برعوشا – بيروسُس .. حامل الفكر البابلي الى العالم

د حسين الهنداوي ميزوبوتاميا Mesopotamia’s Post

تأتي المكانة العلمية الاستثنائية للمؤرخ وعالم الفلك والرياضيات العراقي البابلي المشهور في الغرب باسمه اللاتيني “بيروسُس Berossus “، وبالعربية برعوشا، من وضعه لنظرية مبتكرة لتفسير حالات القمر المختلفة اثناء دورانه حول الشمس، استفاد منها علماء الفلك اليونانيون، باعتراف واسع، في تطوير تقاويم احتساب حركة الايام والاشهر، وايضا وخاصة، من ابتكاره ما نسميه بـ“الكرونولوجيا الشاملة“، وتعني منهج تحقيب مجمل الاحداث التاريخية وفقاً لتسلسل وقوعها في “الزمن التاريخي” الفعلي، ما يسمح بالتالي بتقسيم هذا الزمن التاريخي، إلى فترات متعاقبة بانتظام، بموازاة تحديد أحداث كل منها بدقة وكذلك تأثيراتها على سيرورة تاريخ العالم ككل.

و”برعوشا” بالعربية هو الاسم الأقرب الى اسمه اللاتيني بيروسُس. بيد اننا رجحنا في هذا الكتاب افضلية استخدام نفس الاسم اللاتيني بيروسُس نظرا الى عدم عثورنا الى الآن على وثيقة بابلية او عربية او شرقية قديمة تشير الى اسمه الاصلي ونظرا أيضا الى اعتماد الاسم “بيروسُس” بشكل واسع بل حصري من قبل علماء الآثار في العالم فضلا عن المصادر الأجنبية التي نعتمدها في هذا الكتاب الأول بالعربية المكرس لهذا المؤرخ والعالم البابلي الرائد.

والمنهج الجديد الذي اخترعه واعتمده بيروسُس في كتابه الموسوعي ذي الاجزاء الثلاثة والمعروف باسم الـ «بابلونيكا Babyloniaca» (أي “التاريخ البابلي”)، من التسمية اليونانية (Βαβυλωνιακά)، والذي اشتهر باللاتينية أيضا بهذا الإسم، كما عرف احيانا بالتسمية التوراتية «كلدايكا Kaldaica» (أي “بلاد الكلدان”)، والمنتهي من تأليفه باللغة الاغريقية بين عامي 290 و270 ق.م، على الأرجح. وهو منهج سرعان ما انتشر بشكل واسع لدى الكتاب اليونانيين والرومان، ما افضى عالميا الى نقل الكتابة التاريخية من مجرد تعداد لأسماء الدول واحداثها وتسجيل لسيَر السلالات الحاكمة والملوك واعمالهم وغزواتهم، كما كان المؤرّخون بما فيهم هيرودوت يفعلون من قبل، الى وضع مدوّنة شاملة عن كل التاريخ البشري وحضارته بدءاً من بدء الخليقة وانتهاء بموت الاسكندر المقدوني في عام 323 ق.م، المتزامن عمليا مع عصر بيروسُس نفسه.

فالمنهج الذي ابدعه هذا المؤرخ الذي تقتصر معلوماتنا عنه لحد الآن على ما دونته المصادر الكلاسيكية الهيلنستية (اليونانية والرومانية) عنه، يقودنا الى الاهتمام، ضمن المادة المعرفية المتاحة، بمعرفة مراحل ومظاهر انبثاق وتطور الحضارة في التاريخ ممثلة بظهور الكتابة والدين والمدن والشرائع التي تنظم الحياة العامة بموجبها الى هذا الحد او ذاك فضلا عن فهم احوال الدول والامبراطوريات والملوك الذين تعاقبوا على حكم بلاد بابل والاحداث والتطورات السياسية التي اقترنت بعهودهم كما تصورها بيروسس الذي تميّز في عصره، بالاعتماد الدؤوب على مصادر ونصوص مسمارية اصلية وموثقة تمكّن من الوصول اليها بفضل موقعه الخاص ككاهن بابلي مرموق.

ان ما يهمنا بشكل خاص في الصفحات التي تلي، والمستخلصة من مصادر مبعثرة في الغالب وبجهد جهيد، هو تكوين فكرة وافية وموضوعية قدر الإمكان عن هذا المؤرخ والعالم البابلي وعن مدرسته الخاصة وآثاره وتأثيراته الكبيرة في تطور كتابة التاريخ وعلم الفلك وكذلك حول ما يقدمه من تصورات ومعلومات قيمة، ومجهولة الى حد كبير، عن تاريخ العالم القديم بحقبه وامبراطورياته الرئيسية لا سيما التي كانت عاصمة العالم القديم بلا منازع بابل، عاصمة لها على مر العصور. فخلال الفترة الهلنستية وما بعدها لقرون، اشتهر بيروسُس لدى الكتّاب الاغريق والرومان واليهود والمسيحيين الاوائل، بكونه المؤرخ الرئيسي للحياة السياسية التي عرفتها الدول والامبراطوريات السومرية والآشورية والبابلية المتعاقبة على مدى نحو خمسة آلاف سنة منذ ما قبل الطوفان، وخاصة فترات ما بعد الطوفان التي تبدأ مع انشاء مدينة اريدو في عام 5400 ق.م. وقد ظهرت تأثيراته الكبيرة على المؤرّخين الذين كتبوا بالإغريقية واللاتينية، وخصوصاً أولئك المشغولين بتاريخ اليهودية والمسيحية، كما سنرى.

بيد ان فقدان كتابات بيروسُس الاصلية وخاصة كتابه الـ«بابلونيكا»، اضطرنا الى الاعتماد على ما امكن العثور عليه او فرزه من اقتباسات او شذرات نقلها او اقتبسها او لخصها عنه بعض الكتاب او المؤرخين الهلنستيين مثل أبيدنوس وأبولودوروس ويوبا الامازيغي وبوليهستور وكلهم قبل التاريخ الميلادي، او المؤرخين اليهودي يوسيفوس فلاقيوس والمسيحي أوسيبيوس القيصري والعديد غيرهم بعد بدء التاريخ الميلادي.

والحال ان جميع ما تم العثور عليه الى اليوم من نصوص منسوبة الى بيروسُس لا يتجاوز 22 اقتباسا او رواية بتصرف او شرحا لآرائه، تضمنتها بشكل عرضي مؤلفات أولئك الكتاب، وسميت هذه الاقتباسات او الشروح بـ”شذرات بيروسُس“(Fragments of Berossus) التي قمنا بترجمتها الى العربية ولأول مرة غالبا حسب علمنا.

ومن الضروري الإشارة هنا، الى ان دمار او فقدان المؤلفات الاصلية او أجزاء منها حرم المؤرخين والكتاب اللاحقين من إمكانية الاستعانة بها للتمييز بين “الشذرات” او المقتبسات الصحيحة وتلك التي تعرضت الى التشويه والاجتزاء وحتى الانتحال جزئيا او كليا والتي باتت تعرف في التصنيفات العالمية لكتابات بيروسُس بـ” الشذرات المنتحلة”، أي التي لا وجود لها في الأصل بتاتاً انما وضعت في فترات متأخرة. فعلى سبيل المثال قام راهب دومينيكاني من روما يُدعى جيوفاني ناني في عام 1498 بنشر نصوص نسبها لبيروسُس، واخرى للمؤرخ المصري القديم مانيتو، زاعما انه عثر على كتاباتهما الاصلية. لكن تلك المزاعم تعرضت للطعن من قبل بعض الباحثين الذين سرعان ما كشفوا عن انها “مزورة”، وان تاريخ العالم الذي تنسبه الى بيروسس، ويبدأ من حادث الطوفان إلى تأسيس طروادة، يهدف الى تمجيد اليونانيين والاوروبيين وجعل حضارتهم اعرق من الحضارات الشرقية فضلا عن سد نواقص في تاريخهم. واثر هذا الكشف قام الفاتيكان بمصادرة تلك المخطوطات المزورة وحظر تداولها.

من جانب آخر، ان قيام بيروسس بتدوين مؤلفاته الاصلية باللغة الاغريقية، وجعلها بالتالي موجهة الى قارئ يوناني، يوحي، مع مؤشرات أخرى، بان بيروسُس قد يكون هاجر من بابل الى بلاد اليونان خلال الفترة الهلينستية ما يطرح ضرورة الكشف عن طبيعة وابعاد صلته بالثقافة اليونانية لا سيما وان استفادته الممكنة من أساليب الفلسفة اليونانية الكلاسيكية تدل على انه عرف الاخيرة في مراكز ازدهارها وعن كثب، فيما يفرض تزامن حقبتي السيطرة السلوقية على بلاد الرافدين والبطلمية على مصر ضرورة المقارنة بين منهجي هذا المؤرخ البابلي ونظيره المصري مانيتو الذي، ًهو أيضا، كتب باللغة اليونانية مؤلفا تاريخيا موسوعيا، ومن ثلاثة أجزاء، عن عهود دول وملوك مصر القديمة بعنوان “تاريخ مصر” (Aegyptiaca)، معتمدا على النصوص المصرية الاصلية القديمة ومستفيدا من أساليب الفلسفة اليونانية كذلك.

وبداهة، لا يمكن تكوين فكرة وافية وموضوعية حقّاً عن هذا المؤرخ وعن مدرسته الخاصة وآثاره وتأثيراته الكبيرة في تطور كتابة التاريخ، وكذلك عما يقدمه من تصورات ومعلومات قيمة، ومجهولة الى حد كبير، عن تاريخ العالم القديم بمراحله وامبراطورياته الرئيسية لا سيما التي كانت بابل عاصمة لها على مر العصور، دون فهم أسباب تلك النهاية الرهيبة المدهشة والرهيبة لأشهر حواضر العالم القديم لألاف السنين واعظمها حضارة، بابل، التي وصفها العهد القديم” بانها “كَأْسُ ذَهَبٍ بِيَدِ الرَّبِّ.. تُسْكِرُ كُلَّ الأَرْضِ” كما جاء في “سفر ارميا (51/7)

ومن هنا وقفاتنا التأملية النقدية ولو العاجلة امام نكبة بابل سواء تلك التي اقترنت بالاحتلال الإخميني في 539 ق.م، او نكبات بلاد الرافدين التي سبقتها وكان الصراع القاسي على السلطة بين اقوامها انفسهم سببا اوحدا لها، دون اغفال كشف ظروف ما يعرف بـ”السبي” البابلي لليهود بين الحقيقة التاريخية و”الخيال الأيديولوجي” اذا جاز القول والمستمر الى الآن، وهناك وقفة عابرة امام العلاقة بين الاسكندر المقدوني وبابل، وأخرى امام سلوقيا كمحاولة للتوحيد بين أثينا وبابل، أي بين الغرب والشرق، مع خاتمة حول امبراطوريات بلاد بابل واقدارها.

وأخيرا بدا من الصعب اغفال الحقائق الأخرى في تجربة المؤرخ الرائد بيروسس الذي اقدم، وقبل نحو 2500 عام، على ركوب البحار والمفازات والاخطار باتجاه المجهول مع نخبة من ألمع علماء ومفكري بابل والبشرية، في اعقاب تعرض وطنهم العراق، المعروف آنذاك باسمه الآرامي “ما بين النهرين” وبالإغريقية “ميزوپوتاميا”، الى احتلالين اجنبيين مدمرين متعاقبين هما الاحتلال الفارسي الإخميني في 539 ق.م، ثم الاحتلال الاغريقي المقدوني في 323 ق.م. طمعاً بكنوزها العظيمة لا سيما الفكرية والعلمية، ولكسر ريادتها الحضارية والسياسية للعالم آنذاك، تلك الريادة الرافدينية السباقة عالميا التي ادهشت منجزاتها البشرية وتدهشها الآن اكثر فأكثر مع تزايد المكتشفات الاثرية، وتعمق الدراسات المسمارية، وغلبة النزعة العلمية العابرة للانتماءات الدينية والعرقية والجغرافية.

لقد بلغت الحضارة العراقية القديمة ذروة مجدها العالمي خلال حقبتين رئيسيتين قبل انحسارها التراجيدي مع بزوغ العصر الميلادي، تكاد الحقبة الأولى ان تتماهى مع فترة الإمبراطورية الاشورية الحديثة ورمزها الأهم ربما الملك آشور بانيبال (685-627 ق.م)، مثقف الملوك والاباطرة، ومؤسس أول مكتبة منظمة في العالم وضمت نحو واحد وثلاثين ألف لوح طيني كتبت عليها نصوص ومدونات دينية او قانونية او فلكية علمية او تجارية او أدبية كما احتوت على عدة ملاحم أدبية-فكرية هي الاقدم في التاريخ من بينها “جلجامش”، و”الاينوماايليش”، و”اتراهاسيس”، فضلا عن التشريعات والاوامر الملكية والمراسلات الخارجية و”معاهدة أسرحدّون”، وملحمة الرجل الفقير من نيبور، وقصة آدابا، ونقش حزقيا وغيرها، وكلها نجد أصداء لها في كتابات بيروسُس.

اما الثانية فهي حقبة الامبراطورية البابلية الكلدانية الحديثة، التي بلغت اوج عظمتها خلال حكم الملك نبوخذ نصر الثاني (634 – 562 ق.م.) الذي عدّ من اعظم الزعماء الفاتحين والبناة على مر التاريخ العالمي الى جانب الإسكندر المقدوني ويوليوس قيصر ورمسيس الثاني وسواهم كما عبرت عن ذلك لوحة “الفاتحون” “Les Conquerants” للرسام الفرنسي الشهير بيار فريتيل Pierre Fritel المرسومة في 1892.

وتجسدت عظمة امبراطورية نبوخذنصر بتلك النخبة من المفكرين والعلماء العراقيين الذين يقف في صدارتها المؤرخ البابلي بيروسُس، مع عدد من معاصريه واشهرهم ممن هاجر الى اليونان ديوجين البابلي، وسلوقس الكلداني، وكيدينو نابو ريمانو، وسودينيا وغيرهم يضاف اليهم، لاحقاً، اللاهوتي المسيحي الكبير تاتيانوس الاشوري Tatian the Assyrian (120-180م) المولود في نينوى والمتوفي في اربيل في العراق، والذي اشتهر في العالم المسيحي المبكر بمؤلفه “الدياتسارون” Diatessaron (الإنجيل الرباعي) وهو محاولة لدمج الأناجيل المسيحية الاربعة في إنجيل واحد.

فديوجين البابلي، مثلا، وينعت ايضاً بديوجين السلوقي، نسبة الى مسقط رأسه مدينة سلوقيا قرب بغداد، ولد حوالي عام 240 ق. م. ودرس في سلوقيا وفي بابل وبورسيبا قبل ان يهاجر الى بلاد اليونان حيث برز فيلسوفا رواقيا ودبلوماسيا لامعا قبل وفاته في عام 150 ق.م عن عمر ناهز المئة عام.

والسلوقيون الذين عاصر بيروسُس ولادة دولتهم في العراق في عام 312 ق.م، اتخذوا من بابل عاصمة لهم في البداية ثم انتقلوا الى سلوقيا التي اقاموها على نهر دجلة (شمال بغداد) عاصمة جديدة ابتداء من 305 ق.م، قبل ان تحل أنطاكية بدلا منها بعد وفاة مؤسسها الذي تحمل اسمه سلوقس الأول، أحد كبار قادة جيش الاسكندر المقدوني في القضاء على الإمبراطورية الاخمينية وتحرير بابل من قبضتها في 331 ق.م.

وكان ديوجين ويعني اسمه “صنع الله” وهو اسم اغريقي مركب من كلمتي “Dio” وتعني الله، و “Gen” وتعني التكوين او الخلق، يلقب من مؤرخي الفلسفة اليونانيين بـ”مصباح الحكمة” نظرا الى المستوى العقلي الرفيع الذي تميز به ولمكانته على رأس المدرسة الفلسفية الرواقية في اثينا. وقد كلف بعدد من مهمات حل النزاعات في اليونان واشتهر بالحكمة والخطابة والذهن الوقاد كما افتتح في اثينا مدرسة لتدريس الفلسفة والخطابة للمثقفين اليونانيين والرومان وقد برز عدد منهم لاحقا واحتلوا مناصب عليا، فيما أرسل هو سفيرا لأثينا في روما.

ولديوجين آراء معروفة حول الموسيقى تؤكد ان الاستماع إلى الموسيقى لا يساعد في تهدئة المشاعر فقط بل تسمح بإنتاج الانسجام والتوازن الروحي اذ يعتقد أنه مثلما يمكن للنظام الغذائي وممارسة الرياضة أن ينتجا الصحة الجسدية، يمكن للموسيقى أن تنتج الصحة العقلية بل ويمكن أن تعالج الأمراض النفسية ايضا، لان الموسيقى تدفع المرء بشكل طبيعي نحو العمل. ويستخدم ديوجين مثال البوق، أو أي آلة عسكرية مماثلة، اذ يمكنها أن تحرك الجندي إلى الشجاعة. وبالتالي فإن الموسيقى هي فن يؤدي إلى الفضيلة (Delattre, Daniel, Vergil and Music, in Diogenes of Babylon and Philodemus”, in Armstrong, David; Fish, Jeffrey; Johnston, Patricia A. et al., Vergil, Philodemus, and the Augustans, University of Texas Press).

ولئن اهتم ديوجين البابلي، بنقل الكثير من المفاهيم البابلية، في الفلسفة والمنطق والفلك والرياضيات والموسيقى والقانون والدبلوماسية، الى الثقافة اليونانية الهلنستية وكان اول من دافع عن مبدأ الملكية الخاصة فيها، واول من استخدم دليل وجود نظام للوجود لاثبات وجود الله، فان بيروسُس اهتم بتطوير منهج جديد في كتابة التاريخ. كما كشف لنا بالنتيجة ان أعظم الامبراطوريات في العالم القديم مهددة بالانهيار الحتمي مهما كانت نجاحاتها الحضارية والعسكرية، وذلك بسبب تناقضاتها الداخلية التي تنشأ دون علم منها وتتفاقم الى حد جعلها عاجزة عن مواجهة قدر انهيارها الحتمي المباغت وغير المتوقع والمثير. كما كشفت ان تفاقم الاخطاء والتناقضات مصدره غالبا الايغال في الحرب والعنف الذي يؤدي الى اشتداد الاعتداد بالقوة والغرور والطغيان لدى ملوكها على حساب شعوبهم وشعوب الاقاليم المحتلة او الخاضعة لهم.

وهذا ما حصل بالفعل للامبراطورية الاشورية بعد وفاة ملكها القوي والطموح والمثقف آشور بانيبال، حيث انهارت، وهي الدولة المهابة بل المرعبة من قبل، امام اتباعها الميديين والكلديين والعرب، لتقوم على انقاضها الإمبراطورية البابلية الحديثة التي عاشت بين منتصفي القرنين السابع والسادس قبل الميلاد واشتهر من ملوكها مؤسسها نبوبلاصر (658– 605 ق.م)، وملكها الخالد نبوخذ نصر الثاني (605 – 562 ق.م)، والتي بلغت بابل في ظلها ذُروة مجدها الحضاري والسياسي والعسكري عالميا، قبل ان تنهار بدورها بسبب تناقضاتها الداخلية امام الفرس الاخمينيين بقيادة كورش التابعين لها من قبل والذين احتلوا بابل في عام 539 ق.م، بدون قتال، بل بخدعة متقنة، لكن الاحتلال الاخميني سيخرج مكللا بالهزيمة بدوره من بابل على يد الاسكندر المقدوني في 331 ق.م، الذي دخل بابل فاتحا لا قاهرا كما تشير المصادر التي وصلتنا حول هذا الموضوع بما فيها ما رواه عنها بيروسُس ومؤرخون آخرون. اذ يذكر مؤرخو دخول الإسكندر الى بابل انه لم يكن في خلده احتلالها لولا فرار الملك الاخميني دارا اليها باتجاه عاصمته سوسة اثر هزيمته في معركة أربيل. ومع ذلك لم يأمر الاسكندر جيشه باقتحامها عندما اقترب من العاصمة الشهيرة بل ترجل وأمر جيشه بالتوقف خارج أسوارها احتراما لمجدها العظيم. فما كان من البابليين، كما كتب مرافقه فلافيوس، الا الخروج للقائه، يتقدمهم الكهنة والولاة، حاملين له مفاتيح المدينة والهدايا والكنوز. وهكذا دخل الاسكنر الى بابل في اجواء حفاوة قابلها بإصدار أمر بإعادة بناء معابد بابل وبورسيبا التي دمرها قبلئذ الاخمينيون. (للمزيد انظر: Arrien, Expéditions d’Alexandre. Essai sur la tactique des Grecs, Livre 3, publ. par MM. Ch. Liskenne et Sauvan Anselin, 1835)

فهذا الملك المقدوني الحالم، تحت تأثير فلسفة استاذه آرسطو ربما، بتوحيد الشرق والغرب تحت صهوة جواده، والمفتون بفكرة ربط بطولاته الملحمية بمجد بابل وابطالها الاسطوريين عندما قرر ان يجعل منها عاصمة لإمبراطوريته الكونية، سرعان ما فارق الحياة في بابل نفسها وعلى الأرجح مسموماً من جنرالات جيشه المقربين المرتعبين خوفا من إصراره على نقل عاصمة إمبراطوريته الى بابل، كخطوة عملية أولى لتحقيق حلمه المعلن بتوحيد الغرب الشرق الى الابد (مارغريت روثن، تاريخ بابل، ترجمة: زينة عازار وميشال ابي فاضل، بيروت، 1975، ص 173 ). وعلى العموم لا سند تاريخي في رأينا لمزاعم بعض الكتاب بان اغتيال الاسكندر المقدوني من قبل كبار مساعديه كان لادعائه الالوهية واصداره امرا لضباطه وحكام الاقاليم اليونانية في عام 324 ق.م، يطلب منهم فيه الاعتراف به ابناً للإله الاغريقي زيوس.

وهكذا، وبانتصار العنف على الفلسفة دائما، ظل الشرق شرقا والغرب غربا ولا يتحدان. اما بابل بعد موت الاسكندر، فقد مكثت تقارع الايام كمركز حضاري لامع في العالم القديم، قبل ان تنزع الأيام عنها تلك المكانة التي، ومعها مكانة الشرق في العالم القديم، سرعان ما انحسرت تدريجيا لتختفي نهائيا على يد خلفاء الاسكندر بدءا من نقل العاصمة من بابل الى سلوقيا قرب بغداد، ثم من سلوقيا الى انطاكية على البحر المتوسط، ثم الى الغرب من جديد عند السقوط النهائي لدولتهم السلوقية التي استمرت من 312 ق.م الى 139 ق.م في العراق والى 64 ق.م في سوريا.

*

https://www.facebook.com/photo?fbid=9186382838080511&set=a.199806096738275

*

https://www.facebook.com/photo/?fbid=6969195666440567&set=a.862106747149520

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *