رجاء السوداني
صدر بالفرنسية في باريس عن دار نشر) Orients عوالم الشرق) كتاب Hegel et l”islam (هيغل والإسلام) من تأليف حسين الهنداوي. والكتاب يمثل أول دراسة حول هذا الموضوع المحدد، وهي في الأصل أطروحة دكتوراه في الفلسفة قدمها المؤلف إلى جامعة بواتييه الفرنسية في عام 1987.
ويرى المؤلف الحائز الدكتوراه في الفلسفة من جامعة بواتييه الفرنسية، أن الأهمية الاستثنائية لدراسة منظور الفيلسوف الألماني جورج فيلهلم فريدريك هيغل Georg Wilhelm Friedrich Hegel ( 1770-1831) حول الإسلام، يفرضها واقع إن الفلسفة الهيغلية تمتلك إلى الآن نفوذاً متزايداً في تبرير النزعة التفوقية الغربية. وهذا يصدق بشكل خاص في مجال فلسفة التاريخ الهيغلية التي تبدو إلى اليوم اكثر الفلسفات تأثيراً في كل النظريات والأيديولوجيات السياسية الغربية الكبرى المحافظة منها، كالليبرالية والثورية كالماركسية، وغيرهما على حد سواء نظرا كما يرى المؤلف إلى أن الفلسفة الهيغلية تبدو اليوم مصدر كل ما أنجز في الفلسفة منذ نحو قرنين، بل هي بالنتيجة الفلسفة التي تغير مصير العالم بتأثيرها.
ويأتي في هذا الصدد، الجدل الحاد الذي أثاره في مطلع القرن الحالي المنظّر الاستراتيجي الأمريكي فرانسيس فوكوياما عبر فكرته حول ما سماه بـ(نهاية التاريخ) التي أشاعت أن الهيغلية تنبأت بالانتصار الحتمي وحتى الأبدي للعقل الأمريكي، كعقل كوني على النظم العقلية الأخرى، حيث اعتبر أن طلائع ذلك الانتصار تمثلت بسقوط جدار برلين وأثره في الامبراطوية السوفييتية وولادة «النظام العالمي الجديد» متمثلا بالسيطرة الكونية للنظام الليبرالي الرأسمالي بنموذجه الأمريكي خاصة، زاعما وهو ما تراجع عنه لاحقا، إنه يستند في استنتاجاته تلك على تفسير خاص به، استلهمه من الفيلسوف الروسي كوجيف، لأطروحات هيغلية حول هذا الموضوع. وبعد ان يعرض المؤلف جوهر الفلسفة الهيغلية حول التاريخ والدولة والدين يتناول، بتفصيل موثق، المنظور الهيغلي حول الإسلام كدين وحضارة وتاريخ وفلسفة ودولة وقوة سياسية كونية وغيرها، معتبرا أن فهم هذا المنظور يسمح بشكل كبير بامتلاك رؤية أكثر وضوحاً عن مشكلات الموقف من الإسلام في الفلسفة الغربية الحديثة والمعاصرة إجمالاً، لاسيما الفلسفة السياسية وفلسفة التاريخ وانعكاسات ذلك في شتى جوانب الثقافة الغربية من جهة، ويسمح من جهة أخرى في إدراك مصدر الكثير من التناقضات العميقة والمظاهر التي تطبع إشكاليات الفكر الغربي الراهن حيال الإسلام والشرق عموماً، والعالم العربي والشرق الإسلامي خاصة، مبينا أن هيغل كان قارئاً مستمراً للكتب باللغات الفرنسية والإنكليزية واللاتينية، إضافة إلى الألمانية، ما يجعل من العسير جداً تقديم جرد للمؤلفات التي أخذ منها مادته عن الإسلام.
يكشف المؤلف أن هيغل تعرف على الإسلام منذ أن كان طالباً في المدرسة اللاهوتية اللوثرية المسماة بـ«ستيفت توبنغن» التي تخرج منها بنجاح، مرشحة إياه ليصبح قساً بروتستانتيا.
ويكشف المؤلف أن هيغل تعرف على الإسلام منذ أن كان طالباً في المدرسة اللاهوتية اللوثرية المسماة بـ«ستيفت توبنغن» التي تخرج منها بنجاح، مرشحة إياه ليصبح قساً بروتستانتيا. ففي هذه المدرسة كانت العلاقة بين المسيحية والإسلام، موضوعا أساسيا من مواضيع مادة التاريخ، لكنها تعتمد المواقف التقليدية التي كونتها الكنيسة حيال الإسلام منذ القرن السابع الميلادي، مدعومة بالتراث الغربي المسيحي المتكون خلال القرون الوسطى الأخيرة كنتيجة للحروب الصليبية، إلى جانب المخاوف من الأخطار العسكرية التي كانت تمثلها الامبراطورية العثمانية على ألمانيا في زمن مارتن لوثر، وحتى فترة قريبة من ولادة هيغل. بيد أن موقف هيغل تأثر أيضا بمواقف فلاسفة التنوير من الإسلام التي كانت مصدراً أساسياً في منظور هيغل في هذا المجال، فقد قدمت له مادة ثرية وعميقة ولكنها تركت عليه آثار تناقضاتها في الوقت نفسه. وعلى العموم، كانت معلومات هيغل عن الإسلام والعرب والشرق الإسلامي، مهمة جداً نسبياً وواسعة ومتنوعة بشكل مثير، ولهذا فهي ستسمح له ببلورة منظوره الفلسفي الخاص حول الضرورة التاريخية، والطبيعة العميقة للإسلام كمكون أساسي في الحضارة وفي التاريخ الإنساني. وهذا المنظور يبدو كاملاً وعميقاً في الواقع، إذا تفحصنا كتابات هيغل بدقة، على الرغم من أن آراءه بهذا الصدد تكاد تكون متفرقة وثانوية، في كتاباته التي نشرها في حياته وحتى في دروسه البرلينية، التي تحولت بعد موته إلى مؤلفات مهمة مثل «دروس فلسفة التاريخ» و»دروس فلسفة الدين» و«دروس تاريخ الفلسفة» و«دروس فلسفة الجمال».
ويرى الهنداوي أن معرفة خصوصية منظور هيغل حول الشرق الإسلامي ومختلف جوانب هذا المنظور، أي موقفه من الدين الإسلامي، ومن الفن الإسلامي ومن الفلسفة الإسلامية ومن التاريخ الإسلامي اجمالاً، لاسيما السياسي منه، يصعب فهمها بدقة إلا في إطار فلسفة التاريخ الهيغلية.
فظهور الإسلام في الشرق بالذات وبعد المسيحية، يبدو مناقضا للمنظور التطوري الجغرافي- التاريخي، الذي يعتمده هيغل في فهم سيرة أطوار التاريخ الكوني، لأننا لا نستطيع أن نفهم كيف يستطيع الشرق أن يلعب دوراً عالمياً في تطور الوعي الكوني، في حين أن هذا التطور لا يمكن أن يحصل إلا في الغرب في ذلك الطور، فضلا عن أن ظهور الإسلام بعد المسيحية تاريخياً، لا بد أن يقود إلى الاستنتاج بأن الإسلام كوعي روحاني، هو بالضرورة أكثر تطوراً من الوعي الروحاني المسيحي، لاسيما وأن هذا الاستنتاج يبدو بديهياً إذا احترمنا المنهج الهيغلي نفسه. فإلى أي حدود التزم هيغل نفسه بهذا المنهج الذي أراد له أن يكون علمياً وصارماً، وإلى أي مدى استطاع الانحياز لـ»العلم الفلسفي» والتحرر من انحيازه الطبيعي لثقافته الخاصة؟
يلاحظ المؤلف في البدء أن النصوص التي يتحدث فيها هيغل عن الإسلام توحي لنا بأن هذا الفيلسوف الألماني الكبير واجه مشكلة حقيقية في إدخال الإسلام في نظامه الفلسفي، وهي مشكلة تفضح في رأينا تناقضاً جوهرياً في عمق نظامه الفلسفي. ومما يدهش جداً أن دروسه حول فلسفة الدين، لا تضم أي فصل مكرس للإسلام، على الرغم من أنه حلل في هذه الدروس جميع أديان البشرية الصغيرة والكبيرة الأخرى، ومع ذلك فإن ما هو موجود يكفي للقول بوجود منظور كامل لدى هيغل حول الإسلام.
هذا التطور الذي تحققه الديانتان المسيحية والإسلامية، يأخذ اتجاهاً متضاداً بالنسبة لأحدهما الآخر. فقول المسيحية بمبدأ الاتحاد بين الله والإنسان عبر فكرة التثليث «الأب والابن وروح القدس» وبمبدأ نزول الابن إلى الأرض للتضحية من أجل الإنسان، يتضمن حسب التفسير الهيغلي مفهوماً عميق الدلالة على إيجابية قيمة الإنسان ضمن هذا الاتحاد.
خصوصية الدين الإسلامي في الفلسفة الهيغلية
يرى هيغل «أن الدين الاسلامي هو دين روحاني مثل الدين اليهودي، لكن مضمون الإسلام يطابق مضمون الدين المسيحي، لأن فكرة الله الإسلامية تناظر في تطورها فكرة الله المسيحية. وهذا يعني حسب المؤلف أن الروحانية الإسلامية عند هيغل بمثابة تجاوز عميق للروحانيتين اليهودية والكاثوليكية، باتجاه الوصول إلى الروحانية المسيحية «في صيغتها البروتستانتية» التي هي بالنسبة لهيغل المجسد الأكثر اكتمالاً للحقيقة الإلهية والوعي الأعلى للعلاقة بين الذات الإلهية والذات الإنسانية. أما العلاقة مع الروحانية اليهودية فيحددها هيغل على الشكل التالي: إن فكرة الله الواحد الأحد في اليهودية، تمثل تقدماً هائلاً يحققه الوعي اليهودي على جميع مراحل الوعي الشرقي. فالإله الذي يبدو متجسداً في الإمبراطور في الصين، وفي أعلى هرم الطبقات في الهند، وفي النار في المجوسية، يفارق الطبيعة المباشرة أو الشيئية، عبر قطيعة حاسمة ومطلقة مع الأشياء، ليصبح إلهاً ذا محتوى روحي بحت لا يدرك بالحواس المجردة إنما عبر التأمل والفكر فقط. علاوة على ذلك فهو يبدو للتأمل الواعي كذات حرة سامية ومريدة، لكن ما ينقص الوعي اليهودي هذا هو سلبية تصوره للعلاقة بين الإنسان والذات الإلهية. فانعدام فكرة الحياة بعد الموت في اليهودية من جهة وتجريد الإنسان الملموس من أي قيمة إيجابية في الدنيا حيال «يهوه» من جهة ثانية تمثل جانبين سلبين في الوعي اليهودي، لأن هذا الوعي يعجز عن إدراك حقيقة أن الإقرار بقيمة الذات الإلهية تتطلب كشرط سبق الإقرار بقيمة الذات الإنسانية، صحيح أن الشعب اليهودي يجد قيمة وقناعة بفكرة كونه «شعبا مختارا» من قبل الله، إلا أن هذه الحقيقة هي قيمة وهمية متخيلة وحسب. وعلاوة على ذلك فإن القول بوجود شعب مختار من قبل الله ينطوي بحد ذاته على تجريد للذات الإنسانية من قيمتها الفعلية، لأن فكرة الشعب المختار تحصر هذه القيمة بمجموعة من الناس فقط (أي اليهود) في حين أن الحقيقة الإلهية المطلقة لا تعرف هذا التعبير. ولذلك فإن المسيحية والإسلام يمثلان تقدماً هائلاً على اليهودية، بإلغائهما فكرة الشعب المختار وإقرار مبدأ المساواة بين جميع الشعوب والأفراد، فيما يتعلق بإمكانية الاتحاد الروحي مع الله واستلام حقيقته.
لكن هذا التطور الذي تحققه الديانتان المسيحية والإسلامية، يأخذ اتجاهاً متضاداً بالنسبة لأحدهما الآخر. فقول المسيحية بمبدأ الاتحاد بين الله والإنسان عبر فكرة التثليث «الأب والابن وروح القدس» وبمبدأ نزول الابن إلى الأرض للتضحية من أجل الإنسان، يتضمن حسب التفسير الهيغلي مفهوماً عميق الدلالة على إيجابية قيمة الإنسان ضمن هذا الاتحاد. وهذا ما تؤكده نصوص الكتاب المقدس الأخرى القائلة مثلاً «إن الله خلق الإنسان على صورته كمثله» وغيرها. إذ أن مجموع هذه المبادئ ينعكس في الدولة التي تخرج من المسيحية، جاعلاً منها دولة عدالة وموازنة بين الذات الإنسانية والذات الجماعية، ودولة ديمقراطية وحقوق. وينعكس في الفن والفلسفة وغيرها من العطاءات الروحية الملموسة، بجعل الاهتمام بالإنسان وتجسيد قيمته المذكورة هدفاً مركزياً لها ومحوراً لأنشطتها وتأملاتها.
أما في الإسلام فإن فكرة القول بالمساواة المطلقة للبشر، لا تقترن بفكرة الاتحاد بين الله والإنسان حسب هيغل. إنما بفكرة الانفصال بينهما. وهذا الانفصال مؤسس في الجوهر على مبدأ إلغاء أي قيمة للإنسان الملموس أمام القيمة المطلقة للذات الإلهية وهذه الفكرة يعبر عنها هيغل كما يلي:
«إن الإسلام يكره ويحتقر كل ما هو ملموس. فالله هو واحد مطلق بشكل لا يبقى فيه للإنسان أي هدف لذاته وأي قيمة خاصة». ويضيف هيغل: «أن الهدف الذي يسعى له الإسلام هو هدف ذهني بحت، لذلك فهو لا يسمح بأي تصوير أو تمثيل لله». هذا الهدف الذهني البحت يقود الوعي الإسلامي إلى نوع من العدمية والشعور الذاتي باللاقيمة، وكذلك الشعور بضرورة احتقار وتدمير كل ما هو ذو قيمة من الموجودات الملموسة، لأن كل شيء يجب أن يفقد قيمته أمام عظمة ومطلقية القيمة الإلهية.
هذا هو باختصار شديد موقف هيغل من الإسلام والعالم الإسلامي وحضارته. وعموماً فإن الاستنتاج الكبير الذي تقدمه لنا دراسة منظور هيغل حول الإسلام حسب المؤلف هو، أن هذا المنظور سطحي وتبسيطي ومتناقض للغاية. وهذه الأمور تجد أصولها الجوهرية في منطلقات نظامه الفلسفية وانحيازه المسبق لثقافته الغربية – المسيحية.