
د. حسين الهنداوي
نص مقالتنا المنشورة تحت عنوان (الشر وخفايا الديالكتيك الهيغلي) في مجلة “قضايا إسلامية معاصرة التي يرأس تحريرها الدكتور عبد الجبار الرفاعي، والصادرة عن مركز دراسات فلسفة الدين”، ضمن القسم الأول من عددها الخاص -72-73 الصادر في ربيع 2021 والمكرس لمحور “مشكلة الشر” في الفكر الفلسفي.
ما هو عبقري وحي وراهن دائماً في فلسفة الفيلسوف الألماني، جورج فلهلم فردريش هيغل (1770-1831) ليس في نظرنا سوى الديالكتيك الذي ليس بدوره سوى الاستمرار السرمدي للصيرورة، أي للصراع الخالق للتجدد ، وللنفي الخالق لنفي النفي
من جديد، وللموت المنجب للحياة وللحياة الأفضل دائما كضرورات كونية بذاتها.
هذا المنظور المطروح كمنهج لديه يعبر عن نفسه بشكل خلاق وفي مجالات كثيرة. الا أنه يكون في حالته الأكثر أهمية واصالة وتعقيدا أيضا عندما يتعلق بالتاريخ الإنساني الفعلي المحكوم بالتشكل من تصورات وتفسيرات واحكام متناقضة وغير محسومة بالضرورة، والمفعم بالتجاذب والحيوية لا سيما اذا اعتبرناه واحدا وعقلانياً وراهناً.
نفي النفي:
ويميز هيغل في منطقه الخاص بالتاريخ بين ثلاث لحظات او كينونات عقلانية متعاقبة، ولكل منها أداة ومضمون وعيها الخاص بها، وهي أولا الكينونة القبلية
الوجود بذاتها ولذاتها وكذلك تحديداتها، وهي لحظة متناهية (وجود، حالة) لكنها
مجردة كمضمون ومدركة بالحدس او الادراك الحسي كوعي ناقص. ثم الكينونة الديالكتيكية بتحديداتها الخاصة والمنبثقة من تلك الكينونة القبلية لكن كضدها أي كمحققة لنفيها الذاتي وانتقالها الى وفي نقيضها، والمعتمدة على الادراك التجريدي كوعي، فيما تبدو اللحظة الثالثة كالمحصلة الإيجابية التي تنظم وحدة التحديدات المتضادة، وتحيط بالإيجابي المتضمن في حلها والمحقق إنتقالها الى وفي (وجود
جديد) وحيث المفهوم الفلسفي) هو أداة الوعي فيها بمستوياته المختلفة.
بلا ريب أن هيغل يؤكد ان هذا التفريق بين ثلاث لحظات او كينونات عقلانية، ينبغي أن يؤخذ مجازا ومؤقتا وحسب، وان يقتصر على اختصاص كل منها، نظرا الى ان الامر يتعلق بما هو متحد في ذاته ومتماثل في السيرورة الكلية التطورية للعقل. لكن هذا الإقرار لا ينفي حقيقة ان بعداً هرمياً يتمخض بالضرورة عن هذا التقسيم الافتراضي خالقا تراتبية تفوقية وظيفية وبالتالي أخلاقية ضمنا حتى للوعي، مهما كان مستوى
التجريد عالياً والسيرورة المجردة لهذا الديالكتيك، نجدها قد شرحت بشكل مطول كتابه (فينومينولوجيا الروح)، حيث قام هيغل بتحديد ماهية الوعي في مختلف لحظاته المتعاقبة.
وهكذا، فعلى ضوء هذه المنهج، الذي يطبقه هيغل على تطور الأديان والنظم السياسية وأنماط الدول والنظم الجمالية والفنية والفلسفية، تبدو اللحظة الثانية، لحظة النفي، سلبية بالضرورة للوهلة الأولى وبالتالي هي من يحمل مضمونا “شريرا” نظرا الى انها تبدو كتدمير جذري . الا ان الامر ليس على هذه الدرجة من البساطة والحسم. فهذا الفعل السلبي ظاهريا (التدمير) يحمل في ذاته نقيضه هو أيضا ما يسمح بالحديث عن إيجابية الشر تالياً.
بكلمة أخرى، وبموجب الديالكتيك الهيغلي القائم على اقرار مطلق بـ “حتمية” التناقض، يصبح “النفي” أو “النقض” بمثابة المعادل المفهومي لما كان يسمى “الشر” في الفكر السابق عليه، والذي يبدو عندئذ كثاني قوانين الديالكتيك الثلاثة أحيانا (وحدة
الاضداد، نفي النفي وحدة جديدة (للأضداد التي تعمل معا في عملية يفضي فيها (التراكم الكمي) الى تغير نوعي آخذةً احياناً اشكالا معقدة للتقدم يستخدمها العقل المطلق كإحدى الوسائط والادوات لتحقيق تجلياته في العالم الملموس وبالتالي في تحقيق غاياته على مسرح التاريخ الكوني ودائما عبر الانسان.
وهذا الاستخدام ومهما كانت النتائج التدميرية المترتبة عليه، لا يعني ان هيغل يبرر المكر او الخداع كقيمة أخلاقية، بل هو يتعامل معه بوصفه فعلا حيويا في تقدم التاريخ وفي فهم مستوى هذا التقدم. وبالفعل فان هيغل ينطلق من الفكرة القائلة بان الروح المطلق تترك نفسها ان تعرف عبر نقيضها، أي عبر ما هو مادي او طبيعي، كما يتجلى هذا النقيض في الديناميكية الديالكتيكية لمسار التاريخ الكوني التي تكشف على مستوى الطبيعة مثلا ان مبدأ السهول يمثل نقضيا لمبدأ الأراضي المرتفعة (الجبال والصحارى فيما البحر هو نقيض للسهول.
على مستوى الوعي الفني بالمقابل فان مبدأ الفن الكلاسيكي يبدو نفيا لمبدأ الفن الرمزي فيما يكون نفي المبدأ الكلاسيكي بمبدأ الفن الرومانتيكي.
وكذلك الحال على مستوى الاديان اذ هناك من جهة هرمية خارجية يضع فيها هيغل مبدأ الوحدانية الإلهية المجردة المقترن بالدولة الاستبدادية الذي يطلق حركة الوعي نحو الكونية، والذي ينسبه للروح الشرقية، كنفي مطلق لمبدأ ديانة الطبيعة وبالتالي للروح الافريقية المتسمرة في حالة (دولة) الطبيعة في نظره، فيما يضع ديانة المطلق المقترنة بدولة الحرية الذاتية كنفي لمبدأ ديانة الوحدانية الشرقية، تقابلها هرمية داخلية صريحة يبدو مبدأ الروحانية الإسلامية فيها وحدانية الله كروح مجردة نفيا لمبدأ المسيحية الكاثوليكية وبالتالي اعلى من الأخيرة في فكرتها عن الله (وحدة الله والانسان تجسيما فيما تبدو المسيحية اللوثرية وحدة الله والانسان كعقل) نفيا للمبدأ الإسلامي اعلاه وبالتالي اعلى مضمونا منه بخصوص حقيقة العلاقة بين الله والانسان.
وذات التحليل يصح بالنسبة لموضوع نمط الدولة ووعي الحرية المترتب عنه. فالهيمنة المطلقة للإرادة الطبيعية العشوائية التي تتماهى مع الفردانية الافريقية تنقلب في نظر هيغل، الى النفي المطلق لكل حرية في الدولة الاستبدادية المنبثقة عن مبدأ الروح الشرقية، ما يجعلها تنتقل مباشرة الى القطب الآخر، أي الى النفي المطلق لكل فردانية ذاتية وحرة، ولذلك ترزح الروح الشرقية تحت الضغط المباشر لموضوعها الى درجة تمنع الانسان من الخلاص من أعباء استبداد “المطلق” والتحرر من كابوسه الجاثم عليه، وتأكيد ذاته ضمن حريته الذاتية”. وهكذا فمبدأ الدولة في الشرق ينفيه مبدأ الدولة الاغريقية الذي ينفيه بدوره مبدأ الدولة الجرمانية كما نستنتجه من قول هيغل: “الشرقيون” لا يعرفون ان الروح أو الانسان حر بصفته هذه. ولأنهم لا يعرفون ذلك فهم ليسوا أحراراً . انهم يعرفون فقط ان حراً واحداً هناك، وهذا الحر الواحد ليس سوى المستبد”. الاغريق والرومان يعرفون فقط ان بعض الناس احرار، وليس الانسان باعتباره انساناً واخيرا ان الجرمانيين هم اول من توصل الى ادراك ان الانسان حر باعتباره انسانا، وان الروح طبيعته الخاصة فعلياً .
وحدة الموت والحياة
وهكذا، فعبر “وحدة الاضداد” و “نفي النفي” يضع هيغل قانوناً خاصاً من قوانين الصيرورة التاريخية، كما تراها فلسفته. فالإرادة الإلهية، بالتغيير أو التدمير احيانا، القوة الكونية العاقلة الواعية التي تخلق سبب التغيير وفعله موضوعياً. وبهذا المعنى تحديداً ينبغي تفسير موت وولادة الدول والأمم في فلسفته كما في قوله من الموت تولد حياة جديدة 2 متأثرًا بشكل مباشر على الأرجح بفكرة فلسفية كبرى وشهيرة مستلهمة بشكل او آخر من القرآن الكريم، وهي فكرة أساسية في العقيدة الدينية الإسلامية، عبرت عنها الآية 27 من سورة آل عمران ونصها يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي.
ويعزز هذه الفرضية كون هيغل يؤكد ، بشكل واضح، في مقدمته حول «فلسفة التاريخ»، أن فكرته من الموت تولد حياة جديدة، هي في الأصل من إبداع الشرقيين، و«لعلها الفكرة الأعظم لديهم، والفكرة الأسمى في تصوراتهم الميتافيزيقية». غير أن هيغل يخطئ في اعتقاده أن مضمون هذه الفكرة، يتعلق هنا، بحياة الجسد أكثر منه بحياة الروح. وبالطبع، يظل من الممكن جداً أن يكون مصدره معرفة مباشرة أو غير مباشرة بالنص القرآني المذكور عينه كما نفترض، فهيغل يذكر القرآن الكريم مراراً في كتاباته، وربما كان قد اطلع على إحدى ترجماته الأوربية العديدة .
مكر العقل
بيد أن هناك مفهوماً آخر ذا أهمية استثنائية كبرى في المنهج الديالكتيكي الهيغلي، يتعلق بتفسير الصيرورة التاريخية خاصة يوحي بأصول قرآنية له هو أيضاً ونقصد به مفهوم «مكر العقل». أما مضمونه لديه، فهو باختصار شديد كما يلي:
يقر هيغل بوجود ديالكتيك تلقائي هو الذي ينتج التوافق العميق بين الحرية الفردية والضرورة الكونية، انه ما يسميه بـ”مكر العقل” وهو مكر يقود الانسان ودون ان يدري الى خوض معركة العقل المطلق بدلا منه، في الوقت نفسه الذي يخوض فيه معركته من اجل تحقيق اهدافه المحددة. وبالفعل اذا كان الانسان يخرج مظفرا او منتصرا في هذه المعركة، فان ظفره او انتصاره ليس الا انتصارا مؤقتاً محدوداً، على الاقل بسبب استهلاكه هو ايضا في المعركة.
وفكرة «مكر العقل» هذه، يشير إليها هيغل، بشكل خاص في مدخل دروسه حول «فلسفة التاريخ»، الا أننا نجدها، في «موسوعة العلوم الفلسفية» كما يلي:
“إن العقل ماكر كما هو قوي. ويتمثل المكر بشكل عام في النشاط التوسطي الذي، وعبر تركه الموضوعات منسجمة مع طبيعتها الخاصة، يثير بعضها على بعض، ويستهلك البعض في صراعه مع البعض الآخر، دون تدخله المباشر في هذه السيرورة، على الرغم من أنه لا يقوم بذلك الا من أجل إنجاز هدفه. ونستطيع القول بهذا المعنى، أن العناية الإلهية تتصرف حيال العالم، كما لو كانت مكراً مطلقاً. فالله يترك البشر يندفعون في نشاط يحقق رغباتهم ومصالحهم الخاصة، الا أنه ينتج من هذا الاندفاع تحقيق غايات أخرى غير تلك التي جرى الاستعداد، بالأصل، لتحقيقها من قبل أولئك الذين يتم استخدامهم هنا».
من الواضح، إذن، أن مضمون مبدأ «مكر العقل»، عند هيغل، لا يختلف جوهرياً عن ذلك الذي قد نستطيع استنتاجه من الآية القرأنية المعروفة ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين». ومما يعزز لدينا ذلك، هو أن هذه الفرضية، تجد ما يبررها في النموذج التطبيقي، الذي يضربه القرآن لذلك، في القول: «وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميراً».
بهذا المعنى أيضاً يستعمله هيغل في المثال التوضيحي الذي يقدمه، والذي لا يكاد يختلف، في الواقع، عن المثال القرآني اعلاه. يقول هيغل:
لنتصور مثلاً أن يقوم رجل بوضع النار في بيت لآخر انتقاماً عادلاً ربما، من ظلم لحق به منه. وهذا الفعل المباشر، سيؤدي إلى نتائج أخرى غير تلك التي استهدفها، ولا علاقة لها بفعله المباشر. فبينما كان الهدف الأصلي من ذلك الفعل، لا يتجاوز
4. Hegel, Encyclopédie des sciences, trad. Bourgeois, Paris, Vrin, seconde édition, 1979, P. 614.

إحداث حرق في عمود من ذلك البيت، إذا به يتسبب، دون إرادة الفاعل، بإحراق البيت كله والبيوت المجاورة، وربما بيته هو نفسه وكل بيوت الحي”5. كما قد يكون سبباً في إزهاق أرواح ، لم يفكر قطعاً بالإساءة إليها، تماماً كما أن مترفي القرية، الآية القرآنية، أعلاه، لم يعرفوا أنهم يدمرون أنفسهم باستجابتهم لنزوع الفسق، الذي استسلموا له.
فالانتقام في المثال أعلاه ليس شرا على الاطلاق بل هو فعل نفي في المعادلة الديالكتيكية الكونية لكل الانتاج البشري.
وقد يكون هيغل يتكلم عن مكر للعقل في التاريخ كما تم الكلام في المسيحية عن التدابير الخفية للعناية الإلهية بتسخير رجال العهد القديم وطموحاتهم فوق الأرض لكي يجسدوا مسبقا ودون علم منهم قدوم المسيح ودعوته التي عرف بظاهرة “المسيحانية” التي انتشرت بين اليهود بشكل مثير الى انتظار المسيح قبل قدومه على اساس انه سيجيء لبعث مجد بني إسرائيل على الأرض. بيد أن هيغل “يعلمن هذا التصور للعناية الإلهية، متجاوزا كل رؤية أخلاقية للعالم” كما يرى هيبوليت.
إيجابية الشر
مفهوم “الخير المطلق” عند هيغل يدل على الله ويسميه “روح” العالم”، الذي يقترن لديه بمفهوم وحدة وجود جوهرية متجددة بسرمديتها، تسمو على الاضداد وتشتمل عليها في آن ولئن كان النفي” يتضمن فكرة الشر باعتبارها سلبا، فانه يتضمن فكرة الخير باعتبارها إيجابا أيضا وهما لحظتان متكاملتان في المطلق الذي يسمو عليهما معًا باعتباره خيراً محضاً في تعريفه الأسمى.
5. La Raison dans l’Histoire, P. 111.
6 . جان هيبوليت مكر” العقل والتاريخ عند هيغل”، ترجمة فؤاد بن أحمد، 2016/7/23
وهكذا، فللشر بصفته نفياً ضرورة أو وظيفة ميتافيزيقية أساسية وحاسمة في فلسفة هيغل وفلسفته للتاريخ بوجه خاص. أي انه ليس ظاهرة اجتماعية او أخلاقية او قيمية لديه ولا تعبر تاليا عن ممارسة سلوكية عدوانية أو سواها، وذات علاقة بالطبيعة البشرية الملموسة. بل هو فعل فلسفي او معادل منطقي كوني له حدوده وشروطه الغيبية وحركته اللامرئية الخاصة وأهدافه الفوق بشرية المكلف بتحقيقها في اطار المهمة الديالكتيكية الكونية التي يوكلها له “روح العالم” الذي يقود مسيرة تاريخ العالم الى الامام ودائما الى الامام وقد تدفع الإنسانية له ثمنا غالياً هنا او هناك.
ان ما يميز هذه المسيرة هي انها أساسا ليست الا مسيرة روح العالم نفسه نحو بلوغ الكمال في فهم حقيقته الجوهرية كعقل مطلق يتأمل ذاته بذاته، وفي تحقيق تمظهرها الاسمى في العالم الملموس. ما يعني ان الإنسان الطبيعي، اي الانسان التاريخي الفعلي، وكعقل جزئي، هو الأداة التي يستخدمها الله لتحقيق غايته الكونية بأن يتجلى، ويُدرك، على حقيقته كعقل محض. ومن هنا مصدر مفهومي “إيجابية الشر” و”مكر العقل” ايضا في الفلسفة الهيغلية كما بيناه. فلا دور للإنسان في الوجود الا لتحقيق تجليات العقل المطلق في العالم الملموس. بل ان الانسان لا يوجد إلا لكي يكون وقودا في هذا التحقق الكوني للعقل وعليه لا معنى لدى هيغل للسؤال التالي: هل الإنسان شرير بطبيعته ام خير بطبيعته ؟ او هل هو اقرب الى طبيعة الخير ام طبيعة الشر؟
فهيغل، ورغم استلهامه الواضح للكثير من المفاهيم الغربية والشرقية في هذا المجال كما رأينا، يبدو هنا في قطيعة منهجية مع كل الفكر الفلسفي وحتى الديني السابق عليه بما فيه الاحدث والأكثر نفوذا في الثقافة الاوربية في عصره. فهو لا يربط العقل البشري بنزعة سلوكية محددة كما فعل مكيافيلي الذي غلب نزعة الشر على الخير في البشر لتبرير تسليط الحاكم، وكذلك فعل هوبز بمقولته المرعبة (الإنسان
ذئب لأخيه (الإنسان او كما فعل جان جاك روسو بقوله أن الإنسان يُولد خيرا او طيباً ولكن المجتمع بمؤسساته هو الذي يفسد الافراد ويُبرز كوامن الشر الموجودة
فيهم.
وبالفعل، يتبنى هيغل في موضوع الشر منظورا مختلفا جذريا عن كل الفكر السابق حيث ينقل القضية من حالها كظاهرة سوسيولوجية او أخلاقية مرتبطة بالحالة البشرية، ومن بعدها كحالة لاهوتية مرتبطة بالدين الى طرحها كضرورة فلسفية ذات وظيفة “ميتافيزيقية” في صيرورة التاريخ الكوني وتتمثل في المساهمة في تحقق تجليات العقل المطلق في العالم الملموس.
هذا التغير الجوهري اللافت في المنظور يجد بلا ريب بعض أسبابه او تفسيره الموضوعي في تأثيرات الثورة الفكرية التي عرفتها القارة الاوربية نتيجة لحركات الاصلاح الديني (البروتستانتي) والاجتماعي ولدور فلاسفة التنوير في الإطاحة بمنظومات الفكر اللاهوتية والمدرسية المسيحية الوسيطة ما ساهم في نجاح الثورة الفرنسية وما نتج عنها من جدل واسع افضى الى ترويج القبول بمفاهيم جديدة مثل “الحقوق ” و ”النزعة الانسانية ” و “التطورية” والرومانتيكية…الخ.
وهي مفاهيم عبرت أيضا عن الازدهار السريع والقوي للبرجوازية كقوة اجتماعية صاعدة اثر الثورة الصناعية، ما شرعن الحق بالثورة على القيم والطعم المهيمنة بما فيها الدينية، وبرفض مبدأ “الحق الالهي” في السلطة السياسية وبوضع مضامين المفاهيم اللاهوتية بما فيها مفاهيم الخير والشر موضع النقد وحتى الاقصاء فيما شرعن بالمقابل “حق” التوسع الكوني الكولنيالي والتفوقية العرقية وغيرها من الاطروحات الاستعمارية. بيد ان هيغل لم يشأ ان يتحدث عن التاريخ الكوني بمفاهيم الاجتماع والاقتصاد والسياسة والايديولوجيا انما بلغة الفلسفة كفكر محض حصرا. لأن الفلسفة وحدها، في نظره، من يستطيع ادراك الحقيقة العميقة لماهية الروح. ومن هنا الاهمية الاستثنائية” لـ “فلسفة التاريخ” لديه.
العقل يحكم العالم
بدون التوقف طويلاً امام ما يسميه بـ “فلسفة التاريخ”، نستطيع القول ان التاريخ الذي يقصده هذا الفيلسوف هو التاريخ العام للإنسانية بمعناه المعتاد لدينا اليوم وهو الفترو الزمنية الأرضية الممتدة لنحو سبعة آلاف سنة من الطوفان الى عصرنا الراهن ومن اول شكل للدولة في بلاد النهرين حتى الدولة البرجوازية الليبرالية الحديثة التي مهدت لقيامها الثورة الفرنسية.
وفي نص معروف جداً يتعلق بهذا التاريخ، يؤكد هيغل على ان الفكرة السائدة عموماً حول مفهوم التاريخ البشري هي فكرة وافية، ونتفق معها الى هذا الحد او ذاك. بالمقابل، ورغم تعقيدات واشكالات منهج تأملي صارم التجريد، كان هيغل ثابت اليقين بوحدة النوع البشري وبوحدة تاريخه ايضا . اما المشروع الذي يقترحه لفلسفته فهو الكشف عن “المضمون ذاته” الخاص بذلك التاريخ. وهذا الكشف لا يتم برأيه الا عبر الفلسفة التي عليها ايضا اكتشاف وتحليل شروط امكانية تكوين إدراك عقلاني للأحداث البشرية التي حصلت في الماضي. وهذا الادراك هو “هدف فلسفة التاريخ” على وجه التحديد.
وهكذا، فالاسس المنطقية لفلسفة التاريخ الهيغلية تكمن في الحقيقة المفهومية التالية التي نتلمسها فلسفياً وحسب: العقل يحكم العالم. وبالتالي ان ما تثبته الفلسفة عبر المعرفة التأملية هو ان التاريخ الكوني ينجز عقلانياً، اي ان العقل هو جوهر التاريخ كما انه قوته ومادته اللامتناهية وما يحقق مضمونه الخاص. وهكذا، فالتاريخ الكوني هو السيرورة التي تستعملها الروح او الله، كي، في غضونها، يجعل جوهره ممكن الادراك حسياً في العالم الملموس. لكن ما هي الطريقة التي تتصرف عبرها الروح في التاريخ الكوني لتحقيق هدفها؟

“البشر ينظمون وجودهم عبر متابعة اهدافهم الخاصة. لكن الروح، وعبر كل ما يقومون به تتابع هدفاً كونياً خاصاً بها، وهذا الهدف الكوني حاضر في كل الاهداف الخاصة، وحيوي في استكمال تحققه عبرها لأنه فقط بواسطة النشاط الانساني ينبغي على الكلي الكوني ان يتحقق عبر الجزئي الخاص” 7.
اما ماهية هذا الجوهر، ففي تعريفه التأملي للروح الالهية، يؤكد هيغل مرارا ان هذه الروح ليست ماهية مجردة او غامضة او متوارية، ولا تجريدا للطبيعة الانسانية، هي “واحد احد” كليا ونشيط وحي تماماً، انها وعي، لكنها ايضا موضوعها الخاص. الأمر الذي يعني ان الاشياء الطبيعية ليست موضوع وعيها الخاص، وهي بالتالي ليست حرة الروح” على العكس، تمتلك مركزها في ذاتها بالتحديد، ولا ترتبط الا بذاتها لأنها ليست الا ذاتها، ولذلك فان استقلالها هو استقلال مطلق حيال اي شيء آخر غيرها انها كلياً في ذاتها حتى عندما تكون في غيرها.
وبما ان “الحرية” توجد فقط حيث لا يوجد بالنسبة لي اي آخر لا يكون هو انا بالذات”8، فان الروح الكوني حرة وبشكل مطلق، وذلك لأنها الموضوع الوحيد لمعرفتها نظرا الى ان وعي ذاتها هو وعي استقلاليتها . ان الروح، كما يقول هيغل، “هي في ذاتها وتظل في جوهرها او عنصرها الخاص بها، وفي هذا بالتحديد تتمثل الحرية، حر عندما اكون في جوهري الخاص ، لأنني اذا كنت تابعا سأعتمد على شيء آخر هو ليس انا ولا استطيع ان اوجد بدون هذا الشيء الخارجي، علاوة على ذلك، فالروح واعية بالقدر الذي تكون فيه وعياً بذاتها فقط.
7. La Raison dans l’Histoire, p. 39.
8. Encyclopédie des sciences philosophiques, p. 477.
9. Leçon sur l’histoire de la philosophie, tome 2, p. 12.
أن مجال الروح يشمل كل شيء اثار وما زال يثير اهتمام الإنسان وكل ما ينتجه. لكن ورغم ان الانسان ينشط في مجالات لا تحصى، الا انه، وفي كل ما يقوم به، الكائن الذي تنشط عبره الروح. فمملكة الروح يجب ان تتحقق في الانسان لتعبر الى وفي الوجود، لكنها نتيجة ارادتها الخاصة هي وليست إرادة الانسان: انها تنتشر في التاريخ بتنوعية لا متناهية من الاشكال والاحوال لكنها مستقلة بذاتها وحرة دائما، ولا تحتاج الى إرادة البشر لتحقيق غايتها الكونية عبرهم.
بكلمة أخرى، من كل هذا المجموع المتشابك من الإنتاج البشري: لدينا امام العين لوحة هائلة مصنوعة من فعاليات وانشطة لأنواع متباينة الى ما لانهاية من الشعوب والدول والافراد تتوالى بلا كلل… ومن عقول خاصة تتابع اهدافا خاصة بها في حركة تبدو وكأنها ابدية .. انها لوحة هائلة تفجر فينا مشاعر متنوعة، وتثير غالباً انبهارنا، ليس فقط بالتفاصيل اللامنتهية التي تعرضها انما خصوصاً عبر هذا التجدد الذي لا يتوقف، وعبر “مشهد الصراع الذي نؤخذ به والذي حالما يسقط فيه شيء ، فان شيئا آخر يأخذ مكانه”10.
امام هذا المشهد البهي ثمة سؤال ينبثق : ماهي الغاية المشتركة لكل هذه العقول، عقول الافراد والشعوب والأمم، معاً؟ لأن من غير المعقول انها تستهلك نفسها بكل هذا الحماس والاندفاع والحيوية لمجرد متابعة اهداف خاصة بها ومحدودة بعوالمها العابرة الشخصية والقومية والدينية، بل لا بد لأنشطتها جميعاً ان تساهم في صنع عمل كوني ما. فالمسألة اذن ، بالنسبة لهيغل، هي معرفة “فيما إذا وتحت هذا الاشتباك المهيمن على السطح، لا يتم انجاز عمل صامت وسري توضع فيه طاقات كل هذه الظواهر “؟11
La Raison dans l’Histoire, pp. 53-55.
11. Ibid., p. 111.

في التاريخ الكوني يترتب عن نشاطات البشر شيء ما آخر غير ما يعرفونه ويستهدفونه آنياً انهم يهدفون الى تحقيق مصالحهم، الا انهم يقومون في الوقت
11
ذاته بإنتاج شيء آخر خفي لا يبلغه وعيهم ولا يدخل في حساباتهم هذا الشيء الخفي يتحقق بالشكل التالي عبر متابعة الافراد لما هو خاص بهم، ينتجون ما هو عام. وهذا الامر يفترض بالضرورة وجود “قوانين كونية للتاريخ لم يكن الافراد من قام بوضعها من خلال نشاطهم ان الافراد يصنعون التاريخ الا انهم لا يصنعونه ارادياً، كما ان التاريخ يبدو لهم دائما كقوة أسمى منهم ، ومستقلة عنهم، وحتى
غريبة عليهم احياناً، على الرغم من انه نتاج عملهم المباشر في واقع الامر”. 12
يجب الاعتقاد عندئذ بان هناك ارادة عليا وسامية وبالتالي روح كونية هي التي توجه الاحداث والانشطة وهي التي قادت وتقود الارواح الخاصة. روح كونية “شبيهة بميركور سائق “الارواح في الاساطير الاغريقية القديمة. وهكذا، وبالقدر الذي يكون فيه الله حاضراً في كل شيء فانه يوجد في كل انسان ويظهر في كل وعي. اما جوهر هذه الروح الكونية، ففي مناسبات عديدة خلال محاضراته البرلينية، كما في كتاباته التي نشرها في حياته، يؤكد هيغل بأن جوهر الروح هو الحرية” او “ان مملكة الروح هي مملكة الحرية “13. وهذه الفكرة تبدو كالأكثر اساسية في فلسفة التاريخ الهيغلية التي ترى ان الانسان يتصرف حسب اهدافه لكنه محكوم بهدف المطلق”.
وبالفعل ان روح العالم بالنسبة لهيغل موجود اساساً كوعي انساني اذ يقول: “هناك بينها وبين البشر الرابطة نفسها الموجودة بين الافراد وبين الكل الذي هو ماهيتهم”. وبالتالي، فان الانسان ليس الا امكانية ان يصير ما يجب ان يصيره، اي ان يصير عقلانياً وحرا، لكن على الانسان ان يصير بنفسه ما يجب ان يكون عليه، يجب
12 Hegel, philosophe du débat et du combat, pp. 159-160..
13 Encyclopédie des sciences philosophiques, p. 148

عليه ان يحقق كل شيء بنفسه وذلك بالتحديد لأنه روح، لكنه وباعتباره روحاً فان الانسان لا يتصرف الا في وعبر الفكر لبلوغ وعيه بحريته، ينبغي عليه ان يتخلص تدريجياً من كل ما هو عناصر طبيعية خارجية به ودون اغفال هذه الطبيعة الثانية التي خلقتها بنفسه بدون علم منه، أي الطبيعة والاجتماعية والثقافية.
اما استنتاجنا عن منبع العلاقة بين الإلهي والإنساني في التاريخ، عند هيغل فنرى انه ذلك اليقين الديني، الذي تشترك فيه الديانات الإبراهيمية جميعاً، والقائل بأن العالم الإلهي، هو عالم روحي محض، ومتصل بالإنسان عبر الروح. وهذا اليقين الديني، يؤمن به بقوة هيغل الذي، وغالباً ما تغفل الإشارة إليه، درس اللاهوت المسيحي دراسة عميقة في توبنغن، بين 1788 و 1793، وكاد يتخرج قساً لوثرياً، لولا أن جذبته الفلسفة، لكنه ظلّ مؤمناً بدينه حتى وفاته. «إنني لوثري والفلسفة عززت لدي لوثريتي»، كتب هيغل في رسالته إلى تولوك في 3 تموز / يوليو 1826، وبالتحديد في جدال حول موضوعة وحدة الوجود لدى المتصوفة المسلمين. ومع ذلك، لم نعدم من ذهب إلى حد اتهام هيغل بتبنّي مذهب ما من مذاهب وحدة الوجود.
ثنائية الشر/ العناية الإلهية
ومهما يكن الأمر، لقد نال مفهوم الشر اهتمام سائر الفلسفات القديمة والوسيطة، وحتى الحديثة والمعاصرة. وبغض النظر عن تنوع التناول والمنظورات في هذا الشأن وحتى تضاربها أحيانا، ظل ما يجمعها غالبا، ويفسر انتشارها، هو انطلاقها المشترك من الموازنة العقلانية بين الإقرار القبلي بالثنائية التالية: وجود الشر ووجود العناية الإلهية في عالم الوجود.

ففي الفكر الميتافيزيقي السومري مثلاً، كان “أنزو” يرمز للشر فيما يرمز نقيضه “ننورتا” للخير ، وهما في صراع دائم وعنيف لاسيما في اللحظات الجوهرية من الخلق. وتخبرنا قصيدة سومرية تحمل اسمه ان انزو” سرق من الآلهة “الواح القدر” التي تمنح من يحملها السلطة المطلقة على الآلهة والبشر والاكوان. الا ان الاله “تنورتا” رمز الخير استرجع الالواح منه بعد ان انتصر عليه اثر معركة كونية بمساعدة اله العقل والنظام انكي. وهذه الثنائية الكونية ننورتا/انزو، الخير/الشر، أخذت غالبا ما شكل وحدة بين اضداد في حالة صراع دائم، كما لو ان ديناميكية التناقض هي يضمن نقل مركز الوعي، وبالتالي حرية الفعل من العقل المطلق الى العقل الملموس، ومن الله الى الانسان. ولعل النص البابلي الشهير باسم “حوار السيد والعبد” يمثل نموذجا قويا على ذلك، حيث التضاد لا يغدو بين وجودين ملموسين وحسب بل بين وعيين مستقلين تماما في اطار اشكالية وحدتهما السرمدية. وهذه اول محاولة لعقلنة ماهية الشر وفهمها كضرورة كونية قائمة بذاتها.
هرمز / اهريمان مرموزاً لهما بالنور والظلام على التوالي) هو المعادل الزرادشتي لوحدة وتضاد الخير الشر تلك ولتطور الوعي بهما فيما تنوعت مواقف الفلاسفة اليونانيين من هذه الوحدة / التضاد لكنها ظلت إيجابية وضرورية كما لدى أبيقور، وان اجتماع الأضداد حتمي كما لدى هيرقليدس الذي اعتبر ان وجود الشر مشروط بوجود الخير، وأنه لولا وجود أحدهما لما وجد الآخر وأن انتفاء أحدهما يعني انتفاء
الآخر.
في الفلسفة الغربية الوسيطة، المسيحية في قسمها الاعظم، كانت الفكرة السائدة هي ان الشر نقيض الخير، أما مصدره فليس الله بداهة لأن الله لا يخلق إلا الخير، انما هو سوء استخدام الإنسان لعقله ولإرادته. ومن هنا مبدأ “الخطيئة الاصلية” الشهير في الديانات الابراهيمية ومنها المسيحية. وهي خطيئة معصية أبي البشر ورمزه آدم فحسب العهد القديم” (الفصل الثالث / سفر التكوين/ قصة الخلق)، أن

الله خلق آدم وحواء ووضعهما في جنة وافرة الثمار برزت في وسطها شجرتان أحداهما تدعى شجرة الحياة والأخرى شجرة المعرفة ومعرفة الخير والشر خاصة. وبينما أذن الله لآدم ان يأكل ثمار جميع شجر الجنة بما فيه شجرة الحياة التي تمنح الخلود، نهاه عن الأكل من شجرة المعرفة. وقد عبر الكتاب المسيحي المقدس عن ذلك بقوله: وَأَوْصَى الرَّبُّ الإِلَهُ آدَمَ قَائِلاً: «مِنْ جَمِيعِ شَجَرِ الْجَنَّةِ تَأْكُلُ أَكْلَاً وَأَمَّا شَجَرَةُ مَعْرِفَةِ الْخَيْرِ وَالشَّرِ فَلاَ تَأْكُلْ مِنْهَا لأَنَّكَ يَوْمَ تَأْكُلُ مِنْهَا مَوْتاً تَمُوتُ«.
ونعلم ما حدث فقد عصي أبو البشر امر الرب وأكل من ثمار شجرة معرفة الخير والشر، وحصلت المعصية او الخطيئة الأصلية فطرد من الجنة الى الأرض جالبا الشر لها: “إِنَّمَا بِإِنْسَانٍ وَاحِدٍ دَخَلَتِ الْخَطِيئة إِلَى الْعَالَمِ، كما جاء في رسالة بولس الرسول إلى أهل رومية (5) (12). وبداهة، فان الهدف الأخلاقي السياسي جليّ هذا التصور . بمعنى ان الخطيئة هي نتيجة عصيان ارتكبه الانسان الأول فطرد بسببه من الجنة وان كل مرتكب لخطيئة معصية إرادة الرب يستطيع العودة عنها وبالتالي العودة الى الجنة التي خرج منها آدم وحواء، إذا تطهر من اغواء حب معرفة الخير والشر وقبل بإرادة وإملاءات السلطة الدينية.
بيد ان هذا التصور اللاهوتي يطرح ضمنا ، في رأينا الخاص، مفهوم إيجابية الشر وبشكل غير مقصود تماما : لولا الخطيئة لما وصل الانسان الى المعرفة، والمعرفة العقلية خاصة، نظرا الى تعلق الأمر بمعرفة قضايا الخير والشر وهي قضايا تتطلب
العقل بداهة.
لكن المبدأ الآخر الذي ينطوي عليه هو ان الانسان حر بذاته ولذاته وبالتالي مسؤول عن قراراته سواء الشريرة ممثلة بارتكاب خطيئة العصيان او الخيرة ممثلة بالتراجع عنها. هذه الفكرة الأخيرة دافع عنها القديس اوغسطين (354-430) بقوة عندما ذهب الى اعتبار الشر، بما فيه الطبيعي، بمثابة عقاب من الله على الخطايا التي سببها الإنسان كفرد أو كطبيعة، وهما عارضان فانيان في التحصيل الأخير ككل

الوجود المادي، ولذلك لن يكون هناك مكان للشر في “مدينة الله” التي بشر بها اوغسطين.
هذه الفكرة المقدسة” تعرضت الى تصدع قوي في قلب القلعة اللاهوتية المسيحية نتيجة تعرف عدد من المفكرين المجددين على بعض أفكار الفيلسوف القرطبي أبو الوليد ابن رشد (1126-1198م) وخاصة في كتاب فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من “الاتصال الذي عدّت بعض أفكاره بمثابة التمهيد للعلمانية الحديثة ولفصل الدين عن الدولة حيث التأكيد على ازلية العالم، وعلى ان الدين لا يمكن فهمه إلّا على ضوء العقل، والدعوة الجريئة الى تحرير الفلسفة من اللاهوت، وغيرها من المواقف الفلسفية التي سرعان ما قادت المفكرين المسيحيين الى التصور بأن الشر، كنقيضه الخير، قد يكون وجوده مقتضى من الله وبالتالي فهو لازم الوجود في العالم ومستتبع لوجود الخير بالضرورة.
او الى الاستنتاج بان الشر ليس إلا غياب صفة أو مقدرة يجب أن تكون موجودة في الكائن بطبيعته، أو هو الحرمان من هذه الصفة أو المقدرة. فكل شيء خير كما خلقه الله، ولكن الله قد لا يريد ان ينقل كماله اللانهائي إلى مخلوقاته، بل قد يجيز بعض الشر بقصد الوصول الى بعض الغايات الخيرة أو لمنع شر اشد منها. هذه الأفكار المتأثرة بملاحظات وشروح ابن رشد على كتابات أرسطو، سيذهب بعض أصحابها ابعد بتقسيم الروح إلى قسمين متكاملين في نوع من “وحدة وجود”: روح كلية إلهية وروح جزئية إنسانية، وهذا هو في نظرنا الأصل البعيد للمفهوم الفلسفي الهيغلي عن الوحدة الجوهرية بين العقل الكلي او المطلق (الله) والعقل الجزئي او الملموس (الانسان). لكن هذا الأصل سيقترن بتطور آخر يتعلق بالمضمون السياسي – الأخلاقي لمفهوم الشر، والمنبثق في خضم الصراع التنويري لتجاوز طغيان أنظمة الحكم المطلق المدعومة من المؤسسة الدينية التي كانت مطبقة الهيمنة على كل جوانب الحياة المدنية الاوربية في القرون الوسطى.

من اللاهوت الى السياسة
لقد كان الفيلسوف السياسي الإيطالي مكيافيللي (1469-1527) مؤيدا لتوظيف أساليب لا إنسانية وحتى لا أخلاقية في سياسة الأمير تجاه الرعية عند الضرورة، كما عبرت عن ذلك فلسفته السياسية التي اوجزها بمقولته الشهيرة “الغاية تبرر الوسيلة المؤسسة على فكرته بان الخير والحق ليسا كافيين للاحتفاظ بالسلطة وعلى الحاكم الناجح عندئذ أن يعرف انه فقط عن طريق الاستخدام الملائم للقوة يمكن ارغام الأفراد على الخضوع ويمكن جعل الحاكم قادرا على حماية سلطته من الاخطار المحدقة هذه النظرة الأخلاقية للسلطة سجلها مكيافيللي بالتفصيل في كتابه الشهير “الأمير ” ، وخلاصتها انه ليس ثمة أساس أخلاقي يمكن ان نفرق به بين الممارسات الشرعية والغير شرعية للقوة، مثلت انقلابا على النظرة السائدة من قبل ولقرون طويلة، وهي تلك التي كانت قد أسست علاقة ما بين الخير الأخلاقي وشرعية السلطة، حيث اعتقد معظم المفكرين واللاهوتيين أن استخدام القوة لأغراض سياسية لا يكون مشروعاً الا إذا كان الحاكم فاضلا وأخلاقيا ومحبا للخير نظريا في الأقل.
الفيلسوف الإنكليزي توماس هوبز (1588-1679) الذي عاش رعب ومآسي الحروب الاهلية في بلاده لم يكن اول مفكر يعقلن دولة الحكم المطلق ملقيا المسؤولية على الطبيعة الإنسانية حيث تقدم فلسفته السياسية اول عقد اجتماعي، وقبل جون لوك (1632-1704) وجان جاك روسو (1712- 1778)، لكنه عقد كارثي في واقع الحال حيث ينطلق هوبز من الاعتقاد بان الانسان كان يعيش حياة همجية شأن الحيوانات المفترسة كان فيها الإنسان اشبه بذئب لأخيه الانسان. ثم رأى أن يحمي وجوده كنوع عبر التنازل عن همجيته مدفوعا بنزعة البقاء. ومن هنا التوصل الى ضرورة تسليط ما اسماه «التنين» او «اللفيتان»
(وهو عنوان كتابه الفلسفي الأشهر) ويقصد به سلطة حاكم مطلق يتولى كبح جماح واخضاع جميع الأفراد كشرط لضمان عيشهم بسلام معا، ما يشترط ابرام عقد اجتماعي بينهم يتخلون بموجبه عن كل حقوقهم وحرياتهم لصالح حاكم مطلق يتسلط عليهم ويحكمهم بالطريقة التي يشاء. فدولة الحكم المطلق التي يبررها هوبز هذه، لا تستمد معقوليتها لا من الحق الإلهي ولا من الحق الطبيعي ولا من القانون الأخلاقي الوضعي غير الموجود اساسا، انما من العقد الاجتماعي الطبيعي بين الأفراد. فالحكم المطلق هو معيار العدل والحق اما معايير الخير والشر والفضيلة فهي عندئذ ليست بقيم بتاتا اذ لا قيمة الا للحاكم المطلق ولا مكانة او دور لأفراد سواه.
وكما لجأ جان بودان، الذي كان ايضا مستشار الملك ووكيله في برلمان باريس، الى توظيف عامل الاجتماع والتاريخ لتبرير الحكم المطلق، وظف هوبز عامل الطبيعة والسيكولوجيا لتبرير هيمنة “الدولة الحارسة” على المجتمع فيما ذهب المفكر اللاهوتي الفرنسي بوسويه (1627-1704) الى حد استخدام نصوص الكتاب المقدس” لشرعنة نظرية “الحق الالهي” للملك في “السلطة المقدسة”. وقبل بوسويه، كانت المؤسسة الدينية المسيحية هي التي أسست ونظمت دفاعا
عنيفا ومثابرا عن جنين السلطة المقدسة متمثلا بذلك المفهوم اللاهوتي
—
الايديولوجي الذي ربط بين سلطة الحاكم والقدسية الالهية وافتى بحق هذه السلطة في ان تكون مطلقة وهو مفهوم ساهم في تطويره نخبة من كبار مفكري الكنيسة وفقهاء “القانون المقدس” او نظرية “الحق الالهي” لسلطان الملوك وقبلها لسلطان البابا.
هذا الفهم لمضامين طبيعة الانسان والمجتمع والسلطة والخير والشر اختلف كليا في ماهية وشروط “العقد الاجتماعي عند جون لوك (1632-1704) وجان

جاك روسو (1712-1778)؛ انعكاسا لاختلاف تصور مضمون دور الافراد في المجتمع حيث انتقلوا من كونهم مادة “المجتمع الهلامية أي مادة الاستغلال والاستبداد والحروب والذين لا حقوق لهم، الى كونهم المجتمع المدني، وهو انتقال عكس انقلابا في سيروة تطور المجتمعات الاوربية الغربية رأساً على عقب ما مهد الطريق لاندلاع الثورة الفرنسية في عام 1789. فالانسان حسب رؤية جون لوك له حقوق طبيعية توجد معه بصفته انسانا ولا يمكن التنازل عنها حتى للمجتمع وفي مقدمتها أن يكون حرا وبالتالي حقه بالمساواة مع الغير ما يجعل الحاكم مجرد إداري في خدمة المجتمع المنتقل من حالة الطبيعة إلى الحالة المدنية الوضعية التي تؤسس للحكم العادل على أساس القانون ورفض الحكم المطلق تاليا، ما يعني ان الدولة حسب لوك، وبالعكس من هوبز، تقوم على أساس عقد واع وعقلاني بين الحاكم والمحكوم في دولة مهمتها الاساسية ضمان حقوق الأفراد وحرياتهم الطبيعية والاجتماعية والسياسية.
روسو ذهب ابعد من لوك في “العقد الاجتماعي” الذي اقترحه للمجتمع الإنساني الحديث النزاع الى التمتع بالحرية والمساواة والعدل حيث رفض فكرة هوبز بان الانسان شرير بطبعه معتبرا أن الإنسان يُولد طيباً لكن المجتمع هو الذي يخلق اللجوء الى الشر لدى الافراد رافضاً ايضاً كل اشكال أنظمة الحكم المطلق وكل اشكال الوصاية التي فرضتها الكنيسة على الحياة الاجتماعية والسياسية والثقافية آنذاك بإسم الحق المقدس ، مؤكدا أن الحرية هي أساس الحق الطبيعي وهي يجب ان يحميه العقد الاجتماعي الذي يفرضه انتقال الإنسان إلى الحالة المدنية.
ما
اما استنتاجنا عن منبع العلاقة بين الإلهي والإنساني في التاريخ، عند هيغل فنرى انه ذلك اليقين الديني، الذي تشترك فيه الديانات الإبراهيمية جميعاً، والقائل بأن العالم الإلهي هو عالم روحي محض، ومتصل بالإنسان عبر الروح. وهذا اليقين
الديني، يؤمن به بقوة هيغل الذي، وغالباً ما تغفل الإشارة إليه، درس اللاهوت
المسيحي دراسة عميقة في توبنغن، بين 1788 و 1793، وكاد يتخرج قساً لوثرياً، لولا أن جذبته الفلسفة، لكنه ظلّ مؤمناً بدينه حتى وفاته. «إنني لوثري والفلسفة عززت لدي لوثريتي»، كتب هيغل في رسالته إلى تولوك في 3 تموز/ يوليو 1826، وبالتحديد في جدال حول موضوعة وحدة الوجود لدى المتصوفة المسلمين. ومع ذلك، لم نعدم من ذهب إلى حد اتهام هيغل بتبنّي مذهب ما من مذاهب وحدة الوجود.
انتهى .

د. حسين الهنداوي: كاتب عراقي له في الفلسفة Hegel et l’islam هيغل والإسلام” ( Orients بالفرنسية – باريس)، و التاريخ والدولة ما بين ابن خلدون وهيغل” (بيروت/ دار الساقي 1996) ، و على ضفاف الفلسفة” (بغداد / دار الحكمة (2005) وترجمة “هيغل والهيغلية” عن الفرنسية (بيروت / الكنوز الادبية (2004) ، و فلاسفة التنوير والاسلام” (بيروت دار المدى 2014) ، و استبداد شرقي ام استبداد في الشرق ؟ ” ( بيروت دار المدى 2017، و”الفلسفة البابلية” (بيروت/دار المدى 2019، و”مئة سنة من الفلسفة في العراق” (بغداد/ وزارة الثقافة 2021)، وفي الادب والفن “محمد” مكية والعمران المعاصر ” (بيروت/ ناشرون 2013)، و”مظفر النواب، في أعالي الشجن” (بيروت دار المدى 2022، ، واخاديد مجموعة شعرية (اراس 2012)، وغيرها.