
محمد راسم وضع رسوم ألف ليلة وليلة سنة 1932.
عندما نتحدث عن مدرسة المنمنمات الجزائرية، لا يثير الاعتراف بدور الريادة فيه للفنان التشكيلي الراحل محمد راسم (1896- 1975) أي اعتراض. بل نعتبره الرائد الفعلي للفن التشكيلي الجزائري الحديث بأكمله. ومع ذلك، لم نجد دراسة شاملة عن حياة هذا الفنان ومراحل تطوره الإبداعي الخاص وابعاد تأثيراته الأكيدة على الفنانين الجزئرين الذين لمعوا من بعده في المنمنات كمحمد تمام ومحمد غانم وعلى خوجه وبو طالب محي الدين ومحمد شريفي والقفصي وبو بكر صحراوي ومصطفى اجعوط ومصطفى بلكحله وغيرهم ممن تتلمذ على يده مباشرة او تأثر باعماله.
ولد محمد راسم في 1896 في عائلة فنية. اذ كان والده علي راسم زخرفياً يمتهن النقش التصويري على الخشب والنسيج. وهي حرفة ورثتها العائلة وتدرب محمد راسم عليها منذ صباه، فوجد نفسه على علاقة مبكرة مع فن الزخرفة مظهرا فيه براعة وشغفا سمحا له في 1908 باجتياز القبول في مدرسة محلية للرسم تفتحت فيها مواهبه قبل ان انتقاله الى مدرسة الفنون الجميلة في العاصمة الجزائرية متابعاً دروس الرسم.
لكن الانعطافة الحاسمة في تطوره الفني كانت عام 1914 عندما رأى اعماله الفنان الفرنسي الواقعي ايتان دينيه (نصر الدين دينه فيما بعد ) فاعجب بقدرته على رسم التفاصيل الزخرفية الدقيقة، فشجعه على توظيف التصوير ضمن اسلوبه كما ساعده على العمل لدى ناشر فرنسي كان يبحث عن فنان ينجز له رسوما داخليـة لكتب عـن الحكايات الشرقية. وقد نفذ محمد راسم عدداً من اللوحات المطلوبة مواصلا إنجاز أعمال فنية عززت مكانته في الاوساط الفنية في الجزائر. وفي تلك الاجواء اقام معرضه الاول في 1917 ثم معرضه الثاني في 1919 ليحصل على منحة للدراسة في فرنسا افاد منها في تطوير تقنياته والاطلاع على الروائع الفنية العربية والاسلامية في قرطبة وغرناطة. كما زار معارض تشكيلية عدة في باريس ولندن وشارك في بعض العروض بباريس.

فارس.
تلك التطورات جلبت له الشهرة خارج الجزائر حتى ان آخر السلاطين العثمانيين وجه له دعوة لرسم بورتريه له. ومن بين ما انجزه خلال فترة مكونة في باريس عدد من اللوحات الداخلية لكتاب “الف ليلة وليلة” الذي صدر بالفرنسية في 12 جزءاً عام 1932. واستمرت اقامة راسم الباريسية حتى نهاية 1932 حين عاد الى الجزائر ليجد ان شهرته قد سبقته متيحة له نيل الجائزة الفنية الجزائرية الكبرى، فكان اول فنان جزائري ينالها بعد ان كانت حكراً على الفنانين الفرنسيين خلال 14 سنة متوالية. كما عمل استاذاً للرسم في مدرسة الفنون الجميلة في 1934 ولسنوات طويلة مكنته من المساهمة مباشرة في اعداد الاجيال الجديدة من التشكيليين الجزائريين الى جانب استمراره في انجاز لوحاته الخاصة.
وتكمن اهمية محمد راسم الاستثنائية في الفن التشكيلي الجزائري الحديث بدوره في نقله من التقليد الى المعاصرة. فدون نزع هويته الجزائرية وروحه العربية الاسلامية، عمل راسم على تأصيل الافادة من التقنيات التشكيلية الاوربية دون تقليد موضوعاتها او التبني الخارجي لمفاهيمها. انما عبر توظيفها في موضوعات من الاجواء الثقافية والاجتماعية الجزائرية وعبر تدريبها على التفاعل مع المفاهيم الفنية الشرقية. وهكذا استطاع راسم ان يطور اسلوبا جديدا في المنمنمات يعتمد على مفهومي الفن الاسلامي والفن الاوربي معا آخذا عن الاول تأكيد البعد الداخلي والرمزية الروحية كما نجدها لدى الفنان بهزاد خاصةً، وعن الثاني البعد البصري والفضائي للوحة. وعبر خلق الفة عميقة بين المبدأين حقق راسم نوعاً من القطيعة العميقة مع الاسلوبين الاسلامي القديم والاوربي الحديث دفعة واحدة كما نجح في تحرير اصالته الفنية من المفاهيم والمضامين التقليدية وايضا من اغراء جماليات المدارس الفرنسية والغربية. وهكذا استطاع ان يساهم عبر اعماله في طرح واثراء الهوية الوطنية للفن الجزائري في لحظة كانت مهددة امام الاجتياح الشامل والمنظم للثقافة الفرنسية والهادف الى تجريدها الكامل من خصوصياتها وامتداداتها التاريخية. لكن من غير المرجح ان ارادة سياسية او نضالية وقفت وراء تلك المساهمة كما يحب القول بتعسف اكثر النقاد الجزائريين اليوم شأنهم شأن من يرجع الفضل في نجاح راسم الى الدور “الايقاضي” للفن الفرنسي كما يروج النقاد المأخوذون بالتفوق الغربي. ففن راسم يظل في رأينا نتاج تطور طبيعي لمرحلة كاملة من عمر الثقافة الجزائرية تمتد من احتلال الجزائر في 1830 الى استقلالها في 1962. فالاسلوب الفني الخاص براسم لم يأخذ ملامحه النهائية الا بعد مسار طويل ومعقد من النقلات كما تعكس ذلك اعماله المهمة ذاتها. ففي النقلة الاولى التي تمتد حتى مغادرته الجزائر الى الاندلس وفرنسا نجد طغيان تأثير المنمنمات الفارسية والمغولية كما في كافة لوحات معرضه الاول في الجزائر. وفي النقلة الثانية تطغى الاجواء الاندلسية على اهم اعماله كـ(الراقصة) في 1922، و(حسني باشا) في 1923، و(امجاد خليفة غرناطة) في 1924، و(رقصة السيف) في 1926، و(اسطول بارباروس) في 1926 .

معركة بحرية.
اما النقلة الثالثة فظاهرة في معظم اعماله التي نفذها اثناء اقامته في باريس ونستطيع ان نتلمس بسهولة تأثير المدارس الفنية الاوروبية خصوصاً الانطباعية كما في لوحة (تجميل العروس) في 1932. كما ان اتقانه الاسلوب الاكاديمي الواقعي ظهر في عدد كبير من الصور الشخصية التي نفذها خلال تلك الفترة وبعدها كما في صورة (العميد هاردي) في 1935 التي تضاهي بتقنيتها العالية واناقة ودقة التفاصيل اعمال كبار الفنانين الاوروبيين الانطباعيين. اما المرحلة الاخيرة التي تبدأ منذ عودته النهائية الى الجزائر فتتميز بالنضج الكامل لاسلوبيته المستقلة كما تعكسها لوحاته العديدة مثل (صبحية الزفاف) في 1937 .
صبيحة الزفاف.

وفي موازاة هذه الاستقلالية والنضج الاسلوبيين ركز راسم على الموضوعات الشعبية الجزائرية وحياة القصبة بالذات التي كرس لها العديد من لوحاته .
ابتداء من 1937 اتجه محمد راسم الى الاقتصار على المنمنمات بعد ان ادرك مكانته ومسؤليته الخاصة في اثراء هذا الفن العربي والاسلامي الاصيل. هذا التوجه والادراك، اضافة الى الاصرار على تأكيد استقلاليته الابداعية في وجه ضغوط واغراءات الاساليب الفنية الاوروبية التي صار يتقنها جعلت من هذا الفنان التشكيلي الجزائري الكبير بحق ثالث اكبر رواد الحركة التشكيلية المعاصرة في العالم العربي اسوة بمحمود مختار وجواد سليم.