
د. حسين الهنداوي
- يقف فنان الكاريكاتير العراقي مؤيد نعمة كأبرز نظرائه في بلاد الرافدين خلال الفترة المعاصرة الزاخرة بنخبة مهمة من رسامي الكاريكاتير العرب المعاصرين المتميزين تصدروا حركة طموحة حيوية واكاد اقول تاريخية سعت الى منح الكاريكاتير العربي مكانة جمالية رفيعة وبرز منها رسامون مثقفون لعل ابرزهم في العقود الأخيرة من فلسطين ناجي العلي ومن مصر صلاح چاهين ومصطفى حسين ومن سوريا يوسف عبدلكي وعلي فرزات وسعد حاجو ومن المغرب عبد الله درقاوي ومن الأردن عماد حجاج ومن اليمن رشاد السامعي ومن البحرين سارة قائد ومن العراق أيضا عبد الرحيم ياسر وطالب مكي ونزار سليم وضياء الحجار وأديب مكي ورائد نوري وعلي المندلاوي وموسى الخميسي وخضير الحميري ووليد نايف وعبد الكريم السعدون وعباس فاضل وشهاب الحميري وعامر رشاد وكفاح محمود وكاظم شمهود وغيرهم.
بيد ان نكبة صامتة حلت بفن الرسم العراقي عام 2005 برحيل مؤيد نعمة، نكبة تضاعفت بفعل الطابع المباغت وأكاد اقول الغادر الذي تلبسه ذلك الرحيل في لحظة كان فيها الفنان الكبير النفس والموهبة في ذروة تألقه وتحضيراته للعطاء الحياتي والتشكيلي الاهم في كل عمره ربما، ومن بينها معرض كبير مشترك مع صديقه الفنان عبدالرحيم ياسر كان من المتفق ان يتم افتتاحه في لندن نهاية العام نفسه ثم ينقل الى عدد من عواصم االفن الاخرى للتعريف بهذا الوجه الحيوي من الفن التشكيلي العربي المعاصر.
والحقيقة ان غياب مؤيد نعمة مثّل خسارة عميقة أيضا للحركة الابداعية العراقية والعربية الناهضة كلها من رماد الكبت والسطحية والفجاجة وجروح الاضطهاد والقمع باتجاه الحرية والسمو والمستقبل. فمؤيد نعمة في هذا الميدان، من خلال اعمال جريئة وطليعية كثيرة، بدا رائدا مبادرا وأميرا كريما بلا ادنى جدال. وهذا ما استطيع الشهادة عليه عن قرب ومعرفة مباشرة من خلال صداقة واثقة وكثيفة في آن من خلال مؤسسة “عراق للابداع” التي كنا قد أسسناها في بغداد آنئذ ولعب هو في انشائها وارسائها دورا اساسيا كما حرص على تصميم شعارها مانحا فيه كلمة (عراق) اقصى ما يمكن من الخصب والمجد وبإصرار لم يكن لأي من الاعضاء العشرة او اكثر المؤسسين الا الاستجابة لفكرته.
وأقول كثيفة لأنني اعرف واحترم فن مؤيد نعمة منذ نحو نصف قرن، وبشكل خاص منذ معرض عالمي لفن الكاريكاتير اقيم في النصف الثاني من الثمانينات في “معهد العالم العربي” بباريس وشارك فيه بلوحتين اثارتا جدلا كبيرا حول موهبة رائعة ولامعة عرفت كيف تتسامى على الرطانة المجانية دون ان تفقد مسامة واحدة من روحها العراقية الجليلة: “المهم في فن الكاريكاتور ليس قوة الصنعة بل قوة الأفكار” كما قال لنا مرارا، وهذا ما ظللت أواصل اكتشافه من خلال اربعين سنة من المتابعة المبعثرة لكن العميقة دائما لرسوم هذا الفنان الكبير الباحث دائما عما وراء الابتسامة والذي منح السخرية وظيفة سامية ورصينة وان بدت مثقلة بالحزن والاسئلة الاليمة غالبا. لكنها صورة بدت مرشحة اخيرا للتغيير جديا لأول مرة منذ عقود.
هل بعد هذا نستطيع تلمس حجم الضربة القاسية التي تلقاها كل واحد منا بفقدان ذلك الانسان الثري بالامل بالوطن وبالتواضع الجم ايضا؟ بالنسبة لي لم اجد امامي سوى الهرب من تصديق خبر رحيل هذا الفنان الحيوي المولود في بغداد عام 1951 والمتوفي فيها في 26/11/2005 والمعروف في كل بلاده والبلاد العربية بجرأته الفنية في تناول محرمات فن الكاريكاتير عبر رسومات لم تنقطع ابان العقود الثلاثة الاخيرة من حياته والذي كان قد نشر اول رسم له في عمر السادسة عشرة ليشارك بعدها بعامين في تأسيس اول مجلة للاطفال في العراق، وليشرع بعد ذلك بعامين في العمل رساما كاريكاتوريا في الصحافة اليومية، قبل ان يتخرج من “معهد الفنون الجميلة” ببغداد عام 1971، ثم من “اكاديمية الفنون الجميلة” حاصلا على شهادة البكالوريوس من قسم السيراميك.
وهكذا فمنذ بدايته كرسام قبل ستة عقود، قرر مؤيد ان تكون رسومه محددة وهادفة وان لا يرسم الا ما يريده هو متطلعا في ذات الوقت وعن وعي خفي الى الاقتراب من عالمية انسانية تنبذ السذاجة والارتجالية في الكاريكاتير لصالح الفكرة والحلم والامل وكل ما هو نير في الذات الانسانية العالمية. ومؤكدا ايضا ان (ما افكر به هو ان اكون قريبا من احداث بلدي وهذا هو حال جميع رسامي الكاريكاتير في العالم أجمع محاولا ترجمة ما اشاهده واشعر به الي رسوم انشرها).
لقد اخطأ اولئك الذين اعتقدوا ان مؤيد نعمة صور الكوميديا السوداء ليضحك منها الناس في بلاده. بينما كان هو يصور آلامهم هم، وتحديدا لأنها آلامهم، بينما كان الفنان الراحل “يغلي من الداخل” كما قال عنه ناقد لامع مرة. فآلامهم تلك ذاتها هي ما كان يحملها في جسده على الاقل منذ عام 1979 عندما اعتقل وتعرض الى التعذيب وظل يعاني من ضعف السمع نتيجة الضرب المبرح في السجون البعثية.
اللقطة المباشرة هي النافذة المبدئية لرسام الكاريكاتير، لكن اللقطة المباشرة هي عملية معقدة الابعاد عندما يتعلق الامر بفنان عميق الألم كمؤيد نعمة. وهو بهذا اقرب الى مغامرة ناجي العلي: فنان تشكيلي كبير وملتزم وانساني دفعة واحدة، لذا فهو يتخلى تلقائيا عن اي قضية عابرة لصالح قضية واحدة تغدو المحور في العمل الفني، لأنه جعلها محور قضية حياته الواضحة والدقيقة بذاتها. وكما هي فلسطين لدى ناجي العلي فانها الوطن لدى مؤيد نعمة: “ما افكر به هو ان اكون قريبا من احداث بلدي لأن معاناة وطني كبيرة وقد أخذت حصة كبيرة من تفكيري” قال مرة، مضيفا “ان اعمالي بالذات ابتعدت عن حدود اللوحات واتجهت نحو السخرية السوداء. ولأني اعتدت ان اغرف من بحور الثقافة والمواجهات الحقيقية مع الواقع لنقل ما يتعرض له الانسان المضطهد”. لكن فلسطين كانت هي ايضا تعيش مع مؤيد الذي اقتحم عالم الكاريكاتير العربي في ايام حرب حزيران عام 1967، برسم يمثل الرئيس الامريكي الاسبق جونسون، وهو يرفع بدل شعلة تمثال الحرية الامريكي الشهير قنبلة “نابالم” من تلك التي كانت اسرائيل قد استخدمتها في الحرب المذكورة ضد العرب.
هذا التوجه الواعي الطوعي والثابت لتبني السخرية السوداء منهجا فنيا هو تحديدا ما يمنح مؤيد نعمة موقع لامع بين رواد فن الكاريكاتير العربي وخاصة العراقي الذي لم يعرف مبدعا هكذا من قبل برغم عدد مهم من الفنانين الكبار الذين عرفهم قبله ليس مصطفى ابو طبرة وغازي وبسام فرج الا أشهرهم. فمؤيد نعمة كان الفنان العراقي الاول الذي جعل ثلاثي الفكرة والمهارة والجرأة اللاتجارية في العمل الفني معياره الوحيد في العمل ودون مساومة تذكر.
ففي بلده والعالم العربي كله في الواقع، لم ير هذا الفن النور الا بعد الافلاس المبارك للنظام الشمولي القمعي ونسخه الشوهاء، برغم ان هذا الفن كان قد سجل ولادته الفعلية كفن اوربي في القرن الثامن عشر (عبر رسوم الانجليزي هوغارت الذي رسم في 1730 اول المشاهد السياسية كاريكاتيريا معطيا الفن هويته الابداعية الخاصة وكذلك عبر اعمال رولاندسن وجيلراي وغريشانك وهيلث، ومع ولادة جريدة “كاريكاتور” في فرنسا كأول صحيفة كاريكاتيرية بمشاركة عدد من كبار رسامي الكاريكاتير آنئذ ومنهم غوستاف دورا ودوميي وشام وغيرهم) قبل ان يبلغ في نهاية القرن العشرين عصره الذهبي الفعلي عالميا.
ورغم أن صاحب مجلة “المؤرخ” العراقية رؤوف عيسى أكد في مقال له نشر في مجلة “النجم” عام 1934 أن ظهور رسوم الكاريكاتير في العراق كان أسبق من ظهورها في مصر وبلاد الشام مشيرا الى نشر رسوم كاريكاتيرية عديدة في جريدة “جورنال العراق” التي اصدرها الوالي داوود باشا عام 1816 في بغداد كأول جريدة في المنطقة، فاننا نعتقد بأن تطور هذا الفن كان اسرع في مصر ولبنان بفضل تطور الطباعة والنشر فيهما باعتبارهما من لوازم ايصال الرسوم المطبوعة ومنها الكاريكاتير كما نعتقد بوجوب اعتبار مطلع الستينات كتاريخ لظهور اول رسام عراقي يعتمد فن الكاريكاتير حصرا في التعبير عن افكار او مطالب اجتماعية او سياسية او ثقافية. فلقد كان هناك رسامو أمثال شعبية وطرائف للترفيه مهدوا وحسب لفن الكاريكاتير لدينا الذي استفاد في ولادته من محاكاة فناني كاريكاتير غربيين أكثر من استفادته من الرسامين العرب الذين، باستثناء قلة قليلة، كناجي العلي في فلسطين ويوسف عبدلكي في سوريا، كانوا اجمالا اما من رسامي الحكايات شعبية والنوادر الاجتماعية او من مروجي المواقف الاعلامية والسياسية لهذه الحكومة او تلك مقابل أجر هو الهدف الحقيقي وليس الفن.