
د. حسين الهنداوي
“إني لأضحك ببلاهة عجيبة كلما تخيلت وجهك العزيز وقد إستحال الى علامة إستفهام ضخمة.. وإني لأضحك ببلاهة أعجب كلما تصورتك وقد إستبدّ بك الغضب فرميتَ بكتابي بحنق وإشمئزاز وعلى شفتيك المرتجفتين ألف لعنة ولعنة. ولكن ثق إنك لا تَفضلني على الرغم من قذارتي إلا بشيء واحد، وهو إني أحيا عارياً بينما تحيا ساتراً ذاتك بألف قناع. فنصيحة مني أن لا تقدم على قراءة هذا الديوان إذا كنت تخشى حقيقتك وتخاف رؤية الحيوان الرابض في أعماقك”…
كانت كلماته هذه في مطلع مجموعته الشعرية الأشهر، “قصائد عارية”، تمسك بأنفاسي هيبة، كي لا أقول رهبة، في أحد أول أيام عام 1971، وأنا اخطو نحو مكتبه البسيط في مجلة “ألف باء” البغدادية لأشكره على كرمه بكتابة رسالة توصية بفرصة عمل لي، الى صديقه، وصديق السياب، الشاعر الكويتي علي السبتي رئيس تحرير مجلة اليقظة الكويتية.
كنت قد تعرفت عليه للتو تماما عبر صديقنا المشترك الشاعر المتميز لكن المتنائي في المانيا حميد الخاقاني صديق الصبا والشعر والمبادر بفكرة رسالة توصية من حسين مردان أدهشني فيها سخاء روح كاتبها حتى ان الشاعر الكويتي الكريم نهض واقفاً كما لو ان لوقع كلمات حسين مردان جلالاً.. رغم بعض حرج على المحيّا.. ولم أعد اليه ثانية كي لا أسيء لهيبة شاعر هو عالم سامق بذاته. بيد انني لم اعرف سر تواطئه معي الا بعد زمن.. وبعد ان اكتشفت ان في حسين مردان شيئا مشتركاً من فردوس طفولتنا المفقود مدينة الهندية او طويريج التي ولد في محلتنا “الـﮕص” فيها وأمضى بين بساتينها لحظات الصبا:
“في السابعة قرأت عنترة وفي العاشرة نظمت اول بيت، وبدأت امي تضايقني.. وكان لابد من الانقطاع الى الادب! وهكذا تركت المدرسة ثم بدأ الخصام مع العائلة! واضطررت الى هجر البيت”.
هكذا كتب في احدى مقالاته حسين مردان معترفا بان حياته الادبية تفتحت في مسقط رأسه ذاك وهو في العاشرة بعد. فهذا الشاعر العراقي الشهير، المولود في مطلع سنة 1927 او نهاية عام 1926 والمتوفي في بغداد في 1972 ، انهى تعليمه الابتدائي وباشر المتوسطة في بلدته الاولى طويريج قبل ان يغادرها وعمره خمسة عشر عاما متنقلا مع والده الذي كان بنّاءً قبل ان ينخرط في سلك الشرطة ويتنقل من مدينة إلى أخرى في الفرات الأوسط قبل ان يستقر به الحال في مدينة الخالص ببعقوبة حيث دخل المدرسة المتوسطة لكنه سرعان ما هجر الدراسة نهائيا بسبب روح الحرية التي سكنته، مركزا اهتمامه بالمقابل على قراءة الشعر العربي وحفظه ثم تأليف أولى قصائده التي راح يرسل مقاطع منها للنشر في الصحف العراقية ثم في المجلات العربية لا سيما مجلة الأديب البيروتية. فقد اقتنع في قدرته أن يصير شاعراً بارزاً جداً، ولابد من أن يصير مهما يكلفه الأمر ذلك واوله الهجرة: “إلى أين.. أنا لا أملك غير رأسي! وإنه لرأس. وإني لقادر أن أشق الصخر بإصبعي وحملت عصاي وجئت إلى بغداد المدينة الغامضة المغلفة. وبعد يومين فقط دخل الفراغ إلى جيبي (…) وذهبت مع السحَر إلى سوق “الفضل” لأصبح من عمال البناء. كنت أقول لنفسي وأنا أضع الطابوق على صدري ليكن! سأضع رجلي فوق الجميع. وبعد أيام جلست مع الشاعر الرصافي.”
ومع الانتقال الى بغداد نجح حسين مردان دون تخطيط او اهتمام ان يبرز مع السياب والملائكة والبياتي وبلند الحيدري صديقه الاقرب، كأحد رواد الشعر العراقي الحديث لا سيما قصيدة النثر متمردا بجرأة جسورة لا على قوالب الخليل الفراهيدي وحسب بل على شعر التفعيلة كله. وفي مقدمته النقدية المهمة لكتاب (من يرجع الصدى) المعنونة “حسين مردان مدخل في المسيرة الشعرية” (1981) يرى الاستاذ الدكتور علي جواد الطاهر، ان هذا الشاعر تأثر جدا بما قرأه من كتابات عن الوجودية في عدد من المجلات العربية لا سيما مجلة “الكاتب المصري” الا انه فهمها على طرازه الخاص ووفقا لوجوديته الخاصة به التي بدأت تعلن عن نفسها اكثر فاكثر مع زيادة قراءاته وتبلور شاعريته وطرازه الخاص في الكتابة. فقد اعجب بديوان “افاعي الفردوس” للشاعر اللبناني إلياس أبو شبكة، ثم لما وصلت إليه ترجمة قصائد “أزهار الشر” للشاعر الفرنسي بودلير هام به ما عزز طموحه بالهجرة، وكان ذلك في نهاية الأربعينات، وتحديدا في عام 1947. وكان في العشرين من العمر عندما بدأ يرسل كتاباته الشعرية المبكرة إلى الصحف المحلية ومجلة الأديب البيروتية وهي تحمل صياغاتها الخاصة بـ”النثر المركز” كما أسماه حسين مردان أو بقصيدة النثر كما أصطلح عليها بعد ذلك. وتدريجياً، شكل حسين مردان بتمرده الحياتي الشخصي وشعره الغريب على التقاليد لونا خاصا به. وحين تعرف عليه وفد من أدباء العاصمة زار بعقوبة متشكلا من الروائيين الكبيرين فؤاد التكرلي وعبد الملك نوري، وجد فيه لونا من الانشداد إلى التجريب والتحديث وهو ما كان الوفد القصصي الحداثي الزائر قد بدأ خطواته فيه على صعيد القصة القصيرة. ولم يدفع حسين مردان إلى حياة العاصمة إلا الوعد من جماعة (الوقت الضائع)، التي اتخذت مقرأ لها في ساحة عنتر في مقهى اسمته مقهى (الواق واق)، ان يستضاف الشاعر في سطح المقهى حيث انتصبت غرفة صغيرة تجاور (البيتونة). ويقول حسين مردان انه لم يكن يملك المال للسفر إلى بغداد وهو لا يتعدى المائة فلس يومها فركب عربة حمل للخضار نقلته مجاناً على مدى ساعات إلى الأعظمية حيث حل في المقهى الموعود ضيفا دائماً (لفترة) على ذلك المقهى الذي دارت فيه اجتماعات جماعة (الوقت الضائع) وحواراتهم عن الفن والأدب الحديث حيث كان جواد سليم، النحات البارز، وشقيقه الرسام والقاص نزار سليم والدكتوران (فيما بعد) حسين هداوي ومحسن مهدي وعدنان رؤوف ونهاد وفؤاد التكرلي ابرز المساهمين.
من ساحة عنتر ومقهى (الواق واق) دخل حسين مردان عالم الصحافة مصححاً في جريدة (الأهالي) برفقة الروائي غائب طعمة فرمان (محرر الاخبار السياسية فيها) وعبد المجيد الونداوي (مدير تحريرها) وليتعرف عبرهما بالقاص عبد الملك نوري والاقتصادي محمد حسين الهنداوي، الذين كوّنوا معه (خمسة أصوات) رواية غائب الشهيرة، كما احتك حسين مردان بجو آخر من النشاط السياسي والثقافي ليعين محرراً أساسياً للصفحة الثقافية في جريدة (الاخبار) كي يرعى نتاجات الأدباء الشبان آنذاك ومنهم زيد الفلاحي ونزار عباس وموسى النقدي وكي يجري أولى مسابقات القصة القصيرة للشباب التي فازت فيها القاصة سافرة جميل حافظ وكانت بداية شهرتها كقاصة مجددة لم تستمر طويلاً لعدم تفرغها لها في الساحة الثقافية بعد ان اخذتها السياسة إلى شواطئ أخرى.
كان حسين مردان يثير بعد كل ديوان يصدر له ضجة في الأوساط الثقافية بعد ان سبب صدور ديوانه (قصائد عارية) الضجة الأكبر ليس فقط لانه في مطلع مجموعته الشعرية الأشهر، “قصائد عارية” أهداها إلى نفسه بهذه الكلمات: “لم أحب شيئاً مثلما أحببت نفسي، فإلى المارد الجبار الملتف بثياب الضباب إلى الشاعر الثائر والمفكر الحر. إلى.. حسين مردان…”. انما خاصة لما تضمنته القصائد من خروج على التقاليد السائدة فأحيل إلى المحاكمة وتوكل عنه المحامي المعروف والناقد محمود العبطة ولم تشفع للمحامي ولا لموكله كل تبريرات التحديث فحكم على حسين مردان بالسجن سنة واحدة قضاها في سجني بعقوبة والكوت ليخرج بعد ذلك إلى “السجن الكبير” وقد ازداد ثقافة ووعياً.
وعن شاعريته، يرى الدكتور علي جواد الطاهر، ان شعر حسين مردان لا نقاش فيه صدقاً وعمقاً ودلالة على الموهبة وجِدَّةً في الصورة وعنفاً في التعبير ونفاذاً إلى الشعر العمودي “بما لم يسبق إليه عنفاً ورغبة وتميُّزاً من أي آخر من شيوخ وشباب بشخصية لا تستعار.” كما ان ما فيه من عنف وجرأة صوره وجدة أفكار هي بذاتها دلائل على الأصالة.. “وهو مختلف في هذه الأصالة حتى عن “أبو شبكة” صاحب “أفاعي الفردوس”، وبودلير صاحب “أزهار الشر” واللذين، وإذا التقى معها في شيء من الروح أو الإخاء الروحي، فإنه تميز عنهما بنفسه فهو حسين مردان من العراق، وهما واحد من لبنان وواحد من فرنسا. وبالفعل فقد هيأت الشاعرية الى جانب الجرأة للديوان الانتشار وكثرة القراء بعد ان “أثبت هذا المتشرد المتمرد أنه شاعر، وفتح هذا الشاعر لجيله من الشعراء الشباب خاصة، الطريق إلى الجرأة بنوعيها الأخلاقي والفني”.
وحسين مردان كان قارئا جيدا كثير الإعجاب بالحركات الطليعية الأدبية الأوروبية، والتي كان يتابع بعض أخبارها المبتسرة وقصص أبطالها عن طريق المجلات والصحف العراقية والعربية وعما كان يترجم في الصحف والمجلات وما يصدر من كراريس او كتب في موضوع الأدب الأوروبي. وبفضل هذه الوسائل استطاع أن يتعرف على بودلير وأصبح بودليري المنحى كما يرى الشاعر العراقي عبد القادر الجنابي الذي خصص لشاعرية حسين مردان دراسة متميزة بشكل لافت بعنوان “كآبة بغداد: ديوان حسين مردان المفقود”، يرى فيها ان مردان شاعر فطري ذو مخيلة متفتحة لكل ما هو جديد. وهو شاعر “بوهيمي الكتابة” بقدر بوهيميته في الحياة اليومية، وهو “رجل شارع حقيقي… عبد حرية لا تطاق، حرية ترفض ان تـُربط حتى بشعرة رفيعة”، مستنتجا أيضا ان كتابات حسين مُردان، سواء في مقالاته الأخيرة أو في نثره المركز، تتميّز بنثر ذي حركيّة نصّية تجعل الجمل تتلاحق على نحو غير قابل للاختزال، وكأنها عملية محو للفاصل بين المضمون والتعبير.
ويضيف الجنابي أن حسين مردان يكاد يكون “كاتب أعمدة يضع عناوين غرائبية لمقالاته الأسبوعية تذكر بالأسلوب السوريالي بل حتى بالصحافة الأوروبية المتقدمة، في استخدام العنوان كمجاز صادم… وإن من يراجع ما كتبه مردان في “ألف باء” ما بين 1968 و1972، سيصطدم بعبثية تسمية ما يكتبه هذا الأسبوع بـ”مقالة”، والأسبوع التالي بـ”نثر مركّز”.. وذلك أن ما كان يعتبره مردان “مقالات” تكاد لا تختلف في جوها ولغتها وتوترها وتركّزها، عما كان ينشره، في نفس المجلة، كقصائد يسميها من “النثر المركز” ذات الشكل المشطر على طريقة الشعر الحر. الذي يكفي ان نشطّر على طريقته المستعملة في كتابة “النثر المركز”، بعض مقالاته الذاتية، فنحصل على نموذج بامتياز لما يسمى “قصيدة من النثر المركز” وفق مقاييس مردان نفسه.
وكان حسين مردان التحق في أواخر عام 1968 بأسرة تحرير مجلة ألف باء الأسبوعية العراقية التي خصصت له صفحة أسبوعية يحررها إما بمقالة، او بانطباعات، أو بقصيدة من النثر المركز أو الشعر الحر.
على الصعيد السياسي بالمقابل، ورغم بودليريته الراسخة، كان حسين مردان شاعرا وطنيا وتحرريا بامتياز. ويعكس ذلك ما عرف عنه من اختيار حياة بسيطة وزاهدة ونزعة يسارية تلقائية قادته الى المشاركة في التظاهرات المناهضة للانتداب البريطاني على العراق او ما يعرف بوثبة كانون الثاني 1948 التي اندلعت في بغداد ضد معاهدة بورتسموث مع بريطانيا، وتعرضه إلى الاعتقال بعد انتفاضة تشرين 1952 وتقديمه إلى المجلس العرفي العسكري وسجنه أوائل سنة 1953، وفيه كما يقول: “بدأ التحول الكبير في مجرى حياتي الأدبية.. فقد أقسمت مع نفسي على السير في خدمة الشعب والعمل على قلب ذلك النظام الذي يستل شوق الإنسان إلى الحرية بالسجن والحراب”. وقد زاده تعرضه للسجن إصراراً على التغيير والاتجاه الوطني والفكر الثوري متأثرا بقراءة كتب وادبيات ماركسية كانت تصله عن طريق سجناء سياسيين آخرين.
واصر حسين مردان ان يخوض ايضا معارك أدبية وفنية شتى منها المعركة الكبرى مع تيار الحروفية في الفن التي كان يدعو لها الفنان شاكر حسن آل سعيد ولتتبلور بعد ذلك في رسالته الشهيرة (رسالة من شاعر إلى رسام) حيث ضم الرسالة إلى مقالة تحليلية عن شعر الجواهري واخرى عن قصص عبد الرزاق الشيخ علي أصدرها معا في كتاب (مقالات في النقد الأدبي) وظلت حياة حسين مردان التي لم تعبر الخمسة والأربعين عاما، ساخنة شديدة الانفتاح على الجديد، وقد نتجت عنها تجربته الرائدة في تكريس ازدهار قصيدة النثر التي اصر على اثرائها تاركا الكثير من النصوص الشعرية وكذلك النثرية وهي ”قصائد عارية“ التي صدرت بعدة طبعات أولها في 1947، و”اللحن الأسود“ في 1950، و”صور مرعبة“ في 1951، و”عزيزتي فلانة“ في 1952، و”الربيع والجوع“ في 1953، و”نشيد الأنشاد“ و”مقالات في النقد الأدبي“ في 1955، و”أغصان الحديد“ في 1961، و”الأزهار تورق داخل الصاعقة“، في 1972، وأخيرا كتاب ”من يفرك الصدأ؟“ الذي صدر بعد وفاته بسنوات وهو مجموعة مقالاته الاخيرة.
انتهى