من لا يثق بالفلسفة، فلا ثقة بعلمه.

د. حسين الهنداوي.

يحل يوم الخميس القادم الموافق 17 تشرين الثاني/نوفمبر (اليوم العالمي للفلسفة، والذي قررت منظمة اليونسكو الاحتفاء به سنويا (في كل ثالث يوم خميس من هذا الشهر) بدءا من عام 2002، لتأكيد القيمة السامية والدائمة للفلسفة في تطور الفكر البشري، ولكل ثقافة وكل فرد، باعتبار الفلسفة تمكننا من إعطاء معنى للحياة والعمل في السياق الإنساني العالمي. وفي عالمنا المعاصر تحث الفلسفة على اعلاء العقل وجعله المعيار الرئيسي في بناء مجتمعات انسانية تسودها مفاهيم الحرية والمساواة والعدالة والتنمية المستدامة للجميع دون تمييز وتزدهر فيها القدرات الإبداعية الخلاقة لدى الافراد والجماعات. وتحث اليونسكو على تنظيم كل اشكال الأنشطة والفعاليات الممكنة بما فيها البسيطة والرمزية للاحتفاء باليوم العالمي للفلسفة وتوظيف كافة وسائل الإعلام لإبرازها باعتبارها بوصلة العقل العام والمفتاح اللازم للتقدم والسلام العالمي وللقضاء على الجهل وأسباب الحروب.

والفلسفة تكون واضحة او لا تكون في نظرنا. ونحن نرى أن الفلسفة ليست نخبوية مهما اتهمت بذلك، كما انها في تضاد تام مع التعبيرات الطلاسمية، لان مهمتها الأساسية التي تميزها عن مجالات المعرفة الاخرى، هي الفهم الواضح والدقيق للوجود (واللاوجود)، ويتمثل في بلورة وابداع واختراع المفاهيم العلمية الدقيقة في كل شأن يخص العقل البشري ببعده الكوني والواقعي في آن واحد. وهو فهم نشدد على اهميته في استنتاجنا بان من لا يثق بالفلسفة “فلا ثقة بعلمه” كما قال ابن سينا.

وفي هذه المناسبة نتقدم باحر تحية لكافة العاملين في جامعاتنا ومؤسساتنا الثقافية من اجل اعلاء الفلسفة، واصرارهم على العطاء والابداع فيها رغم كل الصعوبات الكبيرة. اذ لدينا اليوم في العراق والعالم العربي عدد كبير من المفكرين والأكاديميين المتخصصين بالفلسفة، ولدينا كتابات فلسفية متزايدة، كميّاً ونوعياً، وحتى تيارات فلسفية رغم محدودية تبلورها ونفوذها وضعف ثقتها بنفسها واخفاقها في ان تتحول الى مدارس متمايزة، ورغم ضعف الحوار، او انعدامه، بين المشتغلين بالفلسفة لدينا. وإذ نؤكد على فكرة ان العراق هو مهد الفلسفة الأول فان هذا الاستنتاج لا ينبع من تعصب وطني كما توهم البعض انما من حقائق تاريخية رصينة. فلقد اشرنا في كتابنا “الفلسفة البابلية” الى ان البحث الدقيق والمقارن، قادنا الى الاستنتاج الواثق ان معنى “فيلو سوفيا” (φιλοσοφία) في اللغة الاغريقية ذاته، اي “حب الحكمة”، بابلي الاصل كمصطلح وكمضمون، وهو يعني تكوين فكرة عقلانية شاملة عن الوجودين الالهي والإنساني. ويدعم استناجنا هذا، ان افلاطون نفسه لاحظ في محاورة “كراتيلوس” (Kratylos)، ان كلمة سوفيا [σοφία]، ليست اغريقية الاصل بتاتاً بل هي غامضة جداً في أصل إشتقاقها اللغوي، وتوقع انها قد تكون وفدت إلى بلاد اليونان من ثقافة أجنبية مجاورة، ويقصد البابلية بشكل خاص كما نرى، لعلمه الأكيد بأن الجزر اليونانية كانت قد ارتبطت في عصره بعلاقات مباشرة وواسعة مع منجزات الحضارة البابلية الفكرية والعلمية، وذلك خلال نحو قرن من الاحتلال الاخميني لجزر اليونان الشرقية بين عامي 547 و449 ق.م. وقد لاحظ افلاطون نفسه أن اليونانيين، “وخصوصاً الذين كانوا تحت سيطرة البرابرة، استعاروا الألفاظ منهم غالباً”، معترفاً هكذا مبكراً وبصراحة نادرة، بأن نشوء الفلسفة في جزر اليونان الشرقية اللصيقة بآسيا الصغرى، كان بتأثير من الأفكار والفلسفات الواردة او المستلهمة من حضارات بلاد النهرين الأقدم.

من جانبه، يخبرنا المؤرخ الاغريقي الشهير ديوجينيس اللائرتي (في كتابه الشهير “مختصر ترجمة مشاهير قدماء الفلاسفة”)، ان أول من اخترع مصطلح “فيلو سوفيا”، في الثقافة الاغريقية في حوالي العام 510 قبل الميلاد، لم يكن الا فيثاغورس نفسه (570 – 495) ناقل النظريات البابلية في الهندسة والرياضيات والفلك الى بلاده، والقادم للتو الى مسقط رأسه ساموس، من اقامة ودراسة استمرت نحو اثني عشر عاما (بين 525 و513 ق.م) في بابل، تلك الحاضرة التي كانت تقدّس “إله الحكمة” أيا، وتمجد “حب الحكمة”، وتزخر بـ”الحكماء” كما يخبرنا “العهد القديم” في سفر دانيال الاصحاح الثاني، 2 و 4.

وإذ فقدت الفلسفة البابلية حيويتها بانحطاط دولتها في القرن الخامس قبل الميلاد، أدى ازدهار الدولة العباسية خلال عهدي هارون الرشيد وخاصة المأمون الى ازدهار بغداد كعاصمة العالم في العلوم والآداب والفلسفة وازدهرت حركة الترجمة في بيت الحكمة ببغداد، ونشط العلماء والمفكرون في صنع نهضة حضارية كونية يندر مثيلها في التاريخ برز فيها علماء وفلاسفة كبار ما اكسب العراق مكانة رفيعة واحترام عالمي بفضلهم خاصة وليس بفضل القوة العسكرية واتساع الفتوحات.

لقد وجدت الفلسفة بيئة مثالية في دولة الرشيد والمأمون. فظهور تلك الدولة القوية والمنفتحة على التقدم كان الشرط المسبق لذلك الازدهار العظيم الذي عرفته الفلسفة في العالم الاسلامي في وقت كان العالم بأكمله غارقا في ظلام القرون الوسطى.

هذا العراق الذي ابتكر الكتابة والفلسفة واخترع العجلة والتقويم الشمسي، ووضع الشرائع الكبرى في عهود دوله السومرية والبابلية والآشورية، والذي انجب او احتضن فلاسفة كبار كجابر بن حيان والكندي والفارابي وابن سينا والغزالي والعلاف والنظام والعشرات غيرهم جدير بان يعود الى حيويته الفكرية والعلمية في العصر الحديث بالتزامن مع انبثاق الدولة العراقية الحديثة في 1921 وان يكون منارا جديدا لانتصار العقل النقدي والفلسفة.

انتهى.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *