ظاهرة غياب الفيلسوف في الثقافة العربية المعاصرة. الفلسفة ليست غير الحرية في تعريفها الاول والاسمى.

د. حسين الهنداوي

لماذا لا نجد في الثقافة العربية الراهنة رغم كل مظاهر حيويتها، البديهية او المفترضة منها، مفكرا واحدا، واحدا فقط، يستحق ان نطلق عليه دون مبالغة او محاباة نعت فيلسوف بالمعنى المنهجي الذي نتفق على اطلاقه على افلاطون والكندي او على ارسطو والفارابي وابن سينا او على ابن عربي وكانت او على السهروردي وديكارت او على هيغل على العشرات الأخرين غيرهم من فلاسفة الشرق او الغرب؟

فإذا بحثنا في الثقافة العربية الحديثة مشرقا ومغربا، لا نجد بالفعل ذلك المفكر “المتكامل المنظور” الذي ينتزع، عبر مساهمة اصيلة، مكانة فيلسوف بجدارة واستحقاق بعيدا عن الفذلكات الصحفية والاطراءات العاطفية. وهذا في الواقع هو ما استنتجناه شخصيا عن كثب، وبعيدا عن أية نزوات مشاكسة، او رغبة بغمط حق احد، او هواية الاستفزاز العابث. فبعد تقليب، نزعم بأنه غير عجول، في مختلف الانتاجات التي تعنينا في هذا الميدان، لم نعثر على ذلك الفيلسوف الحقيقي الذي يعتبر وجوده في ثقافة ما، ضرورة مستقلة بذاتها، وعلامة حيويتها الجوهرية المستديمة، ما دمنا نعرف- ونتفق مع الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت- بان “اعظم خير يمكن ان تقدمه ثقافة ما هو ان يكون فيها فلاسفة حقيقيون”.

واذا كنا نلح اعلاه على مفهوم الغياب، فذلك بالتحديد لاننا نعتقد جازمين بان المسألة تتعلق فعلا بخراب علاقة طارئ او مرحلي، وليس مطلقا بسبب عجز عضوي في عبقريتنا التأملية او بتنافر “طبيعي” بين العقل الشرقي وفعل التفلسف كما يروج بعض مؤرخي الفلسفة الغربيين ضد الثقافة العربية الراهنة مدفوعين بمنطلقات ايديولوجية واغراض سياسية او ما شابه. فنحن نرى، على العكس من هؤلاء، ان العقل العربي او الكردي او الفارسي او التركي والعقل الشرقي عموما، ككل العقول الانسانية الاخرى، يكتنز بالعبقرية وجدير بكل ابداع فلسفي مهما كان راقيا وساميا. ويكفينا دليلا قاطعا على ذلك ان الثقافة العربية والشرقية عموما عرفت الفلسفة في فترات سابقة من تاريخها، وعاشرتها طويلا وانجبت -باعتراف العدو والصديق- هذا التواع من “الفلاسسفة الحقيقيين” الذين قصدهم ديكارت والذين اصبحوا فخرا للانسانية والى الابد.

لماذا بكلمة اخرى توقفت الثقافة العربية منذ بضعة قرون ولحد الان عن انجاب “فلاسفة حقيقيين”؟

لقد حاول بعض التفسيرات التي سبقتنا تقديم اجاباتها على السؤال اعلاه، وغالبا بشكل غير مباشر على الرغم من أنها لم تطرحه على هذه الدرجة من الوضوح. واذا كنا ننعت هذه التفسيرات جميعا بالتهافت والاضطراب فذلك لانها على اختلافاتها الجوهرية تنطلق من ارضية ايديولوجية صريحة الى هذا الحد او ذاك. كما انها، وكأي تفسير ايديولوجي، تقع بالضرورة في نوع من الانتقائية والنظرة المنحازة، على مضض احيانا بالنسبة لبعضها، بحكم مشربها الايديولوجي ذاته ربما.

وابرز هذه التفسيرات ثلاثة مختلفة جذريا هي: العنصري والماركسي والتبسيطي.

يعود التفسير العنصري بولادته الى القرن الثامن عشر، ويمد جذوره في النزعة الذاتية الغربية وخرافة التفوقية اليهودية-المسيحية. وهذا التفسير الذي ولد وتطور في اوربا الغربية ما يزال يجد ممثلين له فيها وفي الولايات المتحدة الامريكية وايضا في جميع الاوساط التابعة للثقافة الغربية بما فيها الشرقية منها.

فحتى القرن السادس عشر، كان الاعتراف بالعبقرية الفلسفية للعرب والمسلمين ثابتا لدى المفكر الغربي. وقد عبر روجيه بيكون عن ذلك بوضوح قاطع عندما قال “ان المعرفة جاءت الى العالم اربع مرات: الاولى والثانية بالعبرية عبر الانبياء وعبر حكمة سليمان والثالثة بالاغريقية عبر ارسطو والرابعة بالعربية عبر ابن سينا..”. وواضح هنا ان ارسطو يرمز للعبقرية الفلسفية الاغريقية باعتباره نتاجها الطبيعي، في حين يرمز ابن سينا للعبقرية الفلسفية العربية والاسلامية باعتباره نتاجها.

لكن ابتداء من نهاية القرن السابع عشر، وبموازاة تصاعد القوة الصناعية والاقتصادية، وخصوصا العسكرية للغرب وتحفز الاخير للسيطرة على القارات الاخرى، راح الهمٌ الاول للمؤرخ والمفكر الغربي، يتجه نحو التخلص من الاعتراف بالعبقرية الفلسفية العربية. وقد اخذ هذا التوجه، في لحظة ما، شكل صراع عنيف داخل الاوساط الفلسفية الغربية ذاتها. ففي كتابه “تاريخ الفلسفة الحديثة” المنشور في عام 1816 يشير المؤرخ الالماني بوهل الى هذا الصراع قائلا: “حتى الفترة الاخيرة جرى اعطاء العرب وحدهم شرف نشر فلسفة ارسطو في الغرب، الا ان المؤرخ الحديث هيرن يدافع اليوم عن فكرة معاكسة ترفض الاعتراف للعرب بشيء في هذا المجال”.

ذلك الصراع سرعان ما حسم لصالح هيمنة الرأي الأخير بفعل تطور المركزانية الغربية التي راحت تطور تفسيرات عنصرية في هذا الميدان كما في غيره. وقد عبر المفكر الفرنسي ارنست رينان عن هذا الطابع العنصري بشكل فظ، عندما كتب في مقدمة كتابه “ابن رشد والرشدية” المنشور في عام 1852 قائلا: “ان الساميين (العرب) هم اعجز من يعطينا دروسا في الفلسفة. بل ان ما لديهم من فلسفة لا يمتلك اية اصالة او ثراء انما هو مجرد تقليد سيء للفلسفة الاغريقية”.
بلا شك ان هذا التفسير العنصري الذي يعتبر العقل العربي او الشرقي عاجزا عن التفلسف الاصيل لمجرد انتمائه للعرق السامي هو تفسير لم يعد يعبر عن نفسه اليوم بهذه الفظاظة الرينانية، خصوصا وان تقسيم الانسانية، وبالتالي العقول، الى اعراق آرية وسامية، لم يعد إلا كذبة باهتة ومفضوحة. بيد ان نكران قدرة العرب على الابداع الفلسفي الاصيل لا يزال فكرة سائدة بقوة، بل مهيمنة، في اوساط واسعة من العاملين في الحقل الفلسفي في الغرب. وتبذل الاوساط الصهيونية حاليا، كل جهد من اجل تعميقه وتكريسه (كما نجد ذلك في كتابات المستشرق الامريكي برنارد لويس مثلا) في حين تسعى هذه الاوساط بكل جهد بالمقابل، لابراز المشتغلين الصهاينة في حقل الفلسفة وطرحهم كفلاسفة كما هو حال الفرنسي برنار هنري ليفي وامثاله.

واجمالا، نستطيع القول ان التفسير العنصري لظاهرة غياب الفلاسفة في الثقافة العربية الحديثة والراهنة هو تفسير ساقط موضوعيا، ولم نذكره هنا إلا لانه موجود في بعض الاوساط الاستعمارية وبشكل مقنٌع لدى الاوساط الصهيونية.

اما التفسير الماركسي فهو شامل في منظوره الانساني، ونجده سائدا لدى هؤلاء الذين يؤمنون بان الفلسفة الماركسية هي ذروة الفلسفة وخاتمتها، معتبرين كارل ماركس آخر الفلاسفة الحقيقيين و”المادية الديالكتيكية” فلسفة علمية مطلقة. ومن بين القائلين بهذا التفسير مفكرون عرب نحترمهم.
ان العنصر الجوهري الذي يقوم عليه هذا التفسير هو، كما يبدو، رأي شهير لمؤسس الفلسفة الماركسية المنظر الاقتصادي والفيلسوف كارل ماركس ورد في “اطروحاته حول فيورباخ” نص على أن “الفلاسفة لم يفعلوا إلا تفسير العالم بطرق شتى بينما المطلوب تغييره”. والحال اننا لا نرى ان هذه المقولة يجب ان تقود بالضرورة، الى انتفاء الحاجة الى تطوير، او ابتداع تفسيرات جديدة للعالم، ما دمنا لا نرى وجود تناقض لازم بين الدعوة لتغيير العالم، وتلك الداعية الى تقديم تفسيرات جديدة، ربما، له. اما اذا كانت الدعوة لتغيير العالم تعني بالضرورة انتفاء الحاجة الى تفسيرات جديدة على اساس مطلقية صدق وكمالية وعلمية التفسير الماركسي فاننا نجد ان اطروحة ماركس تلك، تثير اشكالية عميقة من العسير قطعا على المدافعين عنها حلٌها، لانها تتضارب جوهريا مع خصوصية الفلسفة بين العلوم، اي باعتبارها العلم الوحيد الذي يسمح بالشك ويرفض قدرية الغاية ولا يمتلك هدفا يسعى الى تحقيقه. وباعتبارها العلم الوحيد الذي يبحث عن فهم العلاقة اكثر مما يبحث عن فهم السبب. بكلمة اخرى اننا لا نستطيع التحدث عن الفلسفة كما نتحدث عن الكيمياء والرياضيات لان الشك هو العمود الفقري للفلسفة، وليس اليقين كما هو الحال بالنسبة للعلوم الاخرى.

وعلى أية حال فان تفسير انعدام الفلاسفة في الثقافة العربية الراهنة، والثقافات الاخرى، بكونه نتيجة طبيعية لتتويج المادية الديالكتيكية “خاتم” تفسيرات الوجود والعالم، هو تفسير مضطرب كما يبدو. فنحن نعتقد ان مجيء تفسيرات جديدة لاحقة هو “حتمية” ونذهب ابعد من ذلك ونقول بان العقل الانساني لن يستقر ابدا على تفسير فلسفي واحد ونهائي، مهما كان هذا الاخير “علميا” وشموليا وجميلا، بل ستظل التفسيرات الفلسفية الجديدة تتوالى الى مالا نهاية. فها نحن نشهد اصلا، وبعد قرن واحد فقط على وجود الفلسفة الماركسية بيننا، ان هذه الاخيرة ليست مطلقة الكمال والشمولية في الاجابة عن الشاغل الوجودي الانساني في البحث عن ماهيته وكيفية التحقيق التاريخي الامثل لهذه الماهية. وهذه اللاكمالية تجد تفسيرها كما يقول الماركسي الفرنسي لوي التوسر في مداخلة له في ندوة فينيسيا المنعقدة بين 11 و 13 تشرين الثاني 1977 ، في “ان مؤسسي الماركسية كانوا اناسا مثلنا يتقدمون في ميادين مجهولة لذلك كانوا هم ايضا معرضين لارتكاب الاخطاء”.

علاوة على ذلك كله، ان ما يجعل الأمر اكثر احراجا هو ان كبار الايديولوجيين الماركسيين، منذ مطلع هذا القرن ولحد الآن، ينزعون تلقائيا الى طرح الماركسية –وهذا ما اضر بها عمليا- كنوع من المنظومة العقائدية وكايديولوجية شمولية صارمة لا ترى في المنظومات الفلسفية الاخرى المغايرة لها إلا ما يشبه الهلوسات والاوهام رافضين بذلك اي شكل من التعددية العقلية او التعددية في الموقف من تفسير الماهية الانسانية وتاريخانيتها.
اننا بكلمة لا نرفض دعوة الفلسفة الماركسية الى تغيير العالم وتغييره دون توقف ولا نرفض نقدها للفلسفات السابقة عليها، لكننا نرفض بالمقابل فكرة اننا لا نحتاج بعد الماركسية الى فلسفات جديدة وجديدة في تفسير العالم.

 
اذا انتقلنا الآن الى التفسير الثالث، والذي أسميناه بالتفسير التبسيطي عجالة، فيجب ان نلاحظ ان هذا التفسير يتميز بكونه يسير في اتجاه مناقض في ما يتعلق بتفسير حالة الفلسفة في الثقافة العربية. انه بمعنى آخر لا يرى ان هذه الثقافة مهجورة من الفلسفة مطلقا، بل يؤكد بالعكس بانها بالف خير وخير بل لا يتردد ان يسمي لنا بجرة قلم عشرات الكتاب او الاكاديميين كـ “فلاسفة عرب”. وهذا التفسير نجده بشكل خاص في اوساط بعض المؤلفين العرب المتأثرين بالصرعات الفرنسية لاسيما في المغرب ولبنان ومصر.

ان مصدر هذه الفكرة لديهم هو تأثرهم بالتقاليد الفرنسية او دراستهم في جامعات فرنسية حيث يسمى كل عالم فلسفة او مرجع في الفلسفة بالفيلسوف مجازا، والحال ان هؤلاء المؤلفين ينسون ان الاوساط الفرنسية الرسمية المشتغلة بالفلسفة لا تعترف فعليا بمكانة الفيلسوف إلا لديكارت او هيغل او ماركس او من ناظرهم ممن يمتلك منظومة فلسفية خاصة ومتميزة وبالمعنى العميق الى درجة لا يسمون معها حتى فولتير ومونتسكيو وكونت وسواهم بالفلاسفة إلا بتردد.

بلا شك، استدراكا، ان الثقافة العربية الراهنة افرزت متخصصين كبارا، ومجددين لامعي الانتاج وعميقي الفكر في ميدان الفلسفة بشتى ميادينها وموضوعاتها كزكي نجيب محمود وحسين مروة وعبد الرحمن بدوي ومحسن مهدي والجابري ومحمد اركون اذا اقتصرنا على ذكرهم وحدهم. إلا اننا هنا، حيال اخصائيين او مؤرخين كبار في العلم الفلسفي وليس قطعا حيال فلاسفة، نظرا لان ايا منهم لم يفلح بعد في قطع الخطوة الضرورية التي تفصل العالم او المرخ الفلسفي عن الفيلسوف. بل ان معظمهم لا يجد حتى الجرأة على خوض مغامرة المحاولة الفلسفية، لذلك فهم يلتزمون طواعية بضرورة الحفاظ على طقوس وقيود المنهجية المدرسية وغالبا بوعي.

اما البعض النادر الذي حاول الخروج -الى هذا الحد او ذاك- على تلك الطقوس فانه عجز موضوعيا عن الذهاب بعيدا ووجد نفسه مضطرا اما الى اقتفاء اثر المدارس والتيارات الفلسفية الغربية وتبني منظوراتها او تقليدها (كشأن زكي نجيب محمود مع الوضعية المنطقية وعبد الرحمن بدوي مع الوجودية وجورج مرقص او حسين مروة مع الماركسية) وبالتالي وراثة معطياتها بما فيها تناقضاتها،

واما، بالمقابل، الركض وراء خصوصية واصالة غائمتين مفترضتين ليسا في الواقع سوى توليفة بين مضامين سلفية وايديولوجية مقنعة واشكال غربية جديدة، وكذلك التقلب والتنقل بين محطات فلسفية مختلفة تمتد احيانا من الصوفية الى الوجودية، دون استراحة والاخفاق في بلورة هوية ملموسة او الارتكاز على دكة صلبة خاصة (الرحمن بدوي، الجابري، حنفي.. بين إخرين).، فان الحكم فيها لخصه في رأينا الراحل زكي نجيب محمود بقوله انها عبارة عن محاولات تقوم بشتل افكار فلسفية غربية مستوردة في تربة شرقية، او شتل افكار منقولة من العصر الاسلامي الوسيط في تربة ثقافة القرن العشرين.

واذا كانت جميعها قد اخفقت الى هذا الحد او ذاك او لم تنجح إلا في تقديم نتائج متواضعة فلسفيا فذلك برأينا لان المنهجيات التي اعتمدتها، بفعل غياب الشروط الجوهرية لتطوير منهجيات جديدة، قولبت حيوية عطاءات هؤلاء المفكرين-المؤرخين وقلصت من حريتهم في الحركة الابداعية التأملية ما ادى بالبعض الى تفضيل نوع من المظهرية المنهجية على حساب رصانة واصالة ومعاصرية المحتوى، في حين اغرق البعض الآخر في الخلط بين صنعتي الترجمة والتفلسف. وبين هذا وذاك ظهرت بعض الاسماء الواعدة إلا انها لم تستطع الذهاب -حتى الآن- بعيدا في تحليقها الحر بسبب وقوعها اما في قيود الوفاء لأيديولوجيا الشباب (ماركسية، وجودية، سلفية..) او في اغراءات الكتابة الادبية او التاريخية مفضلة الافراح الظاهرية لهذه وتلك، على اللذة السرية الخاصة بالفلسفة وحدها.

ان اكثر من واحد من استنتاجات هذا الجرد السريع سبق ان أثرناه من قبل في فحص محنة الفلسفة في الثقافة العربية او اثاره غيرنا نذكر منهم بوجه خاص ناصيف نصار في القسم الاول من كتابه “طريق الاستقلال الفلسفي”. إلا أن نصار الذي افلح في طرح مشكلة عدم استقلالية المتفلسف العربي، لم يفلح هو ايضا في الافلات من فخ اللااستقلالية. ويتجسد هذا الامر بشكل جلي في الاجوبة المستعجلة التي يقدمها من جهة والتي تخلط بين مفهوم الفلسفة والايديولوجيا. وفي البدائل الوهمية من جهة اخرى التي يسعى للدفاع عنها في القسم الاعظم من كتابه المذكور حيث يجهد لاثبات ان انطون سعادة وزكي الارسوزي واضرابهما من الايديولوجيين المحدودي الموهبة هم “فلاسفة حقيقيون”.

والحال ان اعتبار هؤلاء فلاسفة دعابة مضجرة. كما هي دعابة مضجرة اعتبار شارل مالك او كمال الحاج او الحصري او عفلق او هذا او ذاك من دعاة الايديولوجية القومية او الطائفية بالفلاسفة. ونفس الشيء يصدق بالنسبة للفقهاء ورجال الدين ممن يلفون افكارهم بقميص الفلسفة.

واذا كان لا بد من اطلاق صفة فيلسوف على بعض مفكرينا، فانا نفضل اطلاقها على الحبابي وعبد الرحمن بدوي وزكي نجيب محمود ومحسن مهدي لانهم يظلون في اخر الغربلة اكثر عمقا وحرية وشمولية وقلقا انسانيا على الصعيد الفلسفي من جميع معربي الايديولوجيات القومية واللاهوتية والطائفية المذكورين منهم هنا وغير المذكورين.

واختصارا لكل ما تقدم نقول بان الثقافة العربية الحديثة لم تستطع بعد انتاج هؤلاء “الفلاسفة الحقيقيين” بالمعنى الديكارتي المذكور. ونضيف بان هذه الثقافة لن تنتج منهم لفترة طويلة اخرى طالما ظلت المعايير الحضارية التي تحكم العالم العربي حاليا، سيدة الساحة مستقبلا والتي تتجسد بغياب الحرية بمعناها الشامل وليس فقط السياسي. فمعايير الاستبداد والقسرية والردع من جانب والقدرية والكبت والتقية من جانب آخر تحكم المعادلة الملموسة والميتافيزيقية للعلاقة بين الواحد منا والآخر وحتى الواحد ونفسه. وهذا الشكل من العلاقة هو الذي يحكم بداهة علاقة الحاكم بالمحكوم وعلاقة الدولة بالمجتمع المدني وعلاقة الجماعة بالفرد، والتي تتميز بهيمنة الاول وتدمير الاخير وتحويل الفرد الى مجرد رقم بين الارقام لا يمتلك من حريته اي من انسانيته سوى طابعها الفولوكلوري. ففي ظل معايير كهذه لا يبقى من الفلسفة إلا طابعها الفولوكلوري هي ايضا لانها تفتقر الى الشرط الموضوعي لتحققها العميق.

وهذا الشرط الموضوعي هو الحرية والحرية بالتحديد. لان الحرية هي ليست مجرد حاجة او ضرورة بالنسبة لفعل التفلسف، كفعل ابداعي، انما هي مادة وجوده الاساسية واكاد اقول الوحيدة لان الفلسفة في اسمى تعريفاتها، في تعريفها الاول والاخير ليست شيئا آخر غير الحرية. وما دامت هذه غائبة في العالم العربي فما من أمل ان تزدهر الفلسفة بيننا من جديد بل انه امر طبيعي ان تهجرنا وتزعل علينا لانها-كأية حسناء-لا تحب إلا عشاقا اصحاء الحيوية ومغامرين واحرارا يجرأون على قراءة اسرارها. اما العشاق الشاحبين البكائين الباردي الاحضان فانها تهجرهم دون اسف حتى اذا كتبوا لها قصائد التوسل والاسترحام ليل نهار. وان انتفاء الفلسفة او تدهورها في ثقافة ما، ما هو في الجوهرسوى نتيجة لانعدام قدرتها على انجاز مهمتها الوحيدة وهي العودة الى الفرد والسؤال عن حريته وانسانيته. ليس بطرا اذن، او طمعا بسلطة، ان يتوصل افلاطون في جمهوريته الى يقين قاطع بان جمهورية نموذجية في حماية الحرية لا يمكن ان يوكل فيها الحكم إلا للفلسفة والفلاسفة. وليس عبثا ان يؤكد ابن رشد بان الفرد يجب ان يدرك قبل اي شيء بانه حر. وليس مجانا ان يوبخ الجاحظ العرب لانهم يخلطون بين الحر بمعنى السخي والحر بمعنى الحر. فاذا كانت الديمقراطية هي مدينة الحرية، فان الحرية هي مدينة الفلسفة. وهكذا فان التاريخ يعلمنا بان الفلسفة لم توجد ولم تزدهر في مرحلة او أخرى إلا عندما اقترنت بوجود نطام اجتماعي-سياسي يحترم المفكر كفرد ويسمح بفسحة من الحرية له فازدهار الفلسفة في بلاد الاغريق القديمة مدين بشكل كبير للنظام الديمقراطي البسيط الذي عرفته الجزر الايونية في القرنين السادس والخامس قبل الميلاد. وازدهار الفلسفة في الشرق الاسلامي مدين حتى الاذنين للخليفة المأمون. كما  ان ازدهار الفلسفة في الغرب الحديث ما كان سيحصل لولا النظام الديمقراطي الدستوري التعددي-على علاته- الذي قام في الدويلات الايطالية وانكلترا وهولندا والمانيا وفرنسا وغيرها.
صحيح جدا ان الحرية التي اشاعتها هذه الانظمة هي حرية نسبية وموضعية ما دمنا نعرف ان المجتمعات الاغريقية القديمة قامت على النظام العبودي اللاانساني ونظام المأمون قام على نوع من التوسعية العسكرية والدينية وان انظمة الغرب الحديث قامت على ابادة الهنود الحمر واستعباد الافارقة السود ونهب القريب والبعيد من شعوب الارض. وصحيح بالتالي اننا نقيم هذه الاستنتاجات على الكثير من التجريد، بيد ان هذا التجريد يظل مشروعا. فهذه الانظمة بالقدر الذي اشاعت فيه بعض الحرية للفلسفة، هي، نسبيا، انظمة تحترم الذات الانسانية مهما كان هذا الاحترام محدودا او مجبرة عليه. اما الانظمة التي تعامل المواطن والافراد معاملتها للقرود فهي انظمة يقودها قرود حتى اذا اطلقوا على انفسهم لقب “الشيخ الحكيم” او “القائد المفكر” او “العقيد الفيلسوف”. فقد كان ارسطو يقول للاسكندر المقدوني “اياك وتحويل الناس الذين تحكمهم الى بهائم لانك ستكون انت بهيمة ايضا. لأن من يترأس البهائم لا يمكن ان يكون إلا بهيمة”.  فليس مدهشا اذن ان تنتعش الفلسفة في ظل الاسكندر المقدوني وتهجر ثقافة يحكمها شعار “من تمنطق تزندق” ومن تزندق يستحق القتل. وليس مدهشا ان تزدهر الفلسفة في قرون دولة عباسية يستطيع فيها الفرد ان يتنقل من طاشقند الى قرطبة كما يشاء ودون نقاط تفتيش وان تنطفيء في عالم عربي راهن يحتاج فيه الفرد الى الف عريضة استرحام وتذلل للعريف او السركال الحاكم حتى يحصل على جواز سفر او ختم الموافقة على الانتقال من قرية الى قرية مجاورة.


انتهى
*  د. حسين الهنداوي، شاعر ومتخصص في الفلسفة الهيغلية. له مؤلفات فلسفية عديدة من بينها “التاريخ والدولة ما بين ابن خلدون وهيغل” (الساقي)، و”هيغل والاسلام” بالفرنسية، و”مقدمة في الفلسفة البابلية”، و”فلاسفة التنوير والاسلام” و”استبداد شرقي أم استبداد في الشرق”، و”على ضفاف الفلسفة” و”هيغل والفلسفة الهيغلية و”الفلسفة البابلية” وغيرها…

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *