والفلاسفة المقيمين في المهجر لسببٍ أو آخر ومهما كانت أفكارهم وانتماءاتهم. وبالفعل، فرغم مكانته العلميَّة الرفيعة في أهم المحافل الأكاديميَّة في الولايات المتحدة والعالم ورغم عدم وصوله إلى بلاده على ما ينيف عن خمسة عقودٍ من الزمن لم يتردد محسن مهدي يومًا في أنْ يصفَ مسيرته خارج العراق كتجربة منفى أو غربة، متشبثًا بجذورهِ العراقيَّة ومن دون أنْ يفارقه الأمل بالعودة يومًا إلى بلاده للمساهمة في دعمها وتطويرها. ولقد شعر دائمًا بحاجةٍ نفسيَّة إلى أنْ يكون في العراق أو قريبًا منه ليتجدد. وهو ما ظلَّ يؤكده دائمًا حتى الساعات الأخيرة من حياته مفصحًا دائمًا عن حاجته النفسيَّة إلى أنْ يكون في بلده بين فترة وأخرى معربًا عن حزنه من أنَّه لا يستطيع فعل أي شيءٍ حيال الأوضاع المؤلمة للغاية في مسقط رأسه وبلاده الأم.
* هذا السؤال في فهم الاصطلاحات تتولد منه أسئلة عدة، من هو المفكر؟ ومن هو الفيلسوف؟ ومن هو المشتغِل في حقولٍ أخرى ويُطلق عليه لقبٌ فلسفيٌ أو فكريٌ؟ ولماذا العرب في العصرين الحديث والمعاصر تنازلوا عن لقب الفيلسوف لصالح المفكر؟
– الفيلسوف” و”المفكر” و”المثقف” هي مصطلحات إنشائيَّة ونسبيَّة، وبالتالي لا معنى دقيقًا لأيٍ منها إلا مجازًا، وهذا لا يقتصر على اللغة العربيَّة وحدها، بل في كل اللغات في نظري. ومع ذلك، في مجال الاهتمام الفلسفي المتخصص، يمكن تمييز المتفلسف عن الباحث التقليدي، بالحاجة إلى تخطي قيود وحدود البحث المدرسي أو الأكاديمي نحو نمطٍ جديدٍ من التأمل ينزع تدريجيًا وتلقائيًا، إلى التسامي التام والجذري على الحدود الأكاديميَّة ذاتها نحو مرحلة أعلى في التفكير تتميز بجعل العقل وحده مرجعًا ومصدرًا وجعل المفاهيم العامَّة “الوجود، الإنسان الدولة، التاريخ، الشر..” هدفًا، بما ينطوي عليه ذلك من ضرورة التفاعل مع المنجز العلمي والفكري الأحدث والتفاعل معه من زاوية عالميَّة كونيَّة بداهة، إنَّما عبر منظومة شاملة ومتكاملة أو يمكن أنْ تكون كذلك، مادتها الماهيات الكبرى وليس الظواهر الطارئة والأحداث أو الأهداف الملموسة، وأداتها “المفهوم” العقلي أو المنطقي وليس التمثلات والطقوس الدينيَّة أو الرموز الفنيَّة أو التعبيرات الملموسة الأخرى.
* يُشكِل الكثير من الباحثين والقارئين على البروفيسور حسين الهنداوي عمله في المؤسسات الحكوميَّة العراقيَّة بدل انشغاله بالبحث العلمي الفلسفي، إذ سيكون الوقت الذي يقضيه في العمل الحكومي ضياعًا، والجهد العلمي الذي يمكن أنْ يقدمه في المشهد الفلسفي العراقي والعربي والعالمي نخسره، يا ترى هل جف قلمك؟
– إشكال جميل إنما يقوم على عدم معرفة ببعض الحقائق، أولها أنَّ لا وقت ضائعاً ولا خسارة، بل بالعكس فإنَّ ثراء تناقضات علاقات وأجواء العمل تمنحني فرصة تكوين أفكارٍ مغايرة وانطباعاتٍ خارج قيود البحث الأكاديمي الرتيب أحيانًا بل غالبًا، وعلى أيَّة حال صدر لي حتى الآن أكثر من عشرة كتب ومثلها في الطريق فضلاً عن مئات المقالات ومشاريع أخرى لا تكاد تنتهي.
والحقيقة الأخرى هي أنَّني تطبعت دائمًا منذ نعومة أظافري إلى اليوم، على التوفيق بين العمل الوظيفي والكتابة، فقد بدأت العمل اليدوي الشاق منذ الطفولة لظروفٍ اقتصاديَّة عائليَّة، إذ عملت منذ العاشرة عاملاً في مطعم في الهنديَّة إلى جانب الدراسة الابتدائيَّة، ثم عامل نجارة في بغداد أيام المتوسطة قبل أنْ أشتغل عاملَ مطبعة لسنواتٍ طويلة وأنا على مقاعد الدراسة الإعداديَّة فالجامعيَّة. وخلال الدراسة العليا في فرنسا عملت حمالاً ثم مترجمًا ثم محررًا وأخيرًا مدرسًا في الجامعة التي تخرجت فيها ثم انتقلت للعمل في الصحافة والمنظمات الدوليَّة ومنها الأمم المتحدة التي عملت معها مبعوثًا إلى هايتي وجمهوريَّة “الدومنيكان ولبنان والجزائر” ورشحتني للعمل في رواندا وساحل العاج وأفغانستان قبل أنْ تختارني لتأسيس ورئاسة مفوضيَّة الانتخابات العراقيَّة ثم كمستشارٍ سياسيٍ مع بعثتها في العراق قبل أنْ أنتقل إلى وظائف عراقيَّة دوليَّة أخرى. والكتابة لها قصب السبق المقدس في حياتي العمليَّة وغالبًا ما كنت أترك الوظيفة من أجلها وفي كل الأحوال لديّ ساعاتٌ في اليوم مخصصةً للكتابة أو للقراءة حصرًا. وما زال في الأيام والقلم مدادٌ ومدد.