
د. حسين الهنداوي
واثقة ومفعمة بالسكينة والفطرة والآفاق المفتوحة، هي الذات التي تحوم حولها بل تذود عنها قصائد مجموعة “لا أحد يأخذ الظلَ إلى بيته” للشاعر الكردي العراقي طيب جبار، المترجمة الى العربية والصادرة مؤخرا عن دار شهريار، حيث نجد هذا الشاعر المولود في كركوك، يتسامى بوعي لافت على اي نزوع ذاتي بالمعنى اليومي او الصاخب للكلمة. والذات، بمعنى حريتها وقدرها الوجودي خاصة، هي ما يتماهى معه بلا صخب ولا تواطئ، كل شيء في قصائد هذه المجموعة التي تضم قصائد مختارة من مجموعتين شعريتين صدرتا من قبل في بيروت هما: “ذات زمان…. الظلام كان أبيض” و”قصائد تلتفت إلى الأمام”، وتطرحان شعرا كرديا جديدا على مستوى الروح الداخلية وكذلك الانتماء الذي يبدو كونيا وانسانيا هنا، بعد ان كان في المجمل “منتميا” الى خصائص سياسية او ايديولوجية الا استثناءً. ولا بد من تثمين مستحق هنا لمهارة ترجمة متأنية وأنيقة للقصائد، قام بها الناقد عبدالله طاهر البرزنجي بعد ان كان قد اغنى المكتبة العربية بمختارات اخرى من قصائد طيب جبار ونصوص لبعض ابرز الشعراء الكرد المعاصرين قبلئذ. لا شكوى ولا أنين في قصائد طيب جبار، بل تماهيا مع الفطرة:
“انا عائد اليك
عائد الى سقيفة ومض القمر
اتصالح مع رنين الضباب
مع ظمأ المياه، مع جوع الارغفة”
ها نحن سلفا امام همّ حيوي بالنأي عن مجانية التوظيف والمباشرة يمور في كل قصائد هذا المجموعة. بيد ان ثمة جدلية داخلية تشبه صراع اضداد تسكنها على مستوى البناء والرموز دون ان تربك وحدتها الداخلية الا ظاهرياً، لتساهم احيانا في الصعود باللحظة الشعرية عن اليومي والمعتاد وحتى المتوقع، عبر منحها تمردا هو في واقعه تماهيا مع قدرية اللحظة اليومية ذاتها.. كما لو انها طريقته الخاصة في كسر كبرياء تلك القدرية.. وحتى تدجينها بكل ما يترتب عن ذلك من عزاء او بالاحرى إطراء للذات، ساخر وقدري هو ذاته، ولكل ما يتطلبه من توظيف جديد ليس للكلمات والبنى اللغوية انما للذاكرة والمخيلة ايضا.. وحتى لما في ألق الطفولة من صدى ومن حيرة وجود اولى:
الى الآن لا تلوح لي
ارض البداية
ولا سماء النهاية..
ارشق عتمة الليل بالحجر
عند هودج الظهيرة
ليمتلئ بيتي بالنجوم..
وتلك الحيرة بلا ظلال ثقيلة لدى هذا الشاعر بل ببهجة تكاد تكون ابدية:
أبقى الى آخر الليل
ألعب مع النجوم
ذات الشعر المسترسل
الطبيعة ايضا لا تمتلك دورا تقليديا او عفويا لديه رغم حضور حميم وكثيف لمكنوناتها في كل لحظات الذات وجهاتها:
أهب قلبي لشجرةٍ
تكنس ظلها..
وتنصح الريح ان لا تمتطي فرسها وتعدو خلف الليل
أهب قلبي لمطرٍ
يمسح رأس الارض في الفصول الاربعة..
أهب قلبي لنهر
لا ينقل غضب النبع ومكر الغيوم..
اهب قلبي لنغمة.. لا تصدأ
منتشرة في منعطفات السفوح والوديان
ومستقبلة دائما في السهول والهضاب
وهكذا، فكل شيء يبدو شخصيا وكونيا وقدريا في نفس الوقت في قصائد طيب جبار، عبر صوت متمرد وهادئ في آن، يخترق لغة متقصدة البراءة، ومقادة بمهارة مراوغة احيانا لشاعر لا يقف شيء امام توقه المدهش الى تهميش اليومي والايديولوجي والوظيفي.. كما لو ان لا شيء أهم وأجمل في هذا العالم الشعري القلق لكن الواثق من الانحياز، كل الانحياز، الى الشعر والى الحرية وبكلمة واحدة الى الذات بما فيها محمولاتها التراجيدية اذا اقتضى الامر، وبما فيها مستقبلها الانساني الكوني الأسمى خاصة:
سيحلّ يوم
لهيب الربيع
يلتهم المدن والقرى
الارض تغدو
بيتاً جميلاً
حديقة زاهية ملوّنة..
الناس
يسلكون درباً واحداً
وبلغة واحدة
وفم واحد
يتكلمون
سيحل يوم
أؤازرك وتغدو لي سندا
تتشابك ايدينا.. دون وجل
بعيدا عن الحزن والصخب
زاد سفرنا..
لا يكون غير الفرح
وكشجرة عائلة واحدة
جميعنا ودون ضغينة
نمضي الحياة.. في ضوء قنديل واحد..