صوتٌ لبهجة الوجود

رائد الغناء الريفي العراقي عبد الامير طويرجاوي..

د. حسين الهنداوي

اتذكر في صغري انني سلمت عليه اكثر من مرة حوالي عام 1956 او بعده بقليل في مدينة طويريج، جنة الفرات، ايام بحبوحتها العتيدة وحيث كان في إقامة اجبارية عقابا على انحيازه في 1941 الى جانب ثورة مايس الوطنية العراقية المناهضة للانتداب البريطاني على بلاد الرافدين. قامته المهيبة وسحر صوته كان حديث الناس رغم عدم ظهوره الاجتماعي الا في مناسبات عابرة. كان صديقا لوالدي وكلاهما من رواد مجلس القزويني الادبي، الا انني لم اعرف شيئا مهما عن رفعة مكانته الفنية وحتى نشاطاته السياسية خلال ثورة مايس الا بعد وفاته في عام 1970، وخصوصا منذ مطلع التسعينيات الماضية حيث لم يعد الراحل عبد الأمير طويرجاوي مجرد “أمير الغناء الريفي العراقي” الاول كما اسماه في دراسة جميلة الفنان والناقد حسين السكاف بل بدا ايضا ذلك الفنان المبدع الذي منح غناءنا الريفي ترفا خاصا ونوعا من بهجة وجود هي ذاتها التي نهض عليها لاحقا اجمل ما لحنه موسيقيونا الكبار محمد جواد اموري وطالب القرغولي وكوكب حمزة وسامي كمال وكمال السيد ونامق اديب وغيرهم وغناه مطربونا الاشهر كحسين نعمة ورياض احمد وقبلهم حضيري ابو عزيز وداخل حسن وناصر حكيم وحسن داود وسواهم وقد فاقهم جميعا.

ولا تزال تثير الشجن اغنية خالدة بنغم المنصوري وطور طويرجاوي ومطلعها: (سيف العسر للدلال كلما/ ومن عسره يكت الدمع كلما/ أنا للگلب أداوي اعجزت كلما/ أداوي جرح سال آخر عليّ)، وهي كلمات (ملمّع) مستلهمة من قصيدة الشاعر الرائع ابن النحّاس الحلبي التي مطلعها

لا تسل عن حال ارباب الهوى *** يا ابن ودي ما لهذا الحال شرحُ

لست أشكو حرب جفني والكرى*** لم يكن بيني وبين النوم صلحُ

كم أداوي القلب قلّت حيلتي *** كلما داويت جرحا سال جرح

وكذلك اغنيته الجميلة الملمعة الأخرى: (الوادم صايره بهلوكت عرضه/ تسولف بالگصير وطال عرضه/ ابنادم لو ما يدنسه اللؤم عرضه/ جميل شما لبس بين البرية)، التي تستلهم قصيدة للشاعر الجاهلي السموأل ومطلعها:

 إِذا المَرءُ لَم يُدنَس مِنَ اللُؤمِ عِرضُهُ

فَكُلُّ رِداءٍ يَرتَديهِ جَميلُ

ونذكر أيضا اغنيته الشهيرة الى الآن (شنهو الراي دليني) التي رددها بعد وفاته عدد من كبار المطربين العراقيين ومنهم حميد منصور وسعدي البياتي، وهي مؤسسة على رائعة الشاعر الشهير قيس بن الملوح المعروف بلقب مجنون ليلى ومطلعها:

نَهاري نَهارُ الناسِ حَتّى إِذا بَدا *** لِيَ اللَيلُ هَزَّتني إِلَيكِ المَضاجِعُ

لَقَد ثَبَتَت في القَلبِ مِنكِ مَحَبَّةٌ *** كَما ثَبَتَت في الراحَتَينِ الأَصابِعُ

والتي يختم موالها بقول ابن الهبارية، وهو شاعر بغدادي عاش في القرن الخامس الهجري، موصياً حبيبته:

فلا تجـعلي بيني وبينكِ ثالثاً *** فكلُّ حديثٍ جاوز اثنين ذائعُ

والفنان والشاعر هو عبد الامير كاظم حمادي ابو محمد علي المولود في مدينة الهندية (طويريج) عام 1886 وفيها عاش طفولته وترعرع ونشأ منذ صباه في مجالس الادب التي كان يحضرها الشاعر السيد رضا الخطيب والشاعر الشيخ علي البازي ومنها مجلس الاسرة القزوينية في الهندية وهو مجلس فقه وسياسة أيضا يدعمه موقع اجتماعي رفيع قادم من مكانة هذه الاسرة الدينية العريقة والمتفتحة التي اشتهر من رموزها في الهندية آنذاك العلامة السيد صالح القزويني وابنه العالم والاديب السيد هادي القزويني وهو شخصية سياسية على المستوى الوطني وقد زاره الملك فيصل الاول، عندما وصل الى العراق متوجا على عرشه للتو ودعاه ليكون وزيرا في اول حكومة عراقية  بعد 1920 الا انه تجنب الدخول في حكومة تحت اشراف الاحتلال البريطاني.

في تلك الاجواء تفتحت المواهب الفنية لعبد الأمير طويرجاوي فكانت بدايات غنائه في المواليد ومواسم التعزية قبل ان ينتقل للعمل في بغداد التي استهوته حياتها الثقافية والفنية فاستقر فيها لفترة من شبابه قبل ان يساق للحرب ضمن ما يعرف بحملات الـ(سفر برلك) وهي كلمة تركية تعني النفير العام الذي فرضه العثمانيون في عام 1914، وجندوا بموجبه عشرات الآلاف من العراقيين الذين سفروا الى جبهة الحرب في جبال القفقاس لمواجهة الجيش الروسي  فقضوا جميعا بسبب البرد والجوع والغرق او الموت في تلك الحرب الهمجية الا العشرات وكان عبد الأمير طويرجاوي اذ عاد إلى العراق مشياً على الاقدام كاشفاً عن المعاملة المهينة والقاسية التي تعامل السلطات العثمانية التركية المجندين العراقيين بها برغم استخدامها لهم وقوداً في معاركها الاستعمارية الخاسرة. وقد اضطرته الظروف المادية القاسية التي واجهها بعد عودته الى العمل حمالاً في سوق الشورجة ببغداد ثم عاملاً في مقهى، مواصلا الاستماع إلى ما يذاع من اغان عراقية وشرقية ولا سيما المقامات التي حركت لديه موهبته الفنية العارمة والتي لم يستطع التعبير عن مضامينها المتعددة من قبل باستثناء بعض المساهمات العفوية في مدينته ولا سيما في المواليد ومجالس عاشوراء في بيت القزويني في الهندية عام 1915، ومثلت بدايات الكشف عن طاقاته الغنائية.

وتسلق طويرجاوي سلم الشهرة الغنائية بسرعة ادهشت الجميع، مما دفع شركات التسجيل الباحثة عن اصوات غنائية عراقية متميزة الى التسابق بالحاح سعيا الى التعاقد معه وخاصة شركة بيضافون، التي سجلت له اغلب اطوار الابوذيات الريفية العراقية مع الاغاني الشعبية الرائجة آنذاك. ولم يكن الأمر اعتيادياً ان يهتم موسيقار كبير مثل الراحل جميل بشير لموهبة هذا الفنان المقتدر، فسجل له ثلاث اسطوانات مع فرقته الموسيقية. ومع ان طويرجاوي عرف كمطرب ريفي إلا انه، حسب النقاد، قرأ المقامات العراقية باتقان بالغ كما ان اسلوبه الغنائي كان عراقي الاعماق حقاً رغم غلبة الخاصية الريفية غير البغدادية عليه. وكان أداؤه في المقاهي البغدادية المتخصصة بالمقام مثل مقهى المميز والبولونجية وغيرهما. واستدعته الإذاعة العراقية عند افتتاحها في 1/7/1936 وقدم أول حفلاته على الهواء. حكم على هذا الفنان بالاعدام شنقاً حتى الموت لاشتراكه في ثورة مايس 1941 باناشيد واغان ضد المحتلين الانكليز، لكنه تمكن من الاختفاء والاحتماء لدى محبيه الكثيرين من شعب العراق الأصيل. قرأ طويرجاوي كثيراً من الأطوار الغنائية. ومنها أطوار المثكَل والعياش والعنزي والصبي وغيرها بمزيج ريفي مقامي. تأثر بطريقته الراحل حسن داود وهو فنان غنائي اختص بغناء الصبي. وكان طويرجاوي شاعراً غنائياً ألف الكثير من اغانيه واعطى بعضاً منها لغيره من المطربين.

كتب له الكثير من شعراء الاغنية العراقية امثال الملا عبود الكرخي، والملا حنفي وعبد العباس الحلي، وملا سلمان الشكرجي، وجبوري النجار والملا فدعوس العفجاوي وغيرهم. ولقد كتب الكثير عن عبد الامير طويرجاوي. ومنح لقب أمير الغناء الريفي وشاعر الكلمة الغنائية، كما اعتبر بطلا من ابطال العراق الذي قاوم المحتل البريطاني، وقد عرف بصوته الساحر الذي يخترق الاسماع ويتغلغل الاعماق، وكان يعرف بلونه الغنائي العميق وابتكاره لطوره الخاص به والمشهور بطويرجاوي نسبة له

عبد الأمير طويرجاوي في اللباس الريفي القديم

وامتاز طويرجاوي بقابلياته الفريدة من نوعها فهو اولاً ابدع في اداء الالوان والاطوار الريفية وابتكر طريقته الخاصة به والمعروفة باسمه، كما أجاد قراءة المقام العراقي باصوله الموسيقية الدقيقة مع تغليب مسحة من الطابع الركباني الشجي عليه، وقد كان يجمع بين النمطين الكلاسيكي والريفي بمهارة نادرة الرقة. وعاصر طويرجاوي نخبة ممتازة من قدماء رواد الغناء الريفي وقراء المقام العراقي وتعرف عليهم أمثال احمد زيدان والملا عثمان الموصلي ونجم الشيخلي، رشيد القندرجي، وكذلك الاستاذ محمد القبانجي، وكان من تلاميذه المطربان الكبيران حسن خيوكة ويوسف عمر وقد غنى وقرأ المقام معهم في المقاهي البغدادية القديمة. وكان طويرجاوي شاعراً ألف الكثير من الاغاني، وتعرف على الكثير من الشعراء الذين بدورهم ألفوا له الكثير من الاغاني. ويمتلك المطرب طويرجاوي صوتا ساحرا وجميلا، قوي النبرات، يخترق الاسماع ويتغلغل في الاعماق ويهز المشاعر والعواطف. ويقال عنه في التاريخ بأن الشيخ خزعل أمير المحمرة دعاه للزيارة والغناء في المحمرة وأذهل المستمعين هناك من خلال الأطوار الغنائية التي أداها وخاصة مقام الدشت، ويقال بأن بعض المنافسين المحليين أرادوا قتله غيرة منه، ولكنه نجا من محاولة اغتيال بتدخل الشيخ خزعل نفسه.

وقد توفي الفنان والشاعر عبد الأمير طويرجاوي في مدينة الثورة ببغداد في السابع عشر من تموز عام 1970 . حيث مات هذا الامير في بيت تتمثل فيه كل معالم الفقر والحرمان.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *